إنْ كان مِنْ كلمةٍ تُقال وقتَ الحرب، فلتكن كلمة حَثٍّ على الصبر، أو وَعْدٍ بنصرٍ، أو استنهاضٍ للهمة، أو تفريجٍ للغُمَّة، أو تثبيتٍ للفؤاد، أو ترسيخٍ للسُّهَادٍ.
جعلوا أنفسهم قضايا
“في الحرب ينبغي أن لا يشهر سيفٌ إلا في نحور الأعداء، ولا ينطق لسانٌ إلا بتثبيت الجند”.
في زمن الفتن والحروب، حينَ تُدْمِي الجِراح، وتَتَكَالَبُ الخُطُوب، يظهر دعاة من بني جلدتنا كان الأمل بهم أن يكونوا سُرُجَ الطريق، وإخوان النوائب والمحن، فإذا بهم معاول هَدٍّ لبناء المجد، وفؤوس كَدٍّ لِصَرْحِ الجِدِّ، جعلوا من ذواتهم معارك تُلهِي عن العدو الغادرين، ولأهل الثغور طاعنين، وللمستضعفين لاذعين، ولأولي القصور عاذرين، وعن ظلم الطواغي صامتين، فتنشغل بهم الأمة ما بين مؤيدٍ ومعترِضٍ، فيبددون طاقاتِ الأمة في سجالات فارغة، لا يجمعون الصفوف، بل يمزقونها، لا يطفئون الحرائق، بل يؤججونها، أساؤوا إذ شخصنوا القضايا الكبرى، وأهدروا الجهود في معارك الأنا حيث الأُمَّةُ المكلومةُ تحتاج من يوحدها، لا من يزيد جراحها.
ويوم تهاطلت النوازل، ما شدوا الأَزْرَ، بل أثاروا الخِصَام، صارت القضايا العظيمةُ مسارحَ لأسمائهم، ومصائبُ الأمة أرصفةً لعرض ذواتهم، فتبددت بهم الطاقات، وخابت بهم الآمال، وضاع بعم العمر في جدال عقيم.
وآه وألف آهٍ، كم أهدرت من ساعاتٍ، وَبُدِّدَتْ من طاقاتٍ لمتابعة كلمة لاذعة لأهل الثغور، وكم كتبت ردودٌ وتعقيبات، والعدو يضحك ساخرا، ويا ويح أمة ضحكت من جهلها الأمم.
ألا فليتق الله مَنْ جعلوا أنفسهم قضايا، وخانوا الأمانة تحت لافتة النصح؛ فالأمة أحوج اليوم إلى رواسي تَبني وتُثَبِّت، لا إلى ثقوب تَهْدِمُ وأقلامٍ َتُثَبط، وإلى شموع تحترق لتنير الطريق، لا إلى نجومٍ زائفة تتلألأ على أنقاض المُصَابين.
زمنَ اللقاء مقامُ ثباتٍ لا مقام لَوم
يا ويح أقوامٍ ما عرفوا للأقدام حقها حين وجب الثبات، ولا لليقين موضعه حين اضطربت الرايات، بل تزاحموا على الانتقاد، وسيوف العدو مسلولة، ورماحه مشرعة!
أما سمعوا قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتو) أم حسبوا أن النصرة تُنال بألسنةٍ تلوك العتاب، وأقلام لا تكتب إلا التوبيخ والملامة.
لقد علمنا الله، جل ثناؤه، أن زمنَ اللقاء مقامُ ثباتٍ لا مقام لَوم، وموقفُ حزمٍ لا موقف عذل وتأنيب.
وما عهدنا ربنا -جَلَّ وَعَزَّ- أَمَرَ بلومٍ أو تقريعٍ في ساحة الوغى وساعة التحامِ الصُّفوف، وسيلِ الدماء، وَتَقَارُعِ الرِّماح، وما أنزلَ في لحظةِ الطِّعان نصًا بالانتقاد ولا بالتوبيخ، بل كان الأمر المحكمُ والوصية المحسومة: (اثبتوا).
فلم يأمرهم حينَها بمراجعة نقد، ولا بإثارة عتاب، ولا بإظهار تقصير، بل أطلق لهم زمام الثبات، وأوصاهم بالذكر، وجعل الفلاح غاية الصابرين.
في الحرب تُدفن الأحقاد، وتُنْسَى الزَّلات
وما حديثُ الهزيمة إلا بعد الفراغ من الحرب، فإذا كان النصر فالمنة لله، وإن كانت النكسة فالعتاب يُدارَى، والرأيُ يُسْتَجْلَى، والمَآخِذُ تُناقَشُ على طِاوِلة السِّلْم والوئام، لا على ظهر الخيل وتحت ظلال السيوف.
ويومَ أُحُدٍ حينَ طاشت السِّهَام، وادّعى النصرَ قومٌ قبلَ الأَوَان، ما عنّف الله تعالى المؤمنين إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وانكشف غبارُها، وَخَبَا أُوَارُها.
ويومَ حُنين حينَ أعجبتهم كثرتهم وولَّوا مدبرين لَمْ يَلُمْهُم إلا بعد انجلاء الخطر، وإياب الجمع، وعودة الرايات.
بل كان الأمر في اللقاء واحدًا لا ثاني له: “اثبتوا”.
يا قوم، التثريب ، لا يكون قبل انتهاء الهَيْجَاء ووقف الوغى.
وتقليبُ وجوه الرأي لا يكون إلا بعد انكشاف الغبار، وزوال الدَّمَار، وانطفاء سعير القتال.
إذ لا يَصِحُّ أن يُقَام ميزانُ الحساب وسيوفُ العَدُوِّ بَعْدُ مُشْرَعَةٌ، والدِّمَاء لَمْ تَجِفَّ!
وقد قيل “في الحرب تُدفن الأحقاد، وتُنْسَى الزَّلات، ويُحفظ الجَنَانُ عن الحسرات.”
كل رأيٍ لا يورث عزيمة، فهو خذلان مستتر في أثواب الناصحين
أفبعد هذا يُستباحُ النقدُ في لُجَّةِ المعركة، وتُشْهَرُ سيوفُ اللوم على ظهور المجاهدين، قبل أن تنقشع غَبْرَةُ الملحمة؟!
إن كل قولٍ لا يورث تثبيتًا، في معمعان الحرب، فهو وخزٌ في خاصرة الصفوف وسهمٌ في قوس العدو، ولو حسُن قصد قائله!
وإن كل رأيٍ لا يورث عزيمة، فهو خذلان مستتر في أثواب الناصحين.
وقد قال الحكماء:
“آفة الرأي الهوى، وآفة الحرب الكلام”
اصدعوا بالتثبيت، وكفوا عن التثريب
فاصدعوا بالتثبيت، وكفوا عن التثريب، إذ كل حديثٍ سواه، إما أن يكسر شوكة الأمة، أو يقوّي ساعد المجرمين.
وفي زمن الحرب لا صوت يعلو فوق صوت التطمين والتثبيت، ولا يُدعى إلى ملامةٍ حتى تنقضي الحروبُ، ويستريح المجاهدُ، وَتَبْرَأُ الجراحات.
أما النقد، والعذل، وفضح الأخطاء في أحرج الساعات، فمما يزيد الضعف، ويكسر الصفوف، ويفتح الباب للأعداء أن يشمتوا، وأن يتفرجوا على أمةٍ تقاتل نفسها قبل أن تقاتلهم.
وها هو ذا الحكيم يقول:
“أشد مصائب الحرب لسانٌ مذعور، وقلبٌ موتور”.
واعلموا أن الخذلان يبدأ بكلمة، وينمو بشائعة، ويثمر انكسارًا ومقتلة.
وقد قيل في الحكم البالغة:
“أحزم الناس من كفّ لسانه عند الغضب، وحبس رأيه عند القتال”.
وفي مقابل هذا قيل:
“أحمق الناس من عاب جيشه وهو بين الصفين”.
ذلك أن كل كلمة تقال في غير موضعها سلاحٌ على ذِيها، وكلَّ صوتٍ مخالف ساعةَ اللقاء هَدْمٌ لِمَا تَبْنِيهِ السُّيُوفُ والرِّمَاح.
وليس أشأمَ على الأمة في ساعات النزال من ألسنةٍ سالِقةٍ، وأقلامٍ لاذِعَةٍ، إذ إن تثبيت الصفوف وقت الحرب فرضٌ لا يسقط، وكسر شوكتها خيانة لا يستهان بها.
وإنْ كان مِنْ كلمةٍ تُقال وقتَ الحرب، فلتكن كلمة حَثٍّ على الصبر، أو وَعْدٍ بنصرٍ، أو استنهاضٍ للهمة، أو تفريجٍ للغُمَّة، أو تثبيتٍ للفؤاد، أو ترسيخٍ للسُّهَادٍ.
الثبات ثم الثبات
ألا وإن من البلاء أن يُطعن الجيشُ من خلفه وهو يُدافع عن قومه، وأن يُخْذَلَ المُقَاتِلُ وهو يستبسل دفاعًا عن أرضه وعرضه.
فاحذروا أن تكونوا ممن إذا سمعوا صهيل الخيل أطلقوا ألسنتهم في تثريب الفرسان، وَسَلْقِهِم باللسان.
والثبات، ثم الثبات، إذ هو السُّورُ الذي تَحْتَمِي بِهِ الأُمَّةُ ساعةَ الفَزَعِ، والسهمُ الذي يرمي به اللهُ عَدُوَّها وقتَ الارتياعِ، وَمَنْ رَامَ النَّصْرَ بِغَيْرِه رَامَ سَرَابًا.
وكما قيل:
“إذا عصفت الرياح فاستمسك بالجذع الأمتن”
كذلك إذا عصفت الفتن، فالزموا الثبات فإنه الأمتن.
فاللهَ اللهَ في أصحاب الثغور، المواجهين العدوَّ بالمُهَجِ والنُّحُور، لا تتخذوهم غرضا.
وخذها مِنْ غَيْرِ فَقِيهٍ: “إذا التبست عليك الأمور، فانظر أين يجتمع السهامُ والرِّماحُ”.
ألم تروا إلى قول الشاعر في حكمة الأولين:
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خَيَارَهُمْ … وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
وعلى الله قصد السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير.
المصدر
صفحة د.عثمان محمد غريب، على منصة ميتا.
اقرأ أيضا
مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية
طوفان الواجبات.. وواجبات الطوفان