خوارم الحكمة وموانعها

كيف يُمكن للدعاة والمصلحين أن يكونوا حكماء في دعوتهم وإصلاحهم، بينما تُحيط بهم عوامل تُضعف الحكمة وتُعيق التأثير؟ وما هي خوارم الحكمة التي قد تعترض طريقهم فتُفقدهم التوازن والرويّة؟

من خوارم الحكمة وموانعها

1- الهوى وعدم التجرد

يقول -سبحانه-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [صّ:26] . ويقول: (أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50] . وقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [المؤمنون:71] . والآيات في ذم الهوى كثيرة جدا، وكلها تدل على استحالة اجتماع الحكمة والهوى، وتأمل في هاتين الآيتين ليتضح ما أقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة:49] . والحكم بما أنزل الله هو مقتضى الحكمة1[1] لأن تعريف الحكمة والعدل متقارب، بل العدل حكمة، والحكمة عدل لأن كلا منهما وضع الشيء في موضعه..

وفي آية أخرى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد: 14] .

وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان وقت العزلة: «فإذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك … » الحديث2[2] ابن ماجه [4014] ..

وهذا دليل على فقدان الحكمة وذهابها. والحكمة منبعها العقل، بل إن معناهما واشتقاقهما متقارب، فكلاهما يدلان على المنع مما لا ينبغي، ومن هنا جاء الشاعر يبين تأثير الهوى على الحكمة:

وآفة العقل الهوى فمن علا … على هواه عقله فقد نجا

والهوى يعمي، ويصم، كما قال شيخ الإسلام، فمن كانت هذه حاله فأنى له الحكمة.

2- الجهل

والجهل ضد العلم، وما وجد الجهل في شيء إلا شانه، وما نزع من شيء إلا زانه، والتأمل في هذه الآيات يبين تأثير الجهل، وأنه والحكمة لا يجتمعان، حيث ذكر الله -سبحانه- في أكثر من آية أن سبب عدم توفيقهم للحق والحكمة هو الجهل:

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر: 64] . (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67] . (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] . (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:46] . ومن خلال هذه الآيات وأمثالها يتضح لنا تأثير الجهل على الحكمة، وأنه من خوارمها، ولذا قال الشاعر:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله … وأجسادهم دون القبور قبور

فهل ننتظر الحكمة من الأموات؟

3 – الأخذ بظواهر النصوص، وعدم الجمع بين الأدلة

وذلك كمنهج الظاهرية في الأخذ بظواهر النصوص، ولذا لم يوفقوا للصواب في كثير من المسائل، وهل الحكمة إلا الإصابة في القول والعمل؟

أما عدم الجمع بين الأدلة فهو مزلق آخر من المزالق التي يقع فيها بعض طلاب العلم، فيعتمدون على دليل دون آخر، وهذا يؤدي إلى اتخاذ بعض المواقف بعيدا عن الحكمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ففطن لشيء، ولكن غابت عنه أشياء.

ومن ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 38، 39] . ويغفل عن الأحاديث التي تبين أن الإنسان قد يكون آثما إذا رأى منكرا عمله غيره فلم يغيره، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، حسب استطاعته.

وكذلك يغفل عن الأحاديث التي تبين مشاركة المسلم لغيره في الأجر، كما ورد في أحاديث كثيرة. ومنها: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث3[3] مسلم [1631] ، انظر: تفصيل ذلك في تفسير ابن كثير 4 / 257..

ومثل ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204] . على وجوب الإنصات مطلقا، ويغفل الأحاديث الواجبة في قراءة الفاتحة في الصلاة حتى مع قراءة الإمام4[4] والمسألة خلافية، ومحل ذلك كتب الفقه، وإنما المراد التمثيل على استخدام دليل دون آخر..

4- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها

وهذا يختلف عن السابق، لأنه استخدام للدليل في غير موضعه، والأمثلة توضح ذلك:

[أ] فكم سمعنا من الناس من إذا طلب منه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: مالي وللناس، فلم أكلف بهم، والله يقول: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105].

وقد روى الإمام أحمد أن أبا بكر الصديق قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105] . وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه»5[5] الترمذي [3059] . أبو داود [4338] ، ابن ماجه [4005] . قال عنه ابن حجر جيد الإسناد انظر: تهذيب التهذيب..

[ب] ومن الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها، استدلال كثير من الناس بقوله -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195] . وبخاصة عند تبرير عدم المشاركة في الجهاد في سبيل الله، ولم يعلموا أن هذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ولننظر في هذا الحديث.

روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: «حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار تحببا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل قوله -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195] . فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد»6[6] قال ابن كثير 1 / 228: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن حبيب، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه..

والأمثلة في هذا كثيرة جدا، والاستدلال بها على هذا الوجه يخالف الحكمة وينافيها.

5- عدم فهم الدليل

وذلك بأن يكون الدليل صحيحا، والاستشهاد به في موضعه، ولكنه لا يفهم الدليل على وجهه الصحيح -وذلك فرع عن الجهل- وهنا يخالف الحكمة في تصرفه، وأسلوب تطبيقه. ومثال ذلك:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر»7[7] أبو داود [496،4113] ، وأحمد: 2 / 187. قال الأرناؤوط في شرح السنة: 9 / 22 إسناده حسن. الحديث.

فيأتي فيضرب ابنه ضربا مبرحا وغليظا، وهذا غير مراد من الحديث، وهو يخالف الحكمة، لأن المراد هو الضرب غير المبرح الموجع، لأن الطفل لم يكلف بعد، فمن كان في سن العاشرة أو الحادية عشرة فلم يبلغ سن التكليف، فكيف نعاقبه عقابا شديدا، والمراد هو التربية والتعويد، لا العقاب والتعزير.

وكذلك قوله -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) [النساء:34] .

فيأتي الزوج، ولا يفهم معنى هذه الآية، ويقول: إن الواو لا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، فيبدأ بالضرب قبل الوعظ والهجر، ويأتي آخر ويضرب زوجته ضربا شديدا مؤلما، وكل هذا خلاف الحكمة وناشئ من قصور الفهم.

6- قلة التجربة والفردية

ولذا نجد أن بعض تصرفات الشباب تخالف الحكمة لقلة تجربتهم ومحدوديتها وضعفها.

7- أما الفردية:

وهي من خوارم الحكمة الظاهرة، لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»8[8] رواه أبو داود [547] ، النسائي 2 / 106 وحسنه الألباني في صحيح الجامع [5701] ..

وقال الشاعر:

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به … رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها

وسيأتي مزيد بيان لذلك في الحديث عن أركان الحكمة وأسسها.

ثلاث خوارم متقاربة

8- عدم تحديد الأهداف.

9- النظرة السطحية.

10- آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال.

إن هذه العوائق الثلاثة متقاربة في معناها، وحقيقتها، وإن كان كل واحد منها يحمل معنى خاصا، ونستطيع أن نقول: إن بينها عموما وخصوصا.

فعدم تحديد الأهداف ورسمها بدقة يؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل، وهذا هو الارتجال بعينه، وهذا الأمر لا ينشأ عادة إلا من النظرة السطحية للأمور، والوقوف عند ظواهر الأحداث، دون النظر في أسبابها، ومآلاتها وآثارها، والنتيجة الطبيعية لاتخاذ القرار، والموقف من الحدث، هو عدم تطابق ما يتخذ من قرار مع ما يستوجبه الحدث، وبالتالي يجانب الحكمة، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه.

وهذا مثل: طبيب جاءه مريض، وقد بدت بعض البثور على وجهه، فقام الطبيب بوصف بعض المراهم التي تزيل البثور، دون البحث في تحليل أسباب هذا المرض، والنتيجة هي عودة البثور بين فترة وأخرى، لعدم القضاء على أسبابها.

ومثل ذلك: من في أسنانه تسوس، ويشكو من آلامها، فكلما جاء إلى الطبيب أعطاه ما يسكن الألم، ويستمر الألم يعاوده، والطبيب مستمر في وصف المسكنات، دون اتخاذ العلاج الحاسم بإزالة التسوس، حتى لو أدى إلى إزالة السن ذاته، لأن بقاء التسوس سيجعله يقضي على بقية السن، أو قد ينتقل المرض إلى العصب وبقية الأسنان إذا أهملت الأسباب، وتم تجاهل حقيقة المرض.

ومثل ذلك نقول في الأحداث، وما نواجهه من أمور تحتاج إلى علاج حاسم ذي أهداف محددة.

11- تقديم الجزئيات على الكليات

وهذا ناشئ من قصور العلم، وقصر النظر، وهذا الأمر ابتلينا به كثيرا في عصرنا الحاضر، وفي بعض دول العالم الإسلامي.

وأدرك أعداء الإسلام هذه الثغرة، فأقاموا بعض شعائر الإسلام الجزئية، وهدموا أصوله وأركانه.

يعاقبون المفطر في رمضان، ولكنهم لا يزيلون مظاهر الشرك، ولا يأمرون بالصلاة، فضلا عن أن يعاقبوا تاركها.

يقرأون القرآن في الإذاعة، وينقلون خطبة الجمعة في التلفزيون، ولكنهم يتحاكمون إلى شريعة الطاغوت.

ورأينا عددا من الناس يغضبون إذا رأوا شارب الدخان، وهو منكر -ولا شك-، ولكنهم لا يحركون ساكنا عندما يرون الربا، وقد ضرب في الأرض أطنابه، وينفعلون إذا خرجت امرأة سافرة عن وجهها -وهذا محرم بالكتاب والسنة- ولكنهم يتجاهلون دخول اليهود والنصارى والوثنيين إلى بلاد المسلمين، وإقامتهم بين ظهرانيهم.

ولتتضح الصورة أكثر أضرب هذا المثال:

مريض أصيب بالزائدة، فذهب إلى المستشفى مسرعا فأصابته شوكة في أصبعه، فلما وصل انشغل الطبيب بالأصبع وشوكته عن الزائدة، التي قد تنفجر بين لحظة وأخرى، فتودي بصاحبها.

أين الحكمة في هذا التصرف؟

12- العجلة وعدم ضبط النفس

العجلة من الشيطان، وإذا ابتلي إنسان بهذه الخصلة الذميمة، ستقوده إلى المهالك، ومن آثار العجلة ومظاهرها عدم ضبط النفس في المواقف التي تحتاج إلى تأن، وتؤدة وروية.

وأكثر أسباب الندم ناتج عن العجلة والانفعال غير المنضبط، وهنا تكون النتيجة غير محمودة.

من غرس الحنظل لا يرتجي … أن يجتني السكر من غرسته

13- الخلط في المفاهيم

الحكيم لا بد أن ينطلق من مفاهيم صحيحة، وقواعد ثابتة، مستمدة من الكتاب والسنة، وإذا اختلطت المفاهيم لدى المرء وتشابهت الأمور، لن يصل إلى مبتغاه، وسيتخبط في سيره، ومن الملحوظ في عصرنا الحاضر اختلاط كثير من المفاهيم على كثير من طلاب العلم والدعاة ومن ذلك:

[أ] الخلط في مفهوم خوف الفتنة، حتى أصبح سيفا مصلتا على رؤوس الداعين إلى الله، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، فكلما أمر آمر بمعروف، أو نهى ناه عن منكر، قيل له: إنك تثير الفتنة، ولم يعلم أولئك أنهم في الفتنة سقطوا، وكان من نتيجة هذا الأمر، أن استمرت الأمة تقدم التنازلات الواحد تلو الآخر، وبعض الدعاة ساكتون أو مسكتون خوف الفتنة، حتى ضرب الكفر أوتاده في بلاد المسلمين، وهذه هي الفتنة الحقيقية (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة:193] .

[ب] ومن الخلط في المفاهيم، الخلط بين الحزبية والانتماء، حتى سوى الكثير بينهما، مع الفارق الكبير.

فالحزبية مذمومة، وهو تحزب المسلمين بعضهم ضد بعض، فالمسلمون لا يكونون إلا حزبا واحدا، ضد الكفر وأهله. (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22] .

أما الانتماء لأهل السنة والجماعة ولجماعة المسلمين ومنهجهم فهو مشروع: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103] . (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران:110] . (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) [آل عمران:104] .

والمذموم هو الانتماء لأهل الباطل وللأحزاب البدعية، وهذا ليس من الانتماء المشروع في شيء.

ونتيجة للخلط في هذا المفهوم جانبت الحكمة بعض المنتسبين إلى الدعوة، فبدلا من أن يدعو إلى الوحدة والائتلاف، دعوا إلى الفردية والتفرق، وهم لا يريدون ذلك -ولا شك-، ولكن من يزرع الشوك لا يقطف العنب.

[جـ] ومن الأمثلة -أيضا- في خلط المفاهيم الخلط بين الوسائل والغايات، وكذلك الخلط بين الثوابت والمتغيرات.

وكذلك عدم إدراك الفرق بين حب السلف، وفهم منهج السلف، والالتزام بمنهج السلف، فليس حب السلف وحده كافيا لأن يكون صاحبه ممثلا لمنهج السلف، فلا بد من:

1- حب السلف والذود عنهم، وعن منهجهم.

2- فهم المنهج، أي منهج أهل السنة والجماعة.

3- الالتزام بمنهج السلف، خلقا ودعوة، وسلوكا، قولا، وفعلا.

وأي إخلال بواحد من هذه الأسس يعتبر إخلالا بانتساب الفرد إلى السلف.

14- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد

وهذا يؤدي إلى تقديم جلب المصلحة على دفع المفسدة، ودفع المفسدة الصغرى بالكبرى، وجلب المصلحة الدنيا، وترك العليا.

وليس الحكيم هو من يعرف الخير والشر، وإنما الحكيم من يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.

وهذه القاعدة من أعظم قواعد الشريعة، والجهل بها يجر على المسلمين الشرور والويلات.

15- الغفلة عن مكائد الأعداء

نحن في عصر اشتد فيه الصراع بين الحق والباطل، وقد تطورت أساليب الأعداء في حرب الإسلام والمسلمين، وبخاصة عندما أثبت لهم التاريخ أن أي معركة مباشرة مع المسلمين لن تكون في صالح الكفر إن عاجلا أو آجلا. وهنا لجأوا إلى أساليب المكر والخديعة والتلبيس، وقد انطلت هذه الأساليب على كثير من المسلمين، وانخدعوا بالشعارات التي يرفعها أعداء الله، ومن هنا كانت كثير من المواقف التي وقفها العلماء والدعاة في بعض بلاد المسلمين غير متكافئة مع خطط الأعداء ومؤامراتهم.

وهذه نتيجة الجهل بفقه الواقع، وها نحن ندفع ثمن هذا الأمر ربا فضل ونسيئة.

إن الحكمة هي فعل ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.

فكيف نفعل ما ينبغي كما ينبغي إذا كنا لا ندرك ماذا ينبغي؟ لأن الحكم فرع عن التصور، وتصورنا لعدونا يشوبه النقص والتقصير.

16- وأخيرا فإن من خوارم الحكمة: الغلظة والعنف والطيش

وما وجدت الفظاظة في شيء إلا شانته، وما نزعت من شيء إلا زانته، ويكفي لبيان ذلك أن نتأمل قوله -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159] . وسرعة الغضب والانفعال من خوارم وقوادح الحكمة.

وبعد: فهذه أهم خوارم الحكمة، وموانعها، وحري بالدعاة إلى الله أن يتأملوها ليجتنبوها، وعلى طلاب العلم أن يحذروا أمتهم منها، ليكونوا مسددين في أقوالهم، وأفعالهم، ونياتهم.

الهوامش

[1] لأن تعريف الحكمة والعدل متقارب، بل العدل حكمة، والحكمة عدل لأن كلا منهما وضع الشيء في موضعه.

[2] ابن ماجه [4014] .

[3] مسلم [1631] ، انظر: تفصيل ذلك في تفسير ابن كثير 4 / 257.

[4] والمسألة خلافية، ومحل ذلك كتب الفقه، وإنما المراد التمثيل على استخدام دليل دون آخر.

[5] الترمذي [3059] . أبو داود [4338] ، ابن ماجه [4005] . قال عنه ابن حجر جيد الإسناد انظر: تهذيب التهذيب.

[6] قال ابن كثير 1 / 228: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن حبيب، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[7] أبو داود [496،4113] ، وأحمد: 2 / 187. قال الأرناؤوط في شرح السنة: 9 / 22 إسناده حسن.

[8] رواه أبو داود [547] ، النسائي 2 / 106 وحسنه الألباني في صحيح الجامع [5701] .

المصدر

كتاب: “الحكمة” ناصر بن سليمان العمر، ص35-54 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

إلى متى عدم الحكمة؟!

إن ربك حكيم عليم… لوازم ومقتضيات

من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحكيم)

أركان الحكمة وأسبابها

التعليقات غير متاحة