أركان الحكمة وأسبابها

إن الحكمة مطلب عزيز، وغاية سامية، ورتبة رفيعة، ينال صاحبها سمة من سمات الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- ولذا فليست متاحة لكل فرد، بل هي مع بذل الأسباب وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة…

أهم وأبرز أركان الحكمة وأسبابها

هذه أهم وأبرز أركان الحكمة وأسبابها، وقد تجتمع هذه الأركان في شخص واحد، وهو نادر وقليل، وقد تتوافر في مجموعة من الأفراد، فبمجموعهم تتوافر فيهم أركان الحكمة وسماتها.

وكما ذكر العلماء، أن المجدد قد يكون فردًا واحدًا، وقد يكونون مجموعة من العلماء، والدعاة يجددون لهذه الأمة أمر دينها .

1- التجرد والإخلاص والتقوى

هذا هو الأساس لكل عمل، والمنطلق لكل هدف وغاية، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة:282] . ويقول: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163] . ويقول -سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة:5] .

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»1[1] مسلم [2564] ..

إننا لا نتصور حكمة بدون تجرد وإخلاص، ولذلك ذكرت أن من موانع الحكمة، الهوى، فإذا كان الهوى من موانع الحكمة فإن الإخلاص والتقوى أساسها. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3] . (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4] . ونلمس هذا المعنى في قوله -تعالى-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74] . فإنه لن يكون إماما إلا إذا كان حكيما، وإذا كان إماما للمتقين، فالتقوى صفة للإمام قبل المأمومين.

2- التوفيق والإلهام

إن الحكمة مطلب عزيز، وغاية سامية، ورتبة رفيعة، ينال صاحبها سمة من سمات الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- ولذا فليست متاحة لكل فرد، بل هي مع بذل الأسباب وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال -سبحانه-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269] . وبين أنه أعطى لقمان الحكمة (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان:12] .

وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يلهم ابن عباس الحكمة، ويعلمه إياها. «اللهم علمه الحكمة»2[2] رواه البخاري.. وعندما نفقه هذه الحقيقة، فإنه يتعين علينا أن نتعامل معها بما يجب أن نعمله من أسباب، ليمن الله علينا بها، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269] .

3- العلم الشرعي

والعلم من أهم قواعد الحكمة ودعائمها، فكما أن الجهل مانع من موانعها، فإن العلم سبب من أسبابها، وركن من أركانها.

ولهذا قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] . وخشية الله من الحكمة، وقال تعالى-: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9] . لا يستوون في أشياء كثيرة، ومنها إدراك الحكمة.

وقرن الله بين الحكم -وهي الحكمة- والعلم في عدة آيات من كتاب الله، فيقول -سبحانه- عن لوط: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء:74] . ويقول عن يوسف: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 22] . ويقول عن داود وسليمان: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء: من الآية 79] . وقال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) [القصص:14] .

وهذه الآيات من أقوى الأدلة على اقتران الحكمة بالعلم، ولذلك يقول -سبحانه-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83] . وعلم الأمر المختلف فيه أو ما يشكل على العامة هو الحكمة، وأولو الأمر هنا هم العلماء، وكذلك نفهم ارتباط العلم بالحكمة والحكمة بالعلم، من قول الرسول صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» والله -سبحانه- يقول: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269] .

ومن خلال هذه الأدلة يتضح لنا هذا الأمر، بل إن بعض العلماء فسروا الحكمة بالعلم، وممن أطال في ذلك وفصل فيه رشيد رضا3[3] انظر تفسير المنار 3 / 75. وكذلك الرازي4[4] انظر: تفسير الرازي 7 / 67. وهذه حقيقة، فالزمها تؤت الحكمة.

4- التجربة والخبرة

وهما من أهم أسباب التوفيق للحكمة، وقد ورد عند البخاري في الأدب المفرد:

“لا حكيم إلا ذو تجربة”، والمثل المعروف يقول: “اسأل مجرب ولا تسأل طبيب”، إن التجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادة، وهل الشهادة إلا علم وتجربة، مع أنها في الغالب تكون تجربة قاصرة.

ولقد وقفت طويلا عند آية وردت في القرآن، وهي قوله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) [الأحقاف:15] . فإنني ألحظ أن ارتباط بلوغ الأشد والاستواء بسن الأربعين له عدة دلالات، ومنها أن المرء يكون قد حصل على رصيد مناسب من التجربة، بل إنني ألمس في حياة الناس أن ما قبل الأربعين رصيد التجربة فيه أقوى من رصيد العطاء، وما بعد الأربعين سمة العطاء فيه أقوى من التجربة ألا وهي الخبرة، حيث إن الأربعين مرحلة وسطية في عمر الإنسان، حيث إن ما قبلها من العمل يعادل ما بعدها في الأعم الأغلب.

ومما يجري في سياق الآية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على الأربعين، والله -سبحانه- يقول عن يوسف، عليه السلام،: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) [القصص:14] . قال الحسن: “بلغ أربعين سنة”5[5] انظر: تفسير ابن كثير 2 / 473 مع اختلاف المفسرين في ذلك..

وخلاصة الكلام: أن التجربة عامل مهم في حصول الحكمة وتحققها.

5- الاستشارة

ذكرت أن الفردية من خوارم الحكمة، ومن وسائل تجنب الفردية الاستشارة.

والشورى لها مكانتها في الإسلام، وللدلالة على أهميتها وعظم منزلتها، أن الله -سبحانه- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، أن يستشير صحابته فقال -سبحانه-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران:159] . بل إن هذه الآية جاءت في سياق يفيد أن هذا هو مقتضى الحكمة، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159] .

وقال -سبحانه- واصفا المؤمنين ومثنيا عليهم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى:38] . بل إنني وجدت آية أخرى نصا في المسألة، وهي قضية فطام الولد فقد قال -سبحانه-: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة:233] . وفصل الولد وفطامه يحتاج إلى حكمة حتى لا يضار وهو صغير لا حول له ولا قوة، وقد يكون ضحية خلاف بين الوالدين، فجعل التشاور شرطا للفطام، وليس مجرد التشاور كافيا، بل لا بد أن يكون تشاورا حقيقيا، تكون نتيجته التراضي والاتفاق، وإلا فلا، ولذلك قال ابن كثير:

أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في ذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره6[6] انظر: تفسير ابن كثير 1 / 284..

ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الشورى، وأثرها في مواجهة الأحداث، ولو استغنى أحد عنها لاستغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يشاور صحابته عند الملمات، بل إنه كان يأخذ برأيهم، ولو خالف رأيه -أحيانا- كما حدث في أُحُد.

6- بعد النظر وسمو الأهداف

إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان يعيش على هامش الحياة، فعند وقوع حدث من الأحداث، أو مواجهة قضية من القضايا سنجد الفرق بين التفكيرين، لأن الأول سيربط القضية بالأهداف التي يسعى إليها، ويعالجها من خلال منظور معين، وهذا الذي يرمي إليه الشاعر، بقوله:

ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم … من يستشار إذا استشير فيطرق

حتى يحل بكل واد قلبه … فيرى ويعرف ما يقول فينطق

والشاهد هنا: [حتى يحل بكل واد قلبه] .

أما الثاني فإنه يعطي الرأي، ويتخذ الموقف بناء على الظروف المحيطة به، بعيدا عن النظر في الأسباب والنتائج والآثار فهو بادي الرأي.

ولذا فإن علو الهمة، وبعد النظر، سبب من أسباب التوفيق في الرأي، والسداد فيه، وصدق الشاعر:

وإذا كانت النفوس كبارا … تعبت في مرادها الأجسام

7- فقه السنن

وهي عامل مهم في نضوج الرأي وسلامة التفكير، لأن التفكر في السنن الكونية والشرعية مما حث القرآن على العناية به: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الروم:9] . (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [يوسف:109] . حيث وردت عدة مرات، فنجد في سورة الحج: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [الحج:46] فقرن السير في الأرض -وهو إما حسي أو معنوي- بالعقل، وهو موطن الحكمة، بل إن الآيات جاءت أمرا بالسير في الأرض، ولم تقتصر على الاستفهام فقال -سبحانه- في عدة آيات:

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [آل عمران:137] . (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الأنعام:11] .

إن قراءة التاريخ والاطلاع على أحوال الأمم الماضية يضيف إلى رصيد التجربة رصيدا علميا من تجارب الآخرين، ولذا قال الشاعر:

اقرأ التاريخ إذ فيه العبر … ضل قوم ليس يدرون الخبر

وكلما تعمق الإنسان في رؤية الماضي من خلال السنن الكونية والشرعية، كان أكثر قدرة على وضوح الرؤية في المستقبل، ضمن الضوابط الشرعية والعقلية.

8- رجاحة العقل

إن العقل مكان الحكمة وبيتها، وبين العقل والحكمة اشتراك لفظي ومعنوي، وقد يطلق العاقل على الحكيم، والحكيم على العاقل، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

حيث إن الحكمة أعم من العقل وأشمل.

ومما يدل على علاقة العقل بالحكمة أن الله لما ذكر الحكمة فقال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269] . ختمها بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269] . أي: أولو العقول، قال ابن عاشور: وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) تذييل للتنبيه على أن من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللب، وأن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته، واللب في الأصل: خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان؛ لأنه أنفع شيء فيه7[7] انظر: التحرير والتنوير 3 / 64..

ولأثر العقل في تصرفات المرء وسلوكه، ذكره الله في القرآن كثيرا، تنويها بمكانته، وأثره في الحياة.

9- العدل

أمر الله بالعدل في كتابه في عدة مواضع، ولا يمكن أن تجتمع الحكمة مع الظلم، والحيف والجور.

يقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل:90] . ويقول -تعالى-: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8] . وفي سورة الأنعام: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152] وفي سورة الشورى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15] وعند التأمل في هذه الآية، تتضح علاقة الحكمة بالعدل، بل مكانة العدل من الحكمة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 76] .

والحكم والحكمة اشتقاقهما واحد، ومعناهما متقارب، وعند النظر في دلالات الحكمة، نجد أنها في مآلاتها بمعنى الحكم، لأن الحكم هو الحكم بين المتخاصمين أو بين الخصوم، والحكمة هي النظر في أمرين أو عدة أمور، واختيار الصائب أو الأصوب منها، والله -سبحانه- قد جعل العدل أساس الحكم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58] . فكما أن العدل من لوازم الحكم، فهو من لوازم الحكمة، بل ركن من أركانها، وأساس من أسسها، والعدل والحكمة معناهما: “وضع الشيء في موضعه”، وإن كانت الحكمة أعم من العدل -كما سبق بيانه-.

10- التثبت

من الوسائل التي تؤدي إلى الحكمة: التثبت، والتثبت: منهج شرعي دعا إليه القرآن، حيث قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6] .

وبما أن العجلة والاستخفاف من خوارم الحكمة، فإن التأني والتثبت من دعائمها.

والعجلة من الشيطان، ولذلك قال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم:60] . وهذه الآية أعم من التثبت، بل هي أمر بالصبر، والتثبت يحتاج إلى الصبر.

وفي آية الحجرات بعد أن أمر الله بالتبين، قال في الآية التي بعدها: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات:7] . أي: لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استجاب لما يريدون دون تثبت ولا روية لأصابهم العنت والمشقة، الحسية والمعنوية، وهذا مما يخالف الحكمة ومقاصدها.

والذي يمعن النظر في كثير من الأحداث المعاصرة، يدرك أن من أبرز أسباب آثارها السلبية: العجلة وعدم التثبت.

ولقد أدرك الأعداء هذه الثغرة، فكثروا من الإشاعات والأراجيف، وتلقاها كثير من المسلمين بدون روية ولا تبصر، ولم يلتزموا المنهج الرباني، بالتثبت ورد الأمر إلى أهله، كما أمر الله -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83] . ولهذا فقدنا الحكمة في كثير من الأحداث التي مرت بالمسلمين، فجاءت النتائج كما نرى.

11- المجاهدة

قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] . أي: لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، كما فسرها الإمام الطبري8[8] انظر: تفسير الطبري 21 / 15. والحكمة هي التوفيق لإصابة الحق.

ولهذا فإن من أعظم الأسباب للتوفيق للحكمة، هي المجاهدة وهي مفاعلة من الجهاد، فهو جهاد بعد جهاد، وحمل للنفس على تحقيق مراد الله مرة بعد أخرى.

وهذه الآية وعد من الله بأن من جاهد نفسه طالبا للحكمة باحثا عنها أن يوفقه الله إليها، ولو بعد حين، وهذا وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا؟.

12- الدعاء والاستخارة

قال الله -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186] . قال ابن عاشور: الرشد: إصابة الحق وفعله9[9] انظر التحرير والتنوير 2 / 180..

وقد تقدم أن من معاني الحكمة: الإصابة في القول والعمل. والدعاء له منزلة عظيمة، وآثاره مشاهدة، ملموسة، وتكرر في القرآن وروده، قال -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) [النمل:62] . وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60] .

وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) [الأعراف:55] .

والاستخارة قرينة الدعاء، بل هي نوع من الدعاء المشروع، عندما يعرض للمرء طريقان فأكثر، ولا يدري أيها يسلك، فإنه بالاستخارة يوفق للصواب والحكمة.

13- الصبر

الصبر مفتاح الفرج، ولقد وردت آيتان في كتاب الله، وقفت عندهما متأملا، وخرجت بعد ذلك مستنتجا، أن الصبر دعامة من دعائم الحكمة، بل سبب من أسبابها، وذلك في قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) [الأنبياء:73] . وفي السجدة: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24] .

إن الصبر من أعظم أسباب توفيقهم للإمامة، ولا يمكن أن يكون إماما للمتقين إلا إذا كان حكيما، قال الإمام الطبري:

وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير، يؤتم بهم، ويهتدى بهديهم10[10] انظر: تفسير الطبري 21 / 112..

ولمنزلة الصبر وأثره في الحياة، وردت آيات كثيرة تحث عليه وتأمر به، ومن الآيات التي وردت تبين أثر الصبر في الحصول على الحكمة والتوفيق لها.

منها قوله -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34، 35] .

فإن الإنسان إذا سلك منهجا يجعل من عدوه حميما وصديقا، فإن ذلك دليل على الحكمة وحسن التصرف.

والقرآن يبين أنه لن يصل إلى هذه المنزلة إلا من كان صابرا موفقا، وهناك آيات كثيرة عند التدبر لها، يدرك المسلم منزلة الصبر من الحكمة، وأثره في التوفيق لها.

ومنها: قوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة:45] . وقوله -سبحانه-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17] . وقوله: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف: 67] . وقوله: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) [الكهف:69] . وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200] .

ومن خلال ما سبق يتضح أن الصبر من صفات الحكماء، ولذلك أوصى الله به رسله، وأنبياءه، وعباده المؤمنين.

14- الرفق ولين الجانب

وخير ما أختم به هذا المبحث من الأركان والأسباب التي تؤدي إلى الحكمة هو: الرفق واللين، فإن الله رفيق يحب الرفق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»11[11] مسلم [2593] ، [2594] ..

وكان صلى الله عليه وسلم وهو الرفيق بأمته يوصي صحابته بالرفق والسكينة دائما، وقد مدح الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران:159] . فالرفق واللين من سمات الحكماء.

هل الرفق واللين مرادف للضعف؟

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هناك فهما خاطئا لمفهوم اللين؛ حيث يتصور الكثير أن الرفق واللين مرادف للضعف. وهذا فهم خاطئ، فإن الرفق واللين لا يضاد القوة، ولا يستلزم الضعف، وإنما يضاد العنف والفظاظة والغلظة، ومن الأدلة على ذلك:

1- أن الله -تعالى- وصف رسوله صلى الله عليه وسلم باللين، ومدحه بذلك، ونفى عنه الفظاظة والغلظة، ولا يمدح إلا بالممدوح.

2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوى الرجال بل هو أقواهم، مع اللين والرحمة، والرفق وخفض الجانب.

3- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الذي يريد أن يذبح ذبيحته باللين والرفق، والذبح من مظاهر القوة لا الضعف «وليحد شفرته وليرح ذبيحته»12[12] رواه مسلم [1955] . . وفي هذا الحديث دليل على أن القوة باللين والرفق، فحد الشفرة، دليل على القوة بلين ورفق.

4- أن الجهاد مظهر من مظاهر القوة، بل هو القوة بعينها، ومع ذلك ينهى فيه عما يؤدي إلى العنف والغلظة، فنهى عن المثلة ونحوها.

وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين اللين، والرفق وبين القوة، وكلها من صفات الحكماء.

الهوامش

[1] مسلم [2564] .

[2] رواه البخاري.

[3] انظر تفسير المنار 3 / 75.

[4] انظر: تفسير الرازي 7 / 67.

[5] انظر: تفسير ابن كثير 2 / 473 مع اختلاف المفسرين في ذلك.

[6] انظر: تفسير ابن كثير 1 / 284.

[7] انظر: التحرير والتنوير 3 / 64.

[8] انظر: تفسير الطبري 21 / 15.

[9] انظر التحرير والتنوير 2 / 180.

[10] انظر: تفسير الطبري 21 / 112.

[11] مسلم [2593] ، [2594] .

[12] رواه مسلم [1955] .

المصدر

كتاب: “الحكمة” ناصر بن سليمان العمر، ص55-77 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

إلى متى عدم الحكمة؟!

إن ربك حكيم عليم… لوازم ومقتضيات

من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحكيم)

التعليقات غير متاحة