قد يسأل سائل: هل تعطلت فاعلية الآيات والسنن الإلهية في هذه المعركة؟ وأين سنة الله في نصرة المظلوم؟ وأين سنته في الانتقام من الظالم؟

فالجواب بالقطع: كلا؛ لم تتخلف سنة الله ولا فاعلية الآيات، بل إن الآيات فاعلةٌ على بابها، والسنن الإلهية ماضيةٌ على بابها دون أن تختلف، بل إنها لتكاد تُحَسُّ وتُرَى وتتشخص ماثلةً كأن لها أقدامًا تمشي بها على الأرض.

التعامل مع فقه السنن

ولكن من الإشكاليات في التعامل مع هذا الأمر عدم التيقظ لأمرين من جملة أمورٍ لا بد من استحضارها في التعامل مع فقه السنن:

الأول: إغفال العامل الزمني

فالذي يقرأ منا أخبار الأقوام وأصحاب التجارب سواء كانوا من الأمم السابقة أو من المتقدمين أو من المعاصرين لا ينتبه للزمن؛ لأنه ليس جزءًا منه، فالمشاعر باردة، ويمكن أن تقرأ في بعض السور خبر نشأة قوم وهلاكهم في أسطر معدودة، وإن كانوا حضارةً ممتدةً، فالنظر دائمًا مسلطٌ على الخواتيم.

فمثلًا: روى ابن عساكر بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: “كلمتان قالهما فرعون: ﴿مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلَه غَيْري﴾، إلى قوله: ﴿أَنَا رَبّكُمُ الْأَعْلَى﴾ كان بينهما أربعون عامًا، فأخذه الله بنكال الآخرة والأولى“.

وهذا الحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله، وبغض النظر عن عدد السنوات بالتحديد إلا أن هناك مدةً طويلة بينهما، أو على الأقل فإن المدة التي قضاها موسى عليه السلام في دعوة فرعون وما تخلل ذلك من أحداث كانت طويلة، لكن الآيات تطوي ذلك.

لماذا لم تنتصر طالبان خلال أشهر؟

والموقف الذي ذكرته في مطلع الجواب نقلًا عن الملا عبد السلام ضعيف -وفقه الله- من حضور الأسئلة العقدية لدى الناس لما حصلت هزيمة طالبان سنة 2001 لم يكن من شأننا التفاعل معه يومئذٍ ولو كنا متابعين للحدث ومهتمين به؛ لأنه ببساطةٍ لسنا جزءًا من المشهد، فالغلبة في قراءة المشهد للخارج عنه إنما هي للعقول لا للمشاعر.

ولو قيل لأحدنا يومها: لماذا لم تنتصر طالبان خلال أشهر؟ ربما قال: وهل الحروب مع الدول الكبرى نزهة! لا بد من الصبر، وإن الله عدلٌ وقد وعد بالنصر ولن يخلف الله وعده، وربما قال في الجواب: وهذا هو النبي ﷺ قد عانى التكذيب والتعذيب هو وأصحابه ثلاث عشرة سنة بمكة، وكان الله قادرًا أن ينصره من أول يوم لكنها سنة الله.

وحين انتصرت طالبان سنة 2021، واستطاعت أن تُخرِجَ الولايات المتحدة الأمريكية حاكمة هذا العصر وهي ذليلة تفر بعد أن زادت تكلفة بقائها عن المصالح التي تُحَصِّلُها فرح المسلمون بنصر الله المبين، وقالوا: لقد صدق الله وعده، وبدأوا يتداولون كلمة للملا محمد عمر يقول فيها: “إن أمريكا وعدتنا بالهزيمة والله وعدنا بالنصر فسننظر أي الوعدين ينجز أولًا”!

لكل معركةٍ ظروفُهَا وحساباتُها

فحين يكتمل المشهد تصبح الآيات أكثر اتضاحًا، ولكن من يعيش داخل فرن البلاء يكون يومه كأنه سنة، فلا يحسن أن يقرأ الآيات إلا أن تنتهي فينظر إليها وشفتاه تسبحان بحمد الله.

وإني لا أذكر هذا لأسقِط ما حصل في الساحة الأفغانية على ما يجري الآن في الساحة الفلسطينية من أن المعركة ستمكث عشرين سنة!

كلا؛ فلكل معركةٍ ظروفُهَا وحساباتُها، ولكن المعركة التي نحن فيها حصل فيها مواجهة للنظام العالمي بأدواته فإن العاقبة فيها وإن كانت ستكون للمتقين قطعًا بإذن الله ولكن كيف يمكن أن تكون المعركة نزهةً؟!

عناية القرآن بتفاصيل المدافعة بين المسلمين وبين كفرة بني إسرائيل

ومن العجيب فيما يتعلق بفقه السنن في خصوص معركتنا مع العدو أنه لم يقف عند حدود السنن الإلهية العامة؛ بل جاءت كثيرٌ من النصوص تنزل إلى مستوى التفاصيل فيما يتعلق بالمدافعة بين المسلمين وبين كفرة بني إسرائيل في نطاق هذه الأمة خاصة، من مثل:

أن علو بني إسرائيل سيكون كبيرًا كما في قوله سبحانه: ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 4].

وأنهم سيجتمعون في فلسطين بعد أن كانوا مشتتين طيلة التاريخ الإسلامي كما قال سبحانه: ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: 104].

وأن إمدادهم سيكون من خارج على مستوى الأموال والجنود والإعلام كما قال سبحانه: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: 6]، ولعل الإعلام داخلٌ في النفير كما ذكر الشيخ الشعراوي رحمه الله، ووجهه -كما يقول-: أن النفير هو الصوت العالي الذي يجذب الانتباه، ونحن نرى الآن أن إسرائيل تسيطر على وسائل الإعلام والدعاية في العالم، وأن صوتها عالٍ ومسموع.

وأنهم سيُكثِرُون من الجُدُر والتحصينات كما قال سبحانه: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر: 14].

واعتمادهم على الدبابات لا يخرج عن هذه العقلية؛ فإنها كالقرية الصغيرة المحصنة، ومثل ذلك ما نراه من كمية الجدر الفاصلة في الضفة والسواتر الإسمنتية والرملية حول المواقع والمناطق السكنية.

ثم إن الله أخبرنا أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب، فأخاطب ابن هذا البلد أقول له:

هل خطر ببالك يومًا أنك من القوم الذين يُسلَّطون على اليهود وسمع بهم الصحابة وما زالوا يتقلبون في أصلاب الرجال حتى شهدتهم أو كنت واحدًا منهم؟ صدق الله إذ يقول: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [الأعراف: ١٦٧].

العامل الثاني: تداخل السنن

وهذه قضيةٌ ممتدةٌ لا تكفيها هذه الإشارة، ولكني أكتفي بالقول: إنَّ جملةَ السنن تسير معًا من غير تنافر، فثمة تكامل بينها.

ففي يوم أحدٍ مثلًا انتصر المسلمون أول الأمر جريًا على سنة الله في نصرة المؤمنين متى كانوا على أهلية وأخذوا بالأسباب، ثم حصلت الوعكة العسكرية لما حصلت المخالفة، فالمعركة واحدة لكن كل سنةٍ صارت في مسارها.

وفي اتجاهٍ ثالثٍ كان بعض الصحابة قد ألحوا على الله في الشهادة، وكان من تقدير الله في حصول المخالفة والخطأ أن يُصطفى هؤلاء شهداء، فجاءت المخالفة بما أنتجته من واقعٍ عسكريٍّ جديدٍ تضع الأسباب التي يُصطفى في سياقها هذا المقدار الكبير من العدد.

وفي اتجاه رابعٍ كانت الجولة يوم بدر للمسلمين ويوم أحد للكافرين، فحصلت سنة التداول كما قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140].

إلى غير ذلك من جوانب التداخل.

وفي هذه المعركة -أعني طوفان الأقصى- كثيرة هي السنن التي حصلت ليخرج مشهدٌ متكاملٌ تنتظم فيه عامة السنن الإلهية من غير أن تتنافر.

ومن أعجب ذلك أنَّ الحفلَ الموسيقي الذي داهمه المجاهدون في عملية السابع من أكتوبر كان متعلقًا بالمثليين، فسلط الله المجاهدين عليهم من غير تخطيطٍ مسبق من المجاهدين، وتعلم ما الذي حصل لقوم لوطٍ لما بدلوا فطرة الله.

ومن رسالة هذه المعاني: أنَّ دراسةَ الحقائق القرآنية لا تتجلى على وجه التمام إلا في الميدان، وهو ما حظي به الصحابة رضي الله عنهم الذين عاينوا التنزيل ورأوا الآيات ماثلةً أمامهم فكانوا فقهاء الدنيا.

إنَّ حقائقَ هذا الدين لا يكفي فيها أن تؤخذ من الكتب، بل ولا حتى من أفواه العلماء؛ لأن هذا الدين نزل ليكون فاعلًا في الحياة، فإذا اشتبك النص بالواقع استطاع أن يفهمه الناظر بما لم يكن يفهمه من قبل، مع أن النص واضحٌ أمامه وربما كان يحفظه ويرتله.

القرآن لا تتفتق معانيه إلا لمن يعانيه

وقد ذكرت عند الحديث عن ثمار المعركة أني لم أكن أعي جيدًا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ [الأحزاب: 10] مع أني كنت قد قرأت تفسيرها من قبل، فلما جاءت المعركة في أيام شدتها الأولى صار الذهن معتقلًا لها لا يكاد يفكر في غيرها قط، وكثيرًا ما كان يحصل السهو في الصلاة في معرفة عدد الركعات أو السجدات، وليس هذا عن غفلةٍ وسرحان؛ إنما كان يأتي مع شدة التفكر فيما أنت فيه من آيات.

ولما قرأت تفسير الآية من جديد وأنا في المعركة وأن تفسيرها هو أن الأبصار زاغت عن كل شيء إلا عن المعركة.. فهمتها فهمًا عميقًا؛ لأنها كانت تُوصِّفُ الحالَ الذي كنت عليه!

وفي نفس الآية جاء الختام بقوله سبحانه: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10]، ويعلم الله أني كنت مع قراءتي لتفسيرها يحوك في صدري شيءٌ إزاء الآية، وأقول: كيف يمكن أن يظن المؤمن بالله الظنون؟!

وجاءت المعركة وكانت تأتي لحظات من التوجس والخوف حتى إنك لتأخذ في الصلاة والسجود لتخرج مما أنت فيه، ثم تأتي لحظات تكون فيها في غاية السكينة مع ضخامة الأحداث التي تأتي لحظتها، فقرأت في تفسير الآية: مرة تظنون النصر ومرة تظنون اليأس، فشعرت من جديدٍ أن الآية ليست إلا عملية توصيف لما نحن فيه.

وصدق الإمام الجصاص حين قال: “القرآن لا تتفتق معانيه إلا لمن يعانيه“.

وبقي قوله بين الجملتين: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: 10] لا يتجلى لي معناه على وجهه، وإن كان ظاهرًا أنَّ المعنى: أن القلوب من شدة الخوف لكأنها انتقلت مكان الحناجر.

وقبل مدة ليست بالبعيدة كان أحد المجاهدين يحدثني عما جرى لهم عند مواجهة جنود العدو، ويذكر مواطن الخوف ومواطن السكينة، وإذ به يقول أثناء حديثه في إحدى محطات الخوف: في هذا الموقف خرج قلبي من مكانه وصار في حنجرتي ووضع أصبعه على مكان الحنجرة!

المصدر

مجلة أنصا النبي ﷺ ، الشيخ محمد بن محمد الأسطل–من علماء غزة.

اقرأ أيضا

غزة الصابرة والسنن الإلهية

لا تقولوا لماذا تأخر النصر عن غزة؟

لمن يسأل: أينَ الله؟ ولماذا لا ينتقمُ لغزَّة؟!

لماذا نحتاج أن ندافع عن غزة؟ وكيف نتخلص من العجز؟

التعليقات غير متاحة