“بيتنا ليس كبيت العنكبوت بل هو من فولاذ…لقد قتلنا نصر الله ولن يعود ليقول إننا كبيت العنكبوت”. نتنياهو
“إسرائيل” أوهن من ببيت العنكبوت
في عالم السياسة كثيراً ما يكون النفي إثباتاً، وفي التراث حكمة تقول “ما ادّعى أحد قط إلا لخلوه من الحقائق، ولو تحقق في شيء لنطقت عنه الحقيقة، وأغنته عن الدعوى”. وبلغةٍ مباشرة فلولا انزعاج نتنياهو من وصف “إسرائيل” ببيت العنكبوت لما أدلى بتصريحه المذكور. فلقد أوضح نتنياهو نفسه في مذكراته أنه خلال انخراطه في دورة للغوص في قاعدة “عتليت” خلال فترة خدمته بالجيش، لاحظ وقوع المكان بالقرب من أنقاض القلعة الأخيرة التي أخلاها الصليبيون عندما غادروا فلسطين نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، فخطر بباله احتمال تعرض “إسرائيل” لمصيرٍ مشابهٍ للصليبيين الذين استقروا في المنطقة لمدة قرنين. لم يفارق هذا الاحتمال عقله فدوّن الواقعة بعد خمسين سنة من حدوثها ونشرها في مذكراته.
الشعور بالتهديد الوجودي لإسرائيل
إنّ الشعور بالتهديد الوجودي لإسرائيل، لم يقتصر على نتنياهو، إنما شغل مراكز الدراسات ودوائر الأمن، فاهتم الاحتلال بدراسة التطورات التي يمكن أن تهدّد بقاء “إسرائيل”. ونشر “معهد دراسات الأمن القومي” الذي يُعدّ جوهرة تاج مراكز الدراسات الإسرائيلية، وتعمل به صفوة الأكاديميين والأمنيين والعسكريين المتقاعدين في كيان الاحتلال، كتاباً جماعياً بعنوان “سيناريوهات التهديد الوجودي لدولة إسرائيل” ضمن مشروعٍ بحثي استغرق العمل عليه عامين (2018 – 2020).
السيناريوهات الخمس للتهديد الوجودي
بدأ الكتاب بالإشارة إلى أنّ التهديد الوجودي قد يكون حقيقياً أو متخيلاً، ورسم له ثلاثة مسارات: فهو إما تهديد عسكريّ يعرّض بقاء الدولة للخطر على المستوى المادي، ويهدّد بفقدانها للسيطرة على مؤسساتها وسكانها ومواردها؛ وإما تهديدٌ ديموغرافي يُهدّد بفقدان “إسرائيل” لهويّتها كدولةٍ قوميّةٍ لليهود في حال تحوّلهم إلى أقلية بين السكان؛ وإما تهديد سياسيّ عبر فقدان “إسرائيل” لشرعيتها دوليّاً.
ورغم خطورة التهديد العسكري، إلا أنّ الكتاب يشير إلى أنّ غالبية الدول التي اختفت من الخريطة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا تلاشت بسبب التوتر العرقي الداخلي، وليس بسبب سحقها عسكرياً.
السيناريوهات الخمس للتهديد الوجودي
تناول الكتاب خمسة سيناريوهات للتهديد الوجودي لإسرائيل، ثلاثة منها عسكرية، وتشمل تشكيل تحالف عسكري إقليمي معادٍّ، وانتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط؛ وانهيار أنظمة الدفاع الإسرائيلية إثر هجوم صاروخي شامل وضخم بقيادة إيران وحلفائها. بينما تناول التهديدان المتبقيان تهديداً دبلوماسياً يتمثل في عزلة إسرائيل دوليّاً، وتهديداً اجتماعياً يتمثل في تفكك المجتمع الإسرائيلي وفقدانه لهويته اليهودية.
السيناريو الأخطر: التهديد العسكري
قلّل الكتاب من احتمال تشكّل تحالف عسكري إقليمي لديه الدافع والقدرة على تشكيل تهديد وجودي لـ “إسرائيل”، وذلك لعدة اعتبارات من بينها: دفء العلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية التي لديها علاقات وثيقة مع واشنطن، وتجمعهما مصالح مشتركة مع تل أبيب في مواجهة الحركات الإسلامية وإيران، وانشغال الدول العربية بالملفات المحلية وأمنها الداخلي بالأخص بعد حقبة ثورات الربيع، والانقسامات السياسية والطائفية السائدة في العالمين العربي والإسلامي، وافتقار خصوم “إسرائيل” إلى قوة عسكرية كافية.
ويشير الكتاب إلى أن أغلب الأنظمة العربية حاليا ترى أن كلفة مواجهة “إسرائيل” أكبر من المكاسب، وبالتالي تراجعت تلك الأنظمة عن استخدام النضال ضد “إسرائيل” كوسيلة لإلهاء الرأي العام عن المشاكل الداخلية، بل وشدّد على أن بعض الأنظمة مثل مصر بقيادة السيسي عملت على ترسيخ هويّة محليّة استبدلت بالغرب والاستعمار والصهيونية المذكورين كأعداء في الخطاب العام في عهد عبد الناصر، الإخوانَ المسلمين وما يُسمّى “الإرهاب”.
سقوط بعض الأنظمة العربية يعجل بالمواجهة العسكرية مع الكيان
لكن في المقابل، تناول الكتاب مجموعة من التطورات التي يمكن أن تدفع لتشكل تهديد عسكري وجودي، وفي مقدمتها سقوط الأنظمة العربية الأكثر ودّاً لـ “إسرائيل” عقب اندلاع اضطرابات، وبالأخص في مصر والأردن، مما يدفع تلك الدول لإعادة تحديد مصالحها الاستراتيجية لتعتبر “إسرائيل” تهديداً بدلاً من النظر لها كصديق. كذلك شُدّد على خطورة التهديد الإيراني في ظل إنكار طهران لأحقية “إسرائيل” في الوجود، ومضيها في مشروع نووي ذي أبعاد عسكرية، وقدراتها المتقدمة في مجال الصواريخ بعيدة المدى، ودعمها لجماعات مناهضة لـ “إسرائيل” في غزة والضفة ولبنان واليمن وسوريا والعراق.
ويشير الكتاب إلى خطورة التخفيف من حدة الصراع السني الشيعي، والذي تحول بسبب السياسات الإيرانية في المنطقة إلى قضية مركزية في السياسة العربية على حساب القضية الفلسطينية، فضلاً عن دوره في إبراز الخطر الإيراني كقاسم مشترك رئيس بين السعودية و”إسرائيل” مما جعل أهدافهما متقاربة في لبنان وسوريا والبحر الأحمر، بجوار تحالفهما مع واشنطن، والاشتراك في العداء للحركات الإسلامية.
تهديد انتشار الأسلحة النووية بالمنطقة
وفيما يخص تهديد انتشار الأسلحة النووية بالمنطقة، يشدد يوئيل جوزانسكي ورون تيرا في الفصل الذي كتباه، على أهمية ألا تتلقى السعودية أسلحة نووية من باكستان أو من أي مصدر آخر، وأهمية بقاء تركيا ضمن حلف الناتو، وتعزيز مشاركة الولايات المتحدة لدورها في الشرق الأوسط والذي يلعب كحاجز أمام تسلح السعودية وتركيا أو أي دول أخرى بأسلحة نووية. وبناء على ما سبق قدم مؤلفو الكتاب ملاحظات وتوصيات من أبرزها:
ملاحظات وتوصيات
– الانتباه إلى أن صعود الإسلاميين في إحدى الدول يمكن أن يؤثر على دول أخرى في المنطقة.
– ضرورة الحذر من احتمال تغيير النظام في مصر أو الأردن، وصعود القوى الإسلامية الرافضة لاتفاقيات السلام مكانهما.
– مراعاة أن انضمام مصر إلى الجهد العسكري المعادي سيكون عاملاً حاسمًا في قدرة دول المنطقة على تشكيل تحالف عسكري إقليمي فعال ضد “إسرائيل”، ويشكل تهديداً خطيراً وحتى وجودياً لـ “إسرائيل”.
– إدراك أن تقويض استقرار السعودية من شأنه أن يرسل موجات صادمة يمكن أن تؤثر على الأنظمة المستقرة، وخاصة في الأردن ومصر، إذ لـ “إسرائيل” مصلحة في الحفاظ عليهما.
– التنبه إلى أن كافة السيناريوهات التي تقوض النظام السعودي سلبية بالنسبة لـ “إسرائيل”. وأن احتمال أن تصبح المملكة دولة فاشلة أو أن يحكمها نظام معاد من شأنه أن يعرض موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط للخطر وبالتالي يضرّ “إسرائيل”.
– ضرورة الحفاظ على الركائز الأمنية التي تحمي “إسرائيل”، وذلك عبر تعزيز علاقات الأخيرة مع مصر والأردن، ودعم استقرار أنظمة الحكم بهما من خلال علاقات تل أبيب في واشنطن والعواصم الأخرى حول العالم؛ وأهمية تعميق التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي مع الأنظمة العربية الصديقة ضد العناصر المزعزعة للاستقرار في تلك الدول؛ وتوفير المساعدات المادية وكذلك المعرفة والخبراء للتعامل مع التحديات المحلية التي يمكن أن تهدد الاستقرار، والتعاون المشترك في تقويض القوى الأيديولوجية والسياسية التي تدعم خيار المقاومة ضدّ “إسرائيل”.
– الحفاظ على الردع النووي، والتفوق العسكري النوعي لـ “إسرائيل”، وهو ما يتطلب تعزيز العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، واستعادة الإجماع الحزبي بين الديموقراطيين والجمهوريين، فضلاً عن أهمية توطيد العلاقة مع يهود الولايات المتحدة.
– العمل على تقليص نفوذ تركيا في المنطقة لكن بحذر شديد حتى لا تفوق أضرار مثل هذا الإجراء فائدته، وضرورة أن ترسخ تل أبيب قوة ردع ضد أنقرة، وأن تمهد الطريق للتنسيق والتعاون مع جهات أخرى في حال أبدت تركيا توجهات معادية لـ “إسرائيل”.
العزلة واحتمال الحرب الأهلية
فيما يخص سيناريو العزلة الدولية، يشير الكتاب إلى أن تآكل شرعية “إسرائيل” في المجتمع الدولي، وتقويض صورتها الأخلاقية “المزعومة”، من شأنه أن يضعف قوة “إسرائيل” في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، وسيشجع خصومها على المضي في مساراتٍ مناهضة لها. ويرتبط هذا السيناريو من إحدى زواياه بتراجع قوة الولايات المتحدة، لأنها تشكّل حجر الزاوية في الدعم الدولي لـ “إسرائيل”، وبالتالي من شأن ضعفها أن يؤثر على “إسرائيل” ويفقدها مظلة الحماية السياسية وتفوقها النوعي العسكري.
كذلك، فإن خطاب “أميركا أولاً” وتبني الانعزالية في السياسة الخارجية سينعكس سلباً على الدور الأميركي في الشرق الأوسط؛ ويهدد أمن “إسرائيل”. ويشدد الكتاب على أن واشنطن تسامحت مع هجوم “إسرائيل” على المنشآت النووية العراقية والسورية، بسبب عدم حدوث ردود أفعال مضرة بالمصالح الأميركية. لكن في حال تسببت أفعال “إسرائيل” بردود فعل تضر بالمصالح الأميركية، فقد يدفع ذلك واشنطن لاتخاذ إجراءات لها تداعيات وخيمة وربما وجودية تجاه “إسرائيل”.
سيناريو التفكك الداخلي للمجتمع الإسرائيلي
أما سيناريو التفكك الداخلي للمجتمع الإسرائيلي فقد حظي بأهمية، مع التشديد على أن الأحداث الداخلية التي تقوض المجتمع عادة ما تقع بشكل تدريجي، وفي بعض الأحيان لا يُكتشف الضرر الذي تحدثه إلا في المراحل النهائية من التفكك، والذي يتأثر بزيادة وتيرة الاستقطاب المحلي، مؤديا إلى تكثيف وتسريع هجرة الأدمغة إلى خارج “إسرائيل”، مما سيُضعف قدرتها على التعامل مع التهديدات الخارجية، كما سيؤثر سلبا على الردع، ويشجع خصومها على مهاجمتها. وبالفعل فقد ساهمت الخلافات الداخلية حول التشريعات القضائية في عام 2023 في تشجيع قيادة حماس على اتخاذ قرار بتنفيذ “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه.
كيان يعاني من صدع داخل المجتمع
تُشدّد بنينا باروخ، رئيسة قسم القانون الدولي السابق في جيش الاحتلال، في الفصل الذي دونته بعنوان: “التهديد الداخلي: الجدل حول هوية إسرائيل” على أن “إسرائيل” مجزأة إلى قطاعات مختلفة لا تشترك في الرؤية نفسها للعالم، إذ تضم أربعة قطاعات مختلفة، هم: الصهاينة العلمانيون، والتيار الديني القومي، والحريديم الأصوليين، والعرب. وأن هذا الصدع داخل المجتمع قد يتحول إلى سيناريو تهديد في حال أدى إلى اندلاع حرب أهلية ستقود إلى هجرة جماعية وانخفاض الاستثمارات والسياحة مما يضر بالاقتصاد. وتشير باروخ إلى عدة مؤشرات لزيادة الاستقطاب من أبرزها صعود التيار الديني القومي، والخطاب الشعبوي، وشيطنة اليسار، ودعم حكومة الاحتلال للتوجهات العنصرية.
تعلّم من عدوك قبل صديقك!
يشدد الفصل الختامي من الكتاب على أن الظهور المتزامن لعدد من التحولات على عدة جبهات، والتي لا تعتبر في حد ذاتها بالضرورة تهديدات وجودية، يمكن أن يشكل تهديداً متعدد الأبعاد لـ “إسرائيل” ويمكن أن يصبح تهديداً وجودياً. وفي ضوء ذلك تتضح دلالات زيادة الاستقطاب الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، وتأثيرات معركة طوفان الأقصى وتداعياتها بأبعادها العسكرية في عدة جبهات على أمن ووجود كيان الاحتلال.
حرص الكيان على بقاء أنظمة الحكم في مصر والأردن
كذلك، يلاحظ اهتمام مؤلفي الكتاب في العديد من فصوله ببقاء أنظمة الحكم في مصر والأردن، وفي هذا السياق تظهر أهمية منح واشنطن مساعدات عسكرية سنوية للأردن بمقدار 1.45 مليار دولار، ولمصر بنحو 1.3 مليار دولار. كما يتضح دور استقرار نظام الحكم في السعودية كركيزة لاستقرار نظامي الحكم بمصر والأردن، وباعتباره مكوناً جوهرياً في الحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة، فيما تبرز أهمية تعمق الاستقطاب الطائفي بالمنطقة كصمام أمان لـ “إسرائيل”.
إنّ فهم سيناريوهات التهديد الوجودي من منظور إسرائيلي يساهم في تحديد مسارات الفعل الاستراتيجية التي من خلال المضي فيها يمكن التعجيل بانهيار كيان الاحتلال، فكما يقول الصينيون: “تعلم من عدوك قبل أن تتعلم من صديقك”.
المصدر
موقع متراس، أحمد مولانا.
اقرأ أيضا
الدور الوظيفي لـ”إسرائيل” هل يجرفه “الطوفان”؟
انهيار الباب الأول في جدار حراسة إسرائيل!
سقوط السيسي يقرب فتح القدس أكثر من سقوط نتنياهو!!
ما بين النكبة والطوفان.. هل هرمت «إسرائيل»؟