إن الله تعالى حَمِدَ نَفسَه على إنزال هذا القرآن العظيم، وجعله مُيَسَّرًا للأفهام، وضَمَّنَه ألوان الهدايات، ودعا عباده إلى تدبُّره، إذ إنه الطريق لِتَعَقُّل معاني القرآن، والاعتبار بأمثاله وزواجره، والتأدُّب بآدابه، والامتثال لأوامره، والاتعاظ بمواعظه.
أنواع تدبر القرآن
النوع الأول: تدبره لمعرفة صِدْق من جاء به، وأنه حق من عند الله تعالى
وذلك أن الله تعالى نَعَى على المنافقين إعراضهم عن طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 81 – 82).
قال ابن جرير – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1): «يَبِين لِمَن تَدَبَّرَه وفَكَّر فيه بفَهْم أنه من عند الله، أنزله إليك، لم تَتَخَرَّصه أنت، ولم تَتَقَوَّله ولا أحد سِوَاك من خَلْق الله؛ لأنه لا يَقْدِر أحد من الخَلْق أن يأتي بمثله، ولو تَظَاهَر عليه الجِنّ والإنس» اهـ1(1) تفسير الطبري (18/ 5 – 6)..
قال ابن القيم – رحمه الله -: «…. ولهذا ندب الله – عز وجل – عباده إلى تدبر القرآن؛ فإن كل من تدبره أوجب له تدبرُهُ علمًا ضروريًّا ويقينًا جازمًا أنه حق وصدق، بل أَحَقُّ كُلّ حق، وأصدق كل صدق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبَرُّهم وأكملهم علمًا وعملًا ومعرفة؛ كما قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82)، وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)؛ فلو رُفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًّا- يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف- أنه من عند الله، تكلم به حقًّا، وبَلَّغه رسولُه جبريل عنه إلى رسوله محمد، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد، وبه احتج هرقل على أبي سفيان، حيث قال له: فهل يرتد أحد منهم سَخْطَة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا! فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوتهُ بشَاشَةَ القلوب لا يَسْخَطه أحد2(2) رواه البخاري (7، وأطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196)..
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت: 49)، وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (الرعد: 27)؛ يعني: أن الآية التي يقترحونها لا تُوجِب هداية، بل الله هو الذي يهدي ويُضِل، ثم نَبَّهَهُمْ على أعظم آية وأَجَلِّها وهي طمأنينة في قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) (الرعد: 28)؛ أي: بكتابه وكلامه، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)؛ فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات؛ إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل» اهـ 3(3) مدارج السالكين (3/ 471)..
وذلك يحصل لهم بتدبره من وجوه متعددة؛ منها:
1- اتساق معانيه4(4) تفسير ابن جرير (8/ 567)..
2- ائتلاف أحكامه5(5) السابق (8/ 567)..
3- «تأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق؛ فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض»6(6) ما بين علامتي التنصيص من كلام ابن جرير (8/ 567)..
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: «أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي، وأن أحدًا من الخلائق لا يقدر عليه»7(7) ينظر: تفسير البغوي (1/ 566)، تفسير الرازي (10/ 196)، تفسير الخازن (1/ 564)، تفسير النيسابوري (2/ 455 – 456)، نظم الدرر للبقاعي (5/ 339 – 340)، تفسير الألوسي (5/ 92)..
4- صِدْق ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة.
ومن ذلك: كَشْف خبايا وخفايا المنافقين وإظهار ذلك، وهم يعلمون صِدْق ما أخبر به عنهم.
5- ما حواه من ألوان الأدلة والبراهين التي يخضع لها كل مُنْصِف مُريد للحق مُتجرد من الهوى8(8) ينظر: المحرر الوجيز (2/ 612)..
6- فصاحته وإعجازه للإنس والجن، عربهم وعجمهم؛ وهذه سِمَة لا تُفارقه من أوله إلى آخره، فهو على كثرة سوره وآياته، وطول المدة التي نزل فيها، لا تجد فيه تفاوتًا ولا خللًا في موضع واحد، وهذا لا يتَأتَّى للبشر مهما بلغت فصاحتهم9(9) ينظر: تفسير الرازي (10/ 196)، تفسير الخازن (1/ 564)..
7- ما اشتمل عليه من أنواع الهدايات التي تشهد لصحتها العقول- فيما للعقل مجال لإدراكه- وتوافق الفطر السليمة، فهو يدعو إلى كل معروف وخير، وينهى عن كل منكر وشر؛ فلا تجد فيه ما يُجَافي الحقيقة والفضيلة، أو يأمر بارتكاب الشر والفساد، أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة10(10) ينظر: التحرير والتنوير (1/ 223 – 224)..
النوع الثاني: تدبره للوقوف على عظاته، والاعتبار بما فيه من القصص والأخبار
وتَعَقُّل أمثاله المضروبة، وما اشتمل عليه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب؛ من أجل أن يرعوي العبد فيستدرك ما وقع له من تقصير، ويزداد من الإقبال والتشمير في طاعة الله تعالى11(11) ينظر: تفسير الطبري (21/ 215)، الوجيز للواحدي (1/ 278)، و (2/ 1004)، تفسيرالألوسي (26/ 74)، التحرير والتنوير (5/ 138)..
النوع الثالث: تدبره لاستخراج الأحكام منه
سواء كان ذلك مما يتصل بالعقائد، أو الأعمال المتعلقة بالجوارح، أو السلوك؛ إذ الأحكام تشمل ذلك كله بمفهومها الأوسع.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «فمن تدبر القرآن وتدبر ما قبل الآية وما بعدها وعرف مقصود القرآن، تبين له المراد، وعرف الهدى والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج» اهـ12(12) مجموع الفتاوى (15/ 94)..
وقال: «ومن تدبَّر القرآن طالبًا للهدى منه؛ تبين له طريق الحقِّ» اهـ13(13) العقيدة الواسطية ص: 74..
النوع الرابع: تدبره للوقوف على ما حواه من العلوم والأخبار والقصص
وما ورد فيه من أوصاف هذه الدار، وما بعدها من الجنة أو النار، وما وصف الله تعالى فيه من أهوال القيامة ونهاية الحياة الدنيا، وأوصاف المؤمنين والكافرين بطوائفهم، وصفات أهل النفاق، إضافةً إلى الأوصاف المحبوبة لله تعالى، والأوصاف التي يكرهها … إلى غير ذلك مما يلتحق بهذا المعنى.
قال مسروق: «من سَرَّه أن يَعْلَم عِلْم الأولين والآخرين، وعِلْم الدنيا والآخرة؛ فليقرأ سورة الواقعة»14(14) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 95)..
قال الذهبي: «هذا قاله مسروق على المُبَالَغة، لِعِظَم ما في السورة من جُمَل أمور الدَّارَين، ومعنى قوله: «فليقرأ الواقعة»؛ أي: يقرؤها بتَدَبُّر وتَفَكُّر وحضور، ولا يكن كمَثَل الحمار يَحْمِل أسفارًا» اهـ 15(15) سير أعلام النبلاء (4/ 68)..
النوع الخامس: تدبره للوقوف على وجوه فصاحته وبلاغته وإعجازه
وصُرُوف خطابه، واستخراج اللطائف اللغوية التي تُسْتَنْبَط من مضامين النص القرآني.
«فإنَّ من لم يتدبَّر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي، لم يقف على هذه الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم»16(16) تفسير الرازي (26/ 389)..
النوع السادس: تدبُّره لتعَرُّفِ ضُروبِ المُحَاجَّة والجدال للمخالفين
وأساليب دعوة الناس على اختلاف أحوالهم، وطُرُق التأثير في المُخاطَبين، وسُبل الإقناع التي تضمنها القرآن الكريم.
النوع السابع: تدبره من أجل الاستغناء به عن غيره؛ سوى السنَّة فإنها شارحة له
نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله: «كان الصحابة إذا جلسوا، يتذاكرون كتابَ ربهم وسنَّة نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أُخَر، وصَنْعَة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلمَ الذي يعتنون به حفظًا وفهمًا وتفقهًا»17(17) مختصر الصواعق المرسلة ص: 536، وعزاه للحاكم، ولعله أبو أحمد الحاكم صاحب الكنى، وترجمة البخاري ليست في المطبوع منها..
وقال ابن تيمية: «وأما في باب فهم القرآن فهو- أي: قارئ القرآن- دائم التفكر في معانيه والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحِكَمِه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قبله، وإلا ردَّه» اهـ 18(18) مجموع الفتاوى (16/ 50)..
النوع الثامن: تدبره من أجل تليين القلب به وترقيقه، وتحصيل الخشوع
قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23).
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21).
وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 16).
وقال تعالى: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء: 107 – 109).
وأخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك وأخبار أصحابه مشهورة لا تخفى.
قال النووي – رحمه الله -: «ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع، والتدبر، والخضوع؛ فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر.
وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة ليلة كاملة، أو معظم ليله يتدبرها عند القراءة.
وقال ابن باديس – رحمه الله -: «فوالله الذي لا إله إلّا هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إِلَانةً للقلب، واستدرارًا للدمع، وإحضارًا للخشية، وأبعث على التوبة؛ من تلاوة القرآن وسماع القرآن! »19(19) تفسير ابن باديس ص: 39..
النوع التاسع: تدبره من أجل الامتثال له، والعمل بما فيه من الأوامر، واجتناب النواهي
عن ابن مسعود – رضي الله عنه – في بيان المراد بقوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) (البقرة: 121)؛ قال: «والذي نفسي بيده، إنَّ حَقَّ تلاوته أن يُحِلَّ حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويقرأَه كما أنزله الله»20(20) رواه ابن وهب (كما في تفسير القرآن من الجامع لابن وهب ص: 23)، وابن جرير في تفسيره (2/ 567، 569). وينظر: تفسير ابن كثير (1/ 403)..
وعن عكرمة: «يَتَّبِعُونه حَقَّ اتِّباعِه باتِّبَاعِ الأمر والنهي؛ فَيُحِلُّون حلاله، ويُحَرِّمُون حرامه، ويعملون بما تضمنه»21(21) رواه الطبري في تفسيره (2/ 566) بنحوه مختصرًا..
وقال الحسن: «إن هذا القرآن قد قرأه عَبيدٌ وصبيانٌ لا علم لهم بتأويله، وما تَدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده؛ حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفًا، وقد- والله- أسقطه كله، ما يُرى القرآن له في خُلق ولا عمل؛ حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس! والله ما هؤلاء بالقُّرَّاء ولا العلماء ولا الحُكَماء ولا الوَرَعَة، متى كان القُرَّاء مثل هذا؟ ! لا كَثَّر الله في الناس أمثالهم»22(22) رواه سعيد بن منصور (135 التفسير)، والبيهقي في الشعب (2408)..
وبهذا نعلم أن تدبر القرآن يتنوع بحسب تنوع مَطَالِب المتدبرين.
كما يظهر أيضًا ما يقع للناس من التفاوت العظيم في باب التدبر، فمِن مُقِلٍّ ومُكْثِر.
ولكِنْ تأخُذُ الأذهانُ منهُ … على قَدْرِ القَرائحِ والفُهُومِ 23(23) ديوان المتنبي ص: 232.
وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن القيم – رحمه الله -: «والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حُكْمًا أو حُكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام، أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سِيَاقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضَمُّه إلى نصٍّ آخر مُتَعَلِّق به، فيَفهم من اقترانه به قَدْرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده.
وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به؛ وهذا كما فهم ابن عباس – رضي الله عنهما – من قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف: 15)، مع قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (البقرة: 233): أن المرأة قد تَلِد لستة أشهر» اهـ24(24) إعلام الموقعين (3/ 126)، وأثر ابن عباس – رضي الله عنهما – رواه عبد الرزاق في مصنفه (13446) وغيره..
ما يصلح لعموم الناس
وإذا عرفت ما سبق، فإن من هذه الأنواع ما يصلح لعموم الناس، ومنها ما لا يُحسِنُه إلا العلماء، وبناء على ذلك فإن من الشَّطَط أن تتوجَّه الأذهان عند الحديث عن التدبر إلى استخراج المعاني واللطائف والنِّكات الدقيقة التي لم نُسْبَق إليها! ! فإن ذلك لا يصلح إلا للعلماء، لكنَّ المؤمن يتدبر ليُرَقِّق قلبه، ويتعرَّف مواطنَ العِبَر، ويَعْرِض نفسَه على ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم من أوصاف المؤمنين، ويحذر من الاتصاف بصفات غيرهم، إلى غير ذلك مما ينتفع به، ويمكن حصوله لكلِّ من تدبر كتاب الله عز وجل.
الهوامش
(1) تفسير الطبري (18/ 5 – 6).
(2) رواه البخاري (7، وأطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196).
(3) مدارج السالكين (3/ 471).
(4) تفسير ابن جرير (8/ 567).
(5) السابق (8/ 567).
(6) ما بين علامتي التنصيص من كلام ابن جرير (8/ 567).
(7) ينظر: تفسير البغوي (1/ 566)، تفسير الرازي (10/ 196)، تفسير الخازن (1/ 564)، تفسير النيسابوري (2/ 455 – 456)، نظم الدرر للبقاعي (5/ 339 – 340)، تفسير الألوسي (5/ 92).
(8) ينظر: المحرر الوجيز (2/ 612).
(9) ينظر: تفسير الرازي (10/ 196)، تفسير الخازن (1/ 564).
(10) ينظر: التحرير والتنوير (1/ 223 – 224).
(11) ينظر: تفسير الطبري (21/ 215)، الوجيز للواحدي (1/ 278)، و (2/ 1004)، تفسيرالألوسي (26/ 74)، التحرير والتنوير (5/ 138).
(12) مجموع الفتاوى (15/ 94).
(13) العقيدة الواسطية ص: 74.
(14) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 95).
(15) سير أعلام النبلاء (4/ 68).
(16) تفسير الرازي (26/ 389).
(17) مختصر الصواعق المرسلة ص: 536، وعزاه للحاكم، ولعله أبو أحمد الحاكم صاحب الكنى، وترجمة البخاري ليست في المطبوع منها.
(18) مجموع الفتاوى (16/ 50).
(19) تفسير ابن باديس ص: 39.
(20) رواه ابن وهب (كما في تفسير القرآن من الجامع لابن وهب ص: 23)، وابن جرير في تفسيره (2/ 567، 569). وينظر: تفسير ابن كثير (1/ 403).
(21) رواه الطبري في تفسيره (2/ 566) بنحوه مختصرًا.
(22) رواه سعيد بن منصور (135 التفسير)، والبيهقي في الشعب (2408).
(23) ديوان المتنبي ص: 232.
(24) إعلام الموقعين (3/ 126)، وأثر ابن عباس – رضي الله عنهما – رواه عبد الرزاق في مصنفه (13446) وغيره.
المصدر
كتاب: “الخلاصة في تدبر القرآن الكريم” د/ خالد بن عثمان السبت، ص27-36.
اقرأ أيضا
من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)
من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)