نحو استعادة مركزية القرآن الكريم

“الطوفان” هيأ الأرضية. حتى من كانوا يقاومون أي مشروع يرتكز على القرآن أصبحوا يبحثون عنه. حدث تحول هائل في الوعي الإسلامي. هذه أفضل لحظة وفرصة تاريخية للإسلام منذ 120 سنة لبناء مشروع مركزية القرآن. إذا لم نلتقطها، قد لا تأتي فرصة أخرى قريباً. يجب أن يكون بناء هذا الوعي القرآني هو الهم الأول والأساس.

تعريف مركزية القرآن: الاقومية والشمولية

ماذا نعني بمركزية القرآن؟ مركزية القرآن، باختصار، تعني أن يكون القرآن هو المصدر الأول والأعلى في صناعة الوعي والمعرفة تجاه عالمي الغيب والشهادة. يُفضل البعض مصطلح “الأقومية” بدلاً من “المركزية”، لأن الأقومية هي المصطلح القرآني: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”. ومع ذلك، نلتزم بمصطلح المركزية لشيوعه، مع إعادة تعريفه بما يتناسب مع فكرة الأقومية القرآنية.

المركزية تعني أن القرآن هو المصدر الأول ابتداءً والأعلى انتهاءً. يجب أن تؤسس جميع فروع المعرفة الإنسانية، بجميع مستوياتها وتصوراتها (الوجودية، القيمية، المفاهيمية، المصطلحية)، وفقاً لركائز القرآن وأسسه. عندما تريد الأمة الإسلامية تأسيس أي فرع معرفي، يجب أن يكون السؤال الأول: **ما موقف القرآن من ذلك؟**. قبل تأسيس نظام سياسي أو تربوي أو اقتصادي، يجب الانطلاق من التصور القرآني. هذا هو بداية المركزية القرآنية: الانطلاق من القرآن أولاً.

شرطان لتحقيق المركزية: التدبر والتفكر

لا يمكن أن تتحقق مركزية القرآن إلا بشرطين أساسيين: **عنصر التدبر وعنصر التفكر**. التدبر هو التأمل في كلام الله، ويأتي دائماً مرتبطاً بالقرآن (“أفلا يتدبرون القرآن”). التفكر هو التأمل في خلق الله، ويأتي دائماً مرتبطاً بالكون والحياة، ولا يأتي مع القرآن في السياق القرآني. التدبر ينشئ المعرفة القرآنية، والتفكر ينشئ المعرفة الإنسانية. وبمجموع الأمرين تتحقق المركزية.

لكننا أهملنا التدبر لصالح التقليد، وأهملنا التفكر لصالح تقليد الغرب. فصرنا بلا تدبر ولا تفكر. كيف يمكن للمركزية القرآنية أن تتحقق إذا كان الوعي بالقرآن غائباً؟. لا يمكن أن تكون واعياً بالقرآن إلا بالتدبر، وبالتفكر أيضاً. التفكر في موضوعات الحياة يعين على فهم القرآن. العقل الخامل الذي لا يتفاعل مع قضايا الواقع لا يمكنه فهم القرآن، حتى لو تدبره طويلاً. القرآن كتاب متفاعل مع الواقع. جاء القرآن لإصلاح الواقع، “ليقوم الناس بالقسط”. إذا كنت غير متفاعل مع الواقع، كيف ستفهم مراد القرآن في إصلاح الواقع؟ لا يمكن الفهم إلا بحالة التفاعل مع قضايا الحياة.

المركزية لا تعني النفي، بل الإخضاع

عندما نقول “مركزية القرآن”، يظن البعض أننا نقتصر على القرآن فقط. وهذا غير صحيح. مركزية القرآن لا تنفي ما سواه، ولكنها **ترد ما سواه إليه، وتجعل له الأقومية والحاكمية على ما سواه**. لا تعني نفي حجية السنة، ولا اعتبار أقوال العلماء، ولا اعتبار الإنتاج الفكري الإنساني السليم. لكن السؤال هو: **من هو المركز؟ من هو المنطلق الذي ننطلق منه جميعاً في فهم ما سوى؟** إنه القرآن. هذه نقطة مهمة جداً.

ليس لدينا خيار في اللجوء إلى مشروع آخر غير مشروع مركزية القرآن. القرآن أخبرنا أنه هو الكتاب الأقوم. والأقومية تعني أن كل فكرة قرآنية هي الأقوم. القرآن لا يقدم نفسه كفكرة قوية، بل كالفكرة الأقوم. هو ليس صحيحاً، بل الأصح؛ ليس سليماً، بل الأسلم؛ ليس حسناً، بل الأحسن. إذا لم نؤمن بهذا، لا يمكن أن نستعيد مركزية القرآن. لا يمكن استعادة المركزية إذا كنا نتخيل أن هناك من ينافس القرآن من الأيديولوجيات والمذاهب.

نحن نعاني اليوم من مشكلة انفصام بين الإيمان النظري بالقرآن والتطبيق العملي. نقرأ قوله تعالى: “يهدي للتي هي أقوم”، لكن عند التطبيق في السياسة مثلاً، يُقال: لا تُدخل القرآن في السياسة. حتى في كليات الشريعة اليوم، أصبح القرآن مجرد خيار من خيارات التخصص. لا، **القرآن ليس خياراً من الخيارات، القرآن هو الخيار الأمثل والأفضل**. يجب أن نتأسس قرآنياً جميعاً، ثم نتخصص بعد ذلك. من غير المعقول أن يهتم بالقرآن نسبة قليلة جداً من طلاب الشريعة. والسائد اليوم أن الاهتمام ينصب على كتب المفسرين أكثر من كلام الله مباشرة. لا يُعطى القرآن حقه من النظر المباشر.

إذا كان المسلمون لديهم مركزية القرآن حقاً، فأين نجدها؟. في الجامعات الإسلامية؟ في أقسام العلاقات الدولية، علم الاجتماع، علم النفس، التربية، الاقتصاد، الإدارة؟. حتى في الشريعة نفسها، هل ننطلق في تدريس السياسة مثلاً من مركزية القرآن؟. لا، المادة التي تتكلم عن الإسلام في هذه المجالات، تنظر إليه كظاهرة من الظواهر، لا كمصدر استهداء. إما أن ننظر إلى الإسلام كظاهرة، أو مصدر هداية. وبما أنني أؤمن بقوله تعالى: “يهدي للتي هي أقوم”، فيجب أن يتحقق ذلك. أي مسار آخر غير مسار مركزية القرآن ليس هو الأقوم. إنه المسار الوحيد الذي يستنير بنور الله. الكون كله يسير بنور الله، والإنسان بإرادته الحرة يتصل بهذا النور الكلي من خلال النور الذي أنزل الله وهو القرآن. “ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور”. **مركزية القرآن ليست خياراً، بل هي المسار الوحيد** الذي يجب أن ننطلق منه لاستعادة مركزية القرآن وبناء المعرفة الإنسانية وفقاً لها.

تحديات تواجه مشروع المركزية: العولمة والأسلمة

يواجه مشروع مركزية القرآن تحديات عديدة.

التحدي الأول هو **العولمة**.

العولمة أدت إلى أستاذية الغرب على بقية العالم. ليس هناك شيء أصبح عالمياً بالمعنى الحقيقي إلا الفكر الغربي. هذه الأستاذية أدت إلى إذابة أصالة الأمم الأخرى لصالح النموذج الغربي. ما يهمنا في العولمة هو أنها أدت إلى **قولبة العقل الإسلامي**. القولبة تعني استيعاب إبداع الأمم الأخرى لصالح النموذج الغربي. يطلب من العقل الإسلامي أن يبدع وينتج، لكن ضمن القالب الخارجي الذي يحدده الغرب. مثال: يمكن إنتاج نظام سياسي إسلامي، لكن يجب أن يكون ضمن القالب السياسي البرجماتي الغربي الديمقراطي بمؤسساته ومعاييره. ونفس الشيء ينطبق على الاقتصاد (ضمن القالب الرأسمالي ومؤسساته) والعلوم الاجتماعية (ضمن قوالب العلوم الاجتماعية التقليدية). هذه القولبة خدعت العقل الإسلامي؛ أرضته بالشكل وسرقت منه المضمون. مشروع مركزية القرآن يقتضي **تحطيم القوالب**. لا نتحرك وفقاً للقالب الذي أنشأه الآخرون وفق تصوراتهم واحتياجاتهم التي قد لا تتناسب معنا. يجب أن ننشئ قوالبنا الخاصة، ثم نملأها بالمعرفة التي تنسجم مع مركزية القرآن. لا يمكن لمركزية القرآن أن تجتمع مع القولبة.

التحدي الآخر هو **مشروع الأسلمة**.

ظهر مشروع الأسلمة كردة فعل طبيعية على التراث الأجنبي. لكنه وقع في ثلاثة إشكالات أساسية.

الإشكال الأول: أنه لم يفرق بين **ما يقبل النقد وما يقبل الأسلمة** 

من الجيد نقد الحداثة أو الليبرالية أو الماركسية، لكن ليس من الجيد محاولة أسلمتها. حصل خلط كبير في هذا.

الإشكال الثاني: أنه **غيب العقل الإسلامي**. حوله من عقل منتج إلى مجرد عقل ناقد. أصبحت وظيفة الباحث المسلم نقد المعرفة الغربية. صار منشغلاً بنقد الآخر، ونسي فكرة الإنتاج الأصيل. أدى ذلك إلى ضمور في علاقة الباحث المسلم بالوحي. نقلتنا الأسلمة إلى ملعب الغرب، وأصبح اشتباكنا معه أكثر من أي شيء آخر.

الإشكال الثالث: هو **التلفيق**

أصبح العقل الإسلامي ملزماً بالتلفيق ليُظهر نفسه عصرياً. ومفهوم العصرنة هنا يعني تفصيل الإسلام على مقاس متطلبات العصر الحاضر، لا استخدام الوحي لإصلاح الواقع . منذ بداية القرن العشرين، انشغل العقل الإسلامي بكيفية انسجام الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي. وبعد الحرب العالمية الثانية، انقسم المسلمون إلى من يحاول التلائم مع الفكر الليبرالي ومن يتلائم مع الماركسي. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، زاد التلائم مع الفكر الليبرالي. وبعد أحداث 11 سبتمبر، أصبحنا نفصل الإسلام بشكل أكبر على مقاس ما يُعرف بـ”الإسلام الأمريكي”. أصبحنا في فترة نعيش فيها على مناص الإسلام الأمريكي.

**”طوفان الأقصى” والفرصة التاريخية**

أعتقد أن **”طوفان الأقصى” مرحلة فاصلة جداً لوعي الإسلام**. إنه يغلق كتاب العصر الذي مررنا به، ويوجد أرضية مختلفة للوعي الإسلامي. أصبح من السهل اليوم مخاطبة العقل الإسلامي بمركزية القرآن. قبل ثلاث سنوات كان ذلك صعباً. العولمة تلقت ضربة اقتصادية وسياسية مع الحرب الروسية الأوكرانية، ثم ضربة ثقافية مع “الطوفان” الذي أنهى العولمة الثقافية. ثم أنهى ترامب العولمة على مستواها السياسي. لم يعد للعولمة قيمة كبيرة.

“الطوفان” هيأ الأرضية. حتى من كانوا يقاومون أي مشروع يرتكز على القرآن أصبحوا يبحثون عنه. حدث تحول هائل في الوعي الإسلامي. هذه أفضل لحظة وفرصة تاريخية للإسلام منذ 120 سنة لبناء مشروع مركزية القرآن. إذا لم نلتقطها، قد لا تأتي فرصة أخرى قريباً. يجب أن يكون بناء هذا الوعي القرآني هو الهم الأول والأساس.

من الشعار إلى النموذج المعرفي

مركزية القرآن كشعار عاطفي فقط لن يُجدي . يجب أن يتحول إلى **شعار معرفي**. هذا يعني أننا بحاجة إلى **إنتاج نماذج معرفية** في جميع الحقول والمجالات ترتكز على مركزية القرآن. ما هو النموذج السياسي الإسلامي المرتكز على المركزية؟ ما هو النموذج الاقتصادي؟ يجب أن ننتجها.

يجب أيضاً أن ننتج ما يمكن تسميته **”فقه القرآن”**. وهو موقف القرآن من موضوعات الحياة. هذا المجال شبه مهمل في الأدبيات الإسلامية. القرآن يتكلم عن قضايا حياتية كثيرة: كيف يبني الإنسان طموحه الحقيقي ويتجنب المزيف؟ فقه الصداقة، كيف نبنيها وكيف ننهيها؟ فقه الاعتذار والمواجهة، متى نعتذر ومتى نواجه؟ كيف نتعامل مع أخطائنا؟. كل هذه موضوعات حياة لا تُدرس من منظور قرآني.

إذن، مركزية القرآن ليست فقط إنتاج نماذج معرفية (وهذا المسار قد بدأ)، بل أيضاً إنتاج فقه القرآن، أي المنظور القرآني لموضوعات الحياة ليستفيد منها الجميع. هناك مسار بدأ لتأسيس نماذج تربوية قرآنية من الابتدائي إلى نهاية الجامعة.

كل من لديه فكرة أو مشروع يسهم في تعزيز مركزية القرآن في الوعي الإسلامي المعاصر، فليتواصل وليشارك. لا تبخلوا ولا تترددوا في التعاون على البر والتقوى، وأعظم أنواع البر والتقوى هو التعاون على القرآن.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

المصدر

كلمة د.نايف بن نهار ، في ملتقى “نحو استعادة مركزية القرآن الكريم في بناء المعرفة ” الذي نظمته مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث .. صفحة د.نايف بن نهار على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

المفاهيم القرآنية سبيل لنهضة الأمة

الخطاب القرآني .. والدليل العقلى

هيا إلى القرآن!

التعليقات غير متاحة