غطرسةٌ لا تعرف حدًّا… فهل يمكن لقوةٍ تنقض العهود وتحتكم للسلاح وحده أن تصنع بقاءً أو تُؤمِّن مستقبلًا؟
ما يجري اليوم ليس حادثةً عابرة ولا تصعيدًا معزولًا، بل حلقةٌ مكشوفة في سلوكٍ متجذر، يكشف طبيعة صراعٍ يتجاوز الميدان العسكري إلى الجذور العقدية والتاريخية. وحين تسقط الأقنعة، تتضح القوانين التي تحكم الصراع، وتنكشف الأوهام التي رُوِّج لها طويلًا باسم التعايش والسلام.
ثنائية القتل أو الاستسلام: وجه العدو الحقيقي
يحاصر العدو الصهيوني ثلةً كريمةً من خيرة المجاهدين في رفح، والذين لا زالوا محبوسين في الأنفاق منقطعين عن العالم يعانون الجوع والعطش وتَتَبُّعَ العدو لهم، ولم يقبل العدو بوساطةِ أحدٍ لإخراجهم عقب اتفاق وقف النار، وحصرهم بين ثنائية القتل أو الاستسلام، وحين خرج بالأمس عددٌ منهم وقاموا بالاشتباك مع جنود العدو وأصابوا عددًا منهم عد العدو ذلك خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار وأخذ في جولةِ استهدافاتٍ داخل القطاع.
إنَّ هذا العدو يتبرأ من كلِّ دين ومن كلِّ خلقٍ نبيل ومن كلِّ مروءة، بل ويتبرأ من الفطرة ويجعل المدار على القوة المادية الصلبة، وهذه لا تدوم لأحد.
الديانة الإبراهيمية ومشروع الترويض
إنَّ كلمةَ السر في نجاة هذا الكيان وطول عمره ونجاح مشروعه الاستيطاني في قلب العالم العربي والعالم الإسلامي مع ما يسيطر عليه من بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى أن يتمكن عبر الملاينة والإحسان من التعايش مع أبناء المنطقة وصولًا إلى الاندماج الاجتماعي، وهو الطموح الذي تعمل عليه الولايات المتحدة من أمدٍ طويل، وهو الهدف الذي تدور عليه الديانة الإبراهيمية، ليكون التعايش عبر بوابة اللين والإحسان سبيلًا لتهدئة ما في النفوس وإمكان العبث بمقررات العقيدة والشريعة في بيان خارطة الأعداء وكيفية التعامل معهم.
التمدد علامة انكماش
إلا أن العدو الصهيوني يستعدي الأمة بكامل صور الاستعداء، بل ويسعى قادة الكيان إلى التمدد الجغرافي ضمن مشروع إسرائيل الكبرى الذي لا يجزمون بحدوده ولكن تفسيره يخضع للقدرة والإمكان بحسب موازين القوة، وهذا التمدد هو من أرض الدول المحيطة بالكيان والقريبة منه كمصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وتركيا والسعودية.
وهذا التمدد علامة انكماش؛ لأنه تحولٌ من سطوة النفوذ التي يمتلكها العدو إزاء أكثر الجغرافية المذكورة إلى السيطرة المادية المباشرة، وهو ما يعني الدخول في حالة عداءٍ ومدافعةٍ شديدةٍ مع شعوب المنطقة، والمدار في هذا عنده هو على القوة المادية الصلبة لا غير، وهذه لا تدوم لأحد، والواقع الاستراتيجي العالمي لا يسير في صالحه.
ومن هنا فإنَّ الغطرسة التي يبديها العدو تُقَصِّرُ عُمر كيانه ولا تطيله، وتدل على فرط غبائه، وإن الضرب في كل اتجاه وفي كل منطقةٍ وإن أشعر بفرط القوة والثقة بالنفس وأمكن من تسجيل بعض الإنجازات في الحال إلا أنه انحسار في المآل مع ما يدل عليه من شدة خوف الكيان وشعوره بأنه جسمٌ شاذٌّ غريب عن هذه المنطقة، ولهذا يثبت أقدامه بالقوة الصلبة، وهو ما يجعل إمكانية نجاح الولايات المتحدة في دمجه في المنطقة أمرًا قد ولى وانتهى.
أربع حقائق ربانية عن طبيعة اليهود تشرح واقعنا وتقطع أوهام الرضى
إن الله تعالى أكرمنا كرمًا كبيرًا إذ أخبرنا في القرآن الكريم عن طبيعة اليهود وتاريخهم وأفعالهم وطرائقهم لنحسن التعامل معهم بحسب ذلك، ومن ذلك هذه الحقائق الأربع:
الأولى: حين تناول الجزء الأول من القرآن فضائح بني إسرائيل لنعلم العوامل التي تسببت في نزع الإمامة منهم، ولنعلم أنَّ معركتنا الكبرى هي مع اليهود وكذلك مع النصارى كما أتى تفصيلًا في سورة آل عمران والمائدة وغيرهما وإجمالًا في سورة الفاتحة.
الثانية: حين أخبرتنا سورة البقرة بخلاصةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ لا يمكن أن يُطَّلع عليها إلا بخبرٍ من الوحي أو من تجارب تاريخية طويلة وهي أن اليهود والنصارى لا يمكن أن يرضوا عن أحدٍ إلا بأن ينسلخ من دينه ويدخل في دينهم وملتهم كما قال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
وهذا يقطع باب التنازل عن شيءٍ من الدين بتوهم أن العدو يرضى، ويقطع باب النجاح في التطبيع حتى على الصعيد الدنيوي من مثل العلاقات التجارية وغيرها، فطبيعة الكيان الصهيوني لا تقبل من الخصم إلا أن يصبح جزءًا عضويًّا منه، ومع ذلك فمن دخل فيهم فإنه لا يماثلهم من كلِّ وجه، ومن ذلك الطريقة التي يعاملون بها عملاءهم سواء كانوا جماعات أو أفرادًا، فيأخذون ما يريدون منهم ويصرحون بنبذهم وتركهم.
وجملة هذه المعطيات تفضي إلى أنَّ الثباتَ في منازلة العدو فوق أنه أمر الشرع فإنه خطاب العقل.
الثالثة: حين أخبرتنا سورة النساء أنهم يجمعون بين البخل والحسد وذلك في قوله سبحانه: {أَمۡ لَهُمۡ نَصِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذࣰا لَّا یُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِیرًا ٥٣ أَمۡ یَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ..} [النساء: 53، 54].
فالنقير الذي هو النكتة التي تكون في ظهر النواة ويضرب به المثل في القلة والحقارة فإنهم لا يعطونه لأحد، ولهذا يتشددون عادةً في أشياء لا تقدم ولا تؤخر كالتشدد في عدد الشاحنات التي تدخل من المعبر من غير أن ينبني على ذلك شيءٌ في الواقع، ثم إنهم يتألمون إذا نزل بالناس شيءٌ من الخير ويتمنون زواله ولو كان عندهم القناطير ولو لم يكونوا هم الذين تسببوا فيه، فلا تحتمل نفوسهم أن يمن الله على أحدٍ من عباده بشيءٍ من الفضل ولو قل.
ولهذا يمكن أن يحاصروك وتجوع دهرًا فلو رزقك الله بشيءٍ ولو كان فُتاتًا فإنهم يحسدونك عليه ويتمنون زواله، ويمكن أن يفتكوا بك أشد الفتك ثم لو قام أحد يندد بهم وينتصر للمظلومين فتقوم الدنيا عندهم وتقعد ويتكلمون بأغلظ القول، وهم قومٌ يبالغون في الفصل بين السياسة والأخلاق.
الرابعة: حين أخبرتنا سورة الإسراء أن بني إسرائيل يجمعون في بعض المحطات بين الإفساد والعلو الكبير، والذي نراه اليوم غايةٌ في الفساد والإفساد وغايةٌ في العلو الكبير، وهو ما يجعلنا أكثر سكينة واتزانًا حين نرى ما يصنعونه بنا من صور الإفساد في الأرض والإفراط في القتل.
الاصطفاء الرباني وسقوط الغطرسة
ومن هنا فإنَّ من جلائل النعم أن الله تعالى اصطفى أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ومنها غزة لمقاتلة هذا الكيان.
ولهذا ولما تقرر من غطرستهم ودور الغطرسة في تقصير عمر كيانهم المسخ فليس من العجب أن تكون آيات سورة الإسراء التي تخبرنا بفسادهم وعلوهم الكبير أنها هي نفسها التي تخبرنا بنهايتهم؛ وذلك لأن الأمم تحفظ بالعدل لا بالظلم، وتدوم بالخير لا بالشر، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر
الشيخ محمد بن محمد الأسطل.

