إن الأصل في الرد على هذه الشبهات القول بأن هذا شرع فاطر السماوات والأرض المبرأ من الجهل والظلم والهوى الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وشريعة الرحمن ليست بحاجة الى من يدافع عنها فهي فوق الشبهات فيكفينا أنها ربانية لندمغ بهذه الخاصية كل شبهة ومتيع للشبهات…

شبهات حول إقامة الشريعة الإسلامية

ما يماري مسلم في وجوب تطبيق شريعة الله. . لكنهم. . . يمارون بالشبهات ويجزئون في التطبيق. . . ويسرفون في الوعود. . .{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].

الشبهة الأولى: فقول البعض ببعد الشريعة الإسلامية

فعمر الشريعة الإسلامية يقترب من أربعة عشر قرنا. . .لكن ذلك ليس بالنقد ” الموضوعي “؛ لأن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم. . . بل إن القدم مع الأصالة تشكلان أسباب نفاسته.

من صفات الشريعة: الثبات

وشريعة الله – مع قدمها – لها هذه الأصالة. . . فلها من الثبات ما عجزت عنه أية شريعة أخرى. . . وثباتها راجع إلى ثبات مصدريها ” القرآن والسنة ” وهو أمر قدري قد تقرر لهما بقول الله سبحانه: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64] وبمثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»1(1) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم مقدمة (3) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) ..

كما أن هذا الثبات راجع إلى ما حوته الشريعة من نصوص قطعية، ومن قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان.

هذا الثبات عجزت عنه دساتير العالم وقوانينه، إذ راحت تنشده ولم تبلغه. . واكتفت في هذا السبيل باشتراط أغلبيات خاصة لإمكان تعديل الدستور. . لكن ذلك لم يحقق لها الثبات إذا أمكن الحصول على هذه الأغلبيات. . كما أنه في كل الأحوال لا قيمة لمثل هذه النصوص في مواجهة الثورات والانقلابات. . ‍!!

بيد أن ثبات شريعة الله لم يمنع من مرونتها. . فقد تركت دائرة واسعة لاجتهاد من يملكون أداة الاجتهاد وأهليته، وذلك في صدد النصوص الظنية (التي تحتمل أكثر من تأويل) أو في صدد ما سكت عنه الشارع الحكيم رحمة بنا غير نسيان.

وبذا كان الأصل في شريعة الله هو الثبات. . لكنها مع ثباتها تحمل المرونة التي تمكنها من مواجهة كل حادثة تجد، وتبطل بالتالي حجج الذين يستوردون الأحكام أو النظم أو القوانين بمقولة أن الشريعة سكتت عن هذا الجانب أو عن ذاك.

من صفات الشريعة: “العدل” المطلق

ولها – مع ثباتها – صفة ” العدل ” المطلق الذي لم ولن تصل إليه شريعة أخرى. وهو عدل لا يميل مع الميل أو الهوى، ولو تعلق الأمر بالنفس أو بمن هو أقرب {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]

كما أنه عدل لا يحيف مع العداوة أو البغض {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2].

وفي التطبيق: رفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يقبل شفاعة أحب الناس إليه في مخزومية سرقت فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»2(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4903) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) ..

وعلى الجانب الآخر نزل القرآن يبرئ يهوديا من تهمة ألصقت به بغير حق، رغم أن اليهود يومئذ أعدى أعداء الدعوة والدولة معا. . لكن هذا البغض لم يحف بالعدل الإسلامي عن طريقه المستقيم. وكانت نهاية الآيات لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء:113].

والعدل الإسلامي لا يعرف الظلم، ولا يحبه ولا يسكت عليه: إن الله لا يحب الظالمين.

«إن الله قد حرم الظلم على نفسه فلا تظالموا»3(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ..

«الظلم ظلمات يوم القيامة»4(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2447) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2579) ، سنن الترمذي البر والصلة (2030) ، مسند أحمد بن حنبل (2/106) ..

«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده»5(5) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن أبو داود الملاحم (4338) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) ..

وهي قبل ذلك وبعد ذلك شريعة ربانية

و” ربانيتها ” تجعل القلوب لها خير حارس وأقوى حارس، لا يغني عنها كثير من الحراس، وتغني هي عن كثير من الحراس.

انظروا كيف حركت ” الربانية ” مشاعر امرأة وإحساسها. . فراحت من تلقاء نفسها تعترف بذنب عقوبته ” الإعدام “. راحت الغامدية تعترف لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمقارفتها لجريمة الزنا، ويردها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرة. . ومرة. . فتعود بعد ذلك من تلقاء نفسها كذلك – بغير حاجة إلى شرطة ولا مباحث ولا مخابرات – تعود لتقول: «طهرني يا رسول الله»، فيقيم عليها الحد، ويقول – صلى الله عليه وسلم – في حقها: «لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم»6(6) صحيح مسلم الحدود (1696) ، سنن الترمذي الحدود (1435) ، سنن النسائي الجنائز (1957) ، سنن أبو داود الحدود (4440) ، مسند أحمد بن حنبل (4/430) ، سنن الدارمي الحدود (2325) ..

ويفعل مثلها ” ماعز ” ويراجعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربع مرات فيصر على اعترافه! أين هذا من جرائم اليوم؟! يحتاج أصحابها إلى أكثر من جهاز يتتبعهم ثم لا يلبث أن ينتزع منهم الاعتراف انتزاعا!!

وفي مجال آخر تحرك ” الربانية ” ضمائر الناس. فيعطون الزكاة عن طيب خاطر، لا يتهربون ولا يخفون ولا يستخفون، حتى تستطيع حصيلة الضرائب في يوم ما أن تغطي حاجة الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وتفيض بعد ذلك، فتفعل الدولة ما لم تفعله أغنى دول العالم ولا أرقاها، تسدد عن الناس ديونهم.

واليوم تفرض الدولة ” الضرائب ” وترسل وراءها الجباة والمراقبين للتهرب، وما تستطيع أن تحصل ” الحصيلة ” الحقيقية للضريبة المفروضة.

ومثل أخير: حرمت الخمر في أمريكا بتشريع. . فما أطاعه أحد، بل بذلت الدولة لتنفيذه من وسائل الترغيب والترهيب ما بلغ في الأولى تقرير الجوائز وما بلغ في الثانية حد الإعدام. . وما استطاعت – رغم ذلك – أن تفرض احترام ” قانونها ” واضطرت للعدول عنه بعد ذلك.

وفي دولة الإسلام نزل التشريع الرباني بتحريم الخمر. . منتهيا بقول الله عز وجل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91].

فقالوا جميعا: انتهينا. . انتهينا، وقاموا إلى براميل الخمر وأوانيه يهرقونها فوق الرمال. .!

هذه الأصالة ” لشريعة الله ” جعلها – رغم البعد – أقرب إلى حبل الوريد، وجعلت استسماك أتباعها بها أشد من استمساكهم بحياتهم. لكنها تعرضت بعد البعد للإبعاد.

الإبعاد عن الشريعة مخطط من قبل أعداء الله عز وجل

ولم يكن إبعاد شريعة الله عن رغبة أهلها، إنما تم في ظروف تنم عن أن الإبعاد كان تخطيطا وعملا لأعداء الله الذين أدركوا أن أول ما ينبغي نقضه ” عروة الحكم ” وأدركوا أن ذلك أيسر على يد من بالداخل عن أن يفرض من الخارج.

ولا يزال المثل الحي لذلك: إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا؛ اتجاها إلى العلمانية الآثمة الرافضة لحكم شريعة الله، ولقد سبق إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا حدثان هامان:

أولهما: إصدار انجلترا لوعد بلفور بإعطاء فلسطين لليهود.

وثانيهما: طلب زعيم الماسونية في ” سالونيك ” إلى الخليفة عبد الحميد إعطاء اليهود أرض فلسطين مقابل ” جعل ” تقدم به إلى الخليفة، فلما رفض الخليفة المسلم قال له: ” ستعلم كم يكلفك هذا الرفض. . “.

وفي مصر

كان إصدار القوانين الأهلية المستمدة من القوانين الأجنبية بعد سنة واحدة من الاحتلال البريطاني أي في سنة 1883، وحين أرادت مصر إلغاء الامتيازات الأجنبية وانعقد لذلك مؤتمر جنيف سنة 1937م كان شرط المؤتمرين لتوقيع معاهدة ” مونتريه ” أن تستمد مصر تشريعها من التشريع الغربي.

وكما لم تتأثر شريعة الله ” بالبعد ” فهي كذلك لم تتأثر ” بالإبعاد “.

ولا تزال صحوة مصر الإسلامية في 1971 م عند وضع الدستور، وإجماع الأمة كلها على الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله. لا يزال ذلك كله أقوى دليل على أن هذه الأمة لن تتخلى عن شريعتها، ولن يؤثر فيها ” بعد ” ولا ” إبعاد “.

الشبهة الثانية: فقولهم بوجود أقليات غير إسلامية

وما نعلم أن وجود الأقليات الإسلامية في بعض البلاد المسيحية منع تلك البلاد أن تفرض ما تشاء من قوانين ولو تعارضت مع الشريعة الإسلامية، بل ولو تعارضت مع العقيدة الإسلامية. بل وما نعلم أن الأقليات الإسلامية تنعم بجزء مما تنعم به في بلادنا الأقليات غير الإسلامية.

وإلا فليقولوا لنا؛ لم تتعرض الأقلية الإسلامية في الفلبين لما تتعرض له من اضطهاد وعسف. بل وإبادة!! ؟ ولم تتعرض الأقلية الإسلامية في الحبشة وفي لبنان – وهي في حقيقتها أغلبية – لم تتعرض لما تتعرض له؟ !

ولا نذهب إلى الماضي لننكأ جروح الأندلس وهي غائرة في الصدور وفي القلوب. ولا نذهب إلى الدول مثل روسيا والصين والهند لنسأل عن حقوق المسلمين فيها، وبرغم ذلك كله نقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] لن نأخذ ” الأقليات غير الإسلامية ” بما تفعله الدولة غير الإسلامية بأقلياتنا؛ لأن الله علمنا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164

] وعلمنا {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وعلمنا مع ذلك كله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].

وعلمنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معها: «من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة» .

من هنا نترك لهم عقيدتهم، فلا إكراه في الدين. ونترك لهم معها عباداتهم، ونترك لهم كذلك أحوالهم الشخصية ” من زواج وطلاق. . “.

أما “القانون العام” فإنه يسرى عليهم كما يسري على المسلمين، وهو بالنسبة لهم يعد تشريع الدولة. وفي كل العالم تصدر التشريعات بالأغلبية فكيف ينكر على بلد إسلامي أن يتحاكم أهله إلى قانون إسلامي؟!

الشبهة الأخيرة: فقولهم بقسوة الحدود

وقولهم هذا كقول من شاهد قاتلا يدفع ضحيته بعنف فراح يلوم الضحية على هذا العنف وترك القاتل بغير مساءلة ولا عتاب!!! .

نعم. . ينظرون إلى الحدود ولا ينظرون إلى الجرائم.

ينظرون إلى المجرمين نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة.

والمجرم في الحد قد يكون واحدا، أما الضحية فهو أكثر من واحد. إنه “العفة” و “الفضيلة” و “الشرف” و “الأخلاق” و “الحياة”. إنه المجتمع كله {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] إن المجرم بمقارفته للحد يتحدى المجتمع كله فكيف يصبر عليه؟ وكيف يعفو عنه؟ ‍‍!

إن الفقه الحديث لم يستطع أن يتسامح في جريمة ” الخيانة العظمى ” ولا أن يتهاون فيها، وأعطاها أقسى ما عنده من عقاب. فكيف ينكر علينا ” الحدود ” وجرائمها عندنا خيانة عظمى، انتهاك ” للنظام العام ” للدولة؟!

والذين ينكرون علينا قطع يد السارق – وهي لا تقطع مع شبهة، كما أن لها ضوابط وأركانا – لم ينكروا على بعض الدول الاشتراكية إعدام السارق. حرموا يده وأحلوا رقبته!! وهكذا يغدو منطقهم متهافتا متهاترا.

هذه بعض الشبهات، أو أهم الشبهات.

يماري بها من كان في عقله جهل أو كان في قلبه مرض.

الهوامش

(1) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم مقدمة (3) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410).

(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4903) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .

(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .

(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2447) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2579) ، سنن الترمذي البر والصلة (2030) ، مسند أحمد بن حنبل (2/106) .

(5) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن أبو داود الملاحم (4338) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) .

(6) صحيح مسلم الحدود (1696) ، سنن الترمذي الحدود (1435) ، سنن النسائي الجنائز (1957) ، سنن أبو داود الحدود (4440) ، مسند أحمد بن حنبل (4/430) ، سنن الدارمي الحدود (2325) .

المصدر

مجلة البحوث الإسلامية العدد الثاني 1396هـ، علي محمد جريشة.

اقرأ أيضا

ثبات الشريعة المحمدية

جريمة إقصاء الشريعة

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شريعتنا هي كل ديننا

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع

التعليقات غير متاحة