استفاد المسلمون طوال تاريخهم من ثبات رسول الله وأصحابه أمورا منها الثبات، والكرّ بعد الفر وسرعة الفي والرجوع للمواجهة؛ لا الانكسار.

مقدمة

برهن التاريخ على انتصارات الأمم المغلوبة على أعدائها. ونحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخاً نستلهم منه الدروس والعبر، وما أكثر تلك اللحظات الحرجة، وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية. فقط ما عليك إلا أن تقلّب صفحات التاريخ لتقف على تلك اللحظات، ففي التاريخ عجائب الأمور، وفيه تقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وفيه سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية.

وقد رأينا في المقال السابق (من بشائر النصر في اللحظات الحرجة .. يوم الأحزاب) مواجهة نبي الله وأصحابه للمشركين يوم الأحزاب.. وهنا ننظر فيما بعد ذلك من انتصارات أعقبت انكسارات.

الصليبيون وتسلطهم على المسلمين قبل حطين

صفحة أخرى من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العزة والتمكين والنصر سيكون للمؤمنين.

لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمن؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغيرهم أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد فقط أكثر من ستين ألفاً حتى إن الدماء سالت أنهاراً في شوارع القدس وقد بلَغت حد الرُكَب.

واسمع لابن كثير وهو يقول في البداية والنهاية:

” لمّا كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج (لعنهم الله) بيت المقدس (شرَّفه الله) وكانوا في نحو “ألف ألف” مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألفاً من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علو تتبيراً”. (1البداية والنهاية، ج12،ص 166)

قال ابن الجوزي:

“وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلاً من فضة؛ زِنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنّوراً من فضة زنة أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب. وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي “أبو سعد الهروي”، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك، وتباكوا وقد نظم “أبو سعد الهروي” كلاماً قُرئ في الديوان، وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء، فساروا في الناس فلم يفِد ذلك شيئاً إذ ماتت قلوب الناس وأصابها الخوف والهلع والعياذ بالله ماتت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

حتى إنَّ “أرياط” أمير الكرك، ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين سطا على قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول: “أين محمدكم..!” دعوه ينصركم..!! (2البداية والنهاية، ج12،ص 156)

من كان يظن أن هذه البلاد ستحرر في يومٍ من الأيام على يد البطل” صلاح الدين” في معركة “حطين” الحاسمة، ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرّف التاريخ.

قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر:

“فتواجَهَ الفريقان، وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان، واغبرّ وأقتم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشيّة الجمعة، فبات الناس على مصافّهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر؛ فطلعت الشمس على وجوه الفرنج، واشتد الحرب وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيشٌ قد صار هشيماً، وكان ذلك عليهم مشئوماً، فأمر السلطان النَفَّاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجّج ـ أي: ذلك الحشيش ـ ناراً تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة، فحمَلوا..

وكان النصر من الله عز وجل فمنحهم الله أكتافهم، فقُتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأُسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفُرسانهم، وكان في جملة من أُسر جميع ملوكهم سوى “قومس قرابلس” فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذي يزعم أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يسمع لمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودمْغ الباطل وأهله..

حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرَت أمور لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً”. (3البداية والنهاية، ج12،ص 392)

من كان يظن أنها ستحدث مثل هذه الأحداث، وستحرر هذه البلاد بعد هذه الأمور من تسلط الصليبيين ومن أذاهم للمسلمين.

التتار والعالم الإسلامي

صفحة أخرى من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العزة والتمكين والنصر سيكون للمؤمنين.

وهذه الصفحة هي لما خرَّب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً حتى قيل إن جبالاً شامخة وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين.

واسمع لابن الأثير وهو يروي لنا الخَطْب والحدَث في كتابه “الكامل”؛ في الجزء التاسع، يقول:

“ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة، ذِكْر خروج التتر إلى بلاد الإسلام، لقد بقيتُ عدة سنين ـ هذا كلام ابن الأثير ـ مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين..؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟!

فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يُجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائقَ، وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالَم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها…”

إلى أن وصف هذا الحدث، وهذا الخَطْب، بصفات عجيبة غريبة، من أراد أن يرجع إليها فليرجع إليها هناك.

إلى أن قال:

“وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ـ كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في العالم الإسلامي ـ فإنا لله وإنا إليه راجعون..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..! لهذه الحادثة التي استطار شرها، وعَمَّ ضررُها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح..

فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين وقصَدوا بلاد تركستان مثل “كاشور” و”بلد سوغون”، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل “سمرقند” و”بخارى” وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى “خراسان” فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى “الري” و”همذان” و”بلد الجبل”، وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم بلاد أ”ذربيجان” وأرمينية”، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر، كل هذا في أقل من سنة، هذا ما لم يُسمع بمثله..”.

إلى أن قال أيضاً:

“ففعلوا فيها ـ أي في بلاد الهند وسجستان وكرمان وغيرها ـ ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء أو أشد ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون أنه ملَك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً؛ إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة ـ شاهد إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله ـ ولم يبِت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقّب وصولهم إليه، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك.

إلى أن قال:

“ولقد بُلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يُبتل بها أحد من الأمم منها”.

ثم قال في آخر الأمر:

“فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾”. (4الكامل في التاريخ، ج9، ص413 -415)

خاتمة

أقول: ونحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشاً ونحن نسمع مثل هذه الكلمات، فنقول: من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى..!!

كل هذه الصفحات والتاريخ مُليء بمثل ذلك وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين.

أقول: كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومِحَن أن بعدها فرجا، وأن بعدها نصرا، لكن المهم أن ننصر نحن دين الله، أن نقوم بواجبنا.

لقد قام بعدها المسلمون وأدخلوا التتار أنفسهم في الإسلام، وأصبحوا من جند الإسلام، وأقاموا ممالك إسلامية في مناطق لم يصل اليها المسلمون كروسيا وكرواتيا وسيبيريا وممالك في الهند وغيرها..

لقد انكسر الغازي ودخل في دين الله وأصبح جندا له.. وغدا يحمل للمسلمين خيرا بإذن الله تعالى إذا ما استقمنا على دين رب العالمين وصدَقنا مع ربنا تعالى.

…………………………..

الهوامش:

  1. البداية والنهاية، ج12،ص 166.
  2. البداية والنهاية، ج12،ص 156.
  3. البداية والنهاية، ج12،ص 392.
  4. الكامل في التاريخ، ج9، ص413 -415.

المصدر:

  • الشيخ إبراهيم الدويش .. محاضرات مفرغة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة