يتكالبُ أعداءُ الإسلامِ في كلِّ زمنٍ محاربينَ دِينَ اللهِ ورسلَه والمؤمنينَ، ويتفنَّنُ أولئكَ الأعداءُ في كلِّ عصرٍ بما يُناسبُه منْ وسائلِ الحربِ والعداءِ.

وفي أيامِنا هذهِ تشتدُّ هجمةُ الأعداءِ، ويتجدّدُ مكرُهمْ، وتتوحَّدُ قُواهم لضربِ المسلمينَ وحِصارِهمْ .. والمسلمونَ كلَّما دهمتْهم الخطوبُ رجعوا إلى كتابِ اللهِ فوجدوا فيهِ الشفاءَ والهدى والنورَ والضياءَ..

مكرِ الأعداءِ من خلالِ آياتِ الكتابِ العزيزِ ..

ذلكَ الكتابُ المُعجِزُ المتجدِّدُ في عرضِه وعِبَرِه، فماذا نجدُ فيهِ عنْ مكرِ الأعداءِ وعاقبتِهمْ ونهايتِهم؟

أولًا: العداءُ والمكرُ سُنّةٌ جاريةٌ وقَدَرٌ إلهيٌّ

قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:123).

قال ابنُ كَثيرٍ رحمهُ اللهُ: وكما جعلْنا في قريتِكَ يا محمدُ أكابرَ منَ المجرمينَ، ورؤساءَ ودعاةً إلى الكفرِ والصدِّ عنْ سبيلِ اللهِ، وإلى مخالفتِكَ وعداوتكَ، كذلكَ كانتِ الرسلُ منْ قَبْلِك يُبتلَوْنَ بذلكَ، ثمَّ تكونُ العاقبةُ لهمْ .. وقالَ تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} (الرعد:42).

ثانيًا: هذا المكرُ والعداءُ يتعاونُ عليهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ

كما قالَ ربُّنا تباركَ وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (الأنعام:112).

عنْ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ في المسجدِ، فجلستُ، قالَ: «هلْ صلَّيتَ»؟ قلتُ: لا، قالَ: «قُمْ فصلِّ»، قالَ: فقمتُ فصلَّيتُ، ثمَّ جلستُ، فقالَ: «يا أبا ذرٍّ! تعوَّذْ باللهِ منْ شرِّ شياطينِ الإنسِ والجنِّ»، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ وللإنسِ شياطينُ؟ قال: «نعمْ {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}».

ثالثًا: وهذا المكرُ مع غرورهِ تَصغَى إليهِ أفئدةُ مَن لا يؤمنونَ

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} (الأنعام:113).

إن هؤلاءِ المغرورينَ بالزُّخرفِ يَعملونَ ما يعملونَ منَ العداوةِ للهِ ولرسلهِ

وللمؤمنينَ، فهمْ لا يكتفونَ بالإصغاءِ والسَّماعِ .. ولا يَقِفُونَ عندَ حدِّ الرِّضاءِ والقبولِ، بل يقترفونَ ويخطِّطون ويَعملون.

إنها آيةٌ ظاهرةٌ في تعاونِ الأعداءِ فيما بينهمْ ضدّ الإسلامِ والمسلمينَ، والمعركةُ التي يقودُها الباطلُ والمبِطلون ضدَّ الحقِّ يتجمِّعُ فيها أصنافُ الشياطينِ، ويتعاونونَ لإمضاءِ خطّةٍ مدبَّرةٍ. فبعضُهمْ يوحِي إلى بعضٍ، وبعضُهم يُغوي بعضًا.

رابعًا: مكر الماكرين مقيَّدٌ بقَدَرِ اللهِ، ومُحاطٌ بمشيئتهِ سبحانَه

هذا الكيدَ والمكرَ مهما بلغَ شأنُه واجتمعَ لهُ الخصومُ منْ كلِّ صوبٍ فليسَ طليقًا .. بلْ هوَ مقيَّدٌ بقَدَرِ اللهِ، ومُحاطٌ بمشيئتهِ سبحانَه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (الأنعام:112)، إنهُ لا ينطلقُ كما يشاءُ بلا قيدٍ ولا ضابطٍ، ولا يصيبُ مَن يشاءُ بلا مُعقِّبٍ ولا رادعٍ .. وإنَّ الأعداءَ مهما بلغتْ قوتُهم وإرادتُهمْ فهيَ مقيَّدةٌ بمشيئةِ اللهِ ومحدودةٌ بقَدَرِ اللهِ .. وهنا يتعلَّقُ المؤمنُ باللهِ ويُسلّي نفسَه موقِنًا بأنَّ القوةَ للهِ جميعًا .. وأنَّ الخَلْقَ مهما صَنعوا فهمْ لا يشاءونَ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، فيعتصمُ المؤمنُ باللهِ وحدَه، ويتوكَّلُ عليهِ وحدَهُ، ويخافُه وحدَهُ، ويرجوهُ وحدَه، معَ فعلِ الأسبابِ والأخذِ بسُبلِ النجاةِ.

خامسًا: والماكرونَ لهمْ عذابٌ شديدٌ، ومكرُهمْ يبورُ

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (فاطر:10)، قالَ أبو العاليةِ: همُ الذينَ مكروا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لمّا اجتمعوا في دارِ النَّدْوةِ 1(1) تفسير القرطبي 14/ 332..

ونهايةُ مكرِهمْ في تبابٍ، واللهُ يدافعُ عنْ أوليائهِ المؤمنينَ ويحفظُهمْ منْ مكرِ

الماكرينَ، وهذهِ قريشٌ تجتمعُ وتُخطِّطُ وتُدبِّرُ المكائدَ وتصنعُ المؤامراتِ لإنهاءِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يُبطِلُ اللهُ كيدَهمْ ويُفشلُ مخطّطَهم، ويوحي إلى نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم بما ائتمروا بهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30).

سادسًا: المكرُ السيئُ يَحيقُ بأهلِهِ

{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (فاطر:43) وفي أمثالِ العربِ: «مَنْ حفرَ لأخيهِ جُبًّا، وقعَ فيه مُنْكبًا»، وروى الزهريُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكرْ ولا تُعِنْ ماكرًا، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}»2(2) تفسير القرطبي 14/ 360..

وربُّك يُمهلُ الظالمَ حتى إذا أخذَهُ لم يُفلتْه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102).

سابعًا: عاقبةُ المكرِ والماكرينَ

هيَ الهلاكُ والتدميرُ عاجلًا في الدنيا ومؤجَّلًا في الآخرةِ: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (النمل:51، 52).

أجلْ لقدْ تجاوزَ التدميرُ التسعةَ الرهطَ المفسدينَ إلى قومِهمْ أجمعينَ، وكذلكَ يُحيطُ عذابُ اللهِ بالمفسِدينَ والمتعاونينَ والساكتينَ الراضينَ .. وما ربُّكَ بغافلٍ عمّا يعملونَ.

ومَنْ تأمَّلَ في آياتِ القرآنِ وَجَدَه يَعرضُ عنْ أُممٍ مَكَرتْ فحلَّتْ بها عقوبةُ اللهِ في الدنيا، وما ينتظرُها في الآخرةِ أشدُّ وأخزى، وهذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم يُسلِّي ويسرِّي عنه ربُّه ويُصبِّرُه على مَكْرِ قريشٍ بذكرِ مكرِ الأُمم الماضيةِ ومصيرِهم، ويقولُ تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ .. } (النحل:26، 27).

نَعَمْ لقدْ مكرَ الذينَ منْ قَبْلِ قريشٍ، ومكرتْ قريشٌ، ومكر من بعد قريش وما يزال المكرُ ساريًا والنتيجة واحدة {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فانهدمَ عليهمُ البنيانُ الذي شيَّدوهُ، وكانَ مقبرةً لهمْ، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)، وكذلكَ يحيقُ المكرُ السيئ بأهلهِ، وتلك سُنّةُ اللهِ معَ جميعِ الماكرينَ: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 42).

عاقبة الماكرين في الدنيا والآخرة

قدْ يُزيَّنُ للماكرينَ مكرُهمْ، وقدْ يغترُّ المبطِلون بباطلهمْ، ولكنَّ ذلكَ لا يُلغي حقيقةً قرآنيةً بأنهمْ -هؤلاءِ الماكرينَ- صدُّوا عنِ السبيلِ، وبأنهم ضالُّون عنِ الطريقِ الحقِّ، ومَنْ يضلِلِ اللهُ فما لهُ منْ هادٍ، اسمعْ إلى ذلكَ كلِّه في قولهِ تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33)، والنتيجةُ المُرتقبةُ لهؤلاءِ: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (الرعد: 34)، فهمْ إنْ أصابتْهم قارعةٌ، أو حلَّتْ قريبًا منْ دارِهمْ فهوَ الرعبُ والقلقُ والتوقُّعُ وإلا فجفافُ القلبِ منْ نورِ الإيمان عذابٌ، وحيرةُ القلبِ بلا طمأنينةِ الإيمانِ عذابٌ، ومواجهةُ كلِّ حادثٍ بلا إدراكٍ للحكمةِ الكبرى وراءَ الأحداثِ عذابٌ، ثمَّ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}3(3) في ظلال القرآن 4/ 2063..

أمّا المؤمنونَ الصادقونَ في إيمانِهمْ فقدْ ينالُهم بأسٌ منْ مكرِ الماكرينَ، وقدْ يتعرَّضونَ لأذىً منْ كيدِ الكائدينَ، وذلك ليبتليَ اللهُ المؤمنينَ ويُمحِّصَهمْ ويَمحقَ الكافرينَ ويكشفَ المنافقينَ .. إنها البأساءُ والضرّاءُ يُمتحنُ بها المسلمونَ للثباتِ على الإسلامِ وإنْ هُوجمَ .. وللصبرِ على الحقِّ وإن طُورِدَ، وعدمِ الفتنة بالباطلِ وإنْ علتْ رايتُه فترةً منَ الزمنِ، والنصرةِ للمسلمينَ وإن كانوا قِلّةً مُضطهدينَ.

معية الله لعباده المؤمنين

إنَّ ممّا يُسلِّي المؤمنينَ ويُصبِّرُهم ويُكثّرُ قلَتَهم، ويُقوِّي ضعفَهمْ أنهم لا يخوضونَ المعركةَ معَ الكافرينَ وحدَهمْ، بلِ اللهُ معهمْ، وهو حسبُهمْ وناصرُهم والمدافعُ عنهمْ والمنتقمُ منْ أعدائهمْ، تجدونَ مصداقَ ذلكَ في عددٍ منْ آياتِ القرآنِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (التوبة:14)، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ثم قال بعدها: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (الأنفال:17، 18)، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 38، 39).

وبعدَ هذا العرضِ لشيءٍ منْ آياتِ المكرِ في القرآنِ يَرِدُ السؤالُ: وأينَ المسلمونَ منْ هذهِ التوجيهات وغيرِها في القرآنِ؟ أينَ همْ منها عِلمًا وعملًا .. ومعرفةً ويقينًا. وصدق اللهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الإسراء:9، 10).

إلى متى يظلُّ المسلمونَ هدفًا لمخططاتِ الأعداءِ؟

ونحنُ هذهِ الأيامَ أمامَ هجمةٍ شرسةٍ بكلِّ المقاييسِ وأنواعِ الهجومِ، وفي ظلِّ أزمةٍ لا يعلمُ مَداها إلا اللهُ فالمستقبلُ مظلمٌ، ومؤشِّراتُ الملاحمِ والفتنِ تملأُ الآفاقَ، والمصيبةُ أنَّ المسلمينَ في غفلةٍ عنْ هذا، على حينِ يتحرَّكُ الأعداءُ ويجتمعونَ ويخطَّطونَ، والبوارجُ الكبرى تمخرُ عُبابَ البحرِ محمَّلةً بأنواعِ الأسلحةِ .. وأساطيلُ الجوِّ تتحرَّكُ منْ مغربِ الأرضِ إلى مشرقِها .. والمناوراتُ العسكريةُ منْ قِبَلِ جنودِ النصارى واليهودِ على أشُدِّها،…… وهلْ يسوغُ أنْ يظلَّ المسلمونَ يتفرَّجون والعدوُّ يحتل بلادَهمْ، ويقتلُ أبناءَهمْ، ويسيطرُ على مقدَّراتِهم؟ تلكَ أسئلةٌ كثيرًا ما تُثارُ .. فمنْ يجيبُ عنها بصدقٍ؟

لقدْ أصيبَ المسلمونَ بُذلٍّ، وهمُ الأعزّاءُ، وتفرَّقتْ كلمتُهمْ وهمُ الأمّةُ الواحدةُ .. وأصبَحوا هدفًا للغزوِ بعدَ أنْ كانوا قادةَ الفتحِ، والإسلامُ لا خوفٌ عليهِ ولكنَّ الخوفَ على المسلمينَ، فاللهُ يقولُ: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38) فإلى متى يظلُّ المسلمونَ هدفًا لمخططاتِ الأعداءِ؟

إنَّ الإسلامَ يأبى الذوبانَ في المِللِ الأخرى .. بلْ يظلُّ مدُّه حتى في الأزماتِ .. واليومَ يشهدُ الناسُ أنَّ دينَ اللهِ يسيحُ في أرضِ اللهِ رغمِ المطاردةِ والتهمِ والإرجافِ والإرهاب، وفي بلادِ الغربِ نفسِها نطالعُ كلَّ يومٍ خبرًا عنْ إسلامِ مجموعةٍ منْ غيرِ المسلمينَ، ولمْ يَعُدِ الأمرُ قصرًا على الرجالِ بلْ شملَ النساءَ ناهيكَ عنْ مدِّهِ في آفاقِ الأرضِ كلِّها…..

وهكذا يمكرُ الأعداءُ ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ، وكلَّما ظنُّوا أنهمْ أوشكوا على القضاءِ على المسلمينَ وإذا بالإسلام يُثبِّتُ أقدامَهم، ويُوقظُ عزائمَهمْ.

منْ مخارجِ الأزمةِ

الإيمانُ باللهِ واليقينُ بنصرِه والتوكلُ عليهِ وحْدَه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173).

أجلْ حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، قالَها إبراهيمُ عليهِ السلامُ حينَ أُلقيَ في النارِ، فكانَ الجوابُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 69، 70).

وقالها المؤمنونَ معَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينَ قيلَ لهمْ: إنَّ الناسَ قد جَمَعوا لكمْ فاخشَوْهم، في حمراءِ الأسدِ، فكانَ الجوابُ: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 174).

وما زالَ التوكلُ على اللهِ واليقينُ بنصرهِ سلاحًا يتدرَّعُ بهِ المؤمنونَ كلَّما اشتدتِ الأَزماتُ وتكالبَ الأعداءُ، ولكنْ لا بدَّ معَ الإيمانِ منْ عملٍ، ومعَ اليقينِ منْ جهدٍ يُبتلى فيهِ الإيمانُ ويتميَّزُ الصادقونَ من الكاذبين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 142).

إنَّ منْ معوِّقاتِ النفسِ عن الجهادِ: حبَّ الآباءِ والأبناءِ والإخوانِ والأزواجِ والعشيرةِ والأموالِ والتجارةِ التي يُخشى كسادُها، والمساكنِ التي تُرضى، وإيثارَ السلامة والإخلادِ للراحةِ والدَّعَةِ .. وتلكَ التي حذَّرَ اللهُ منها المؤمنينَ بقولِهِ: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).

إنَّ ما عند اللهِ خيرٌ وأبقى .. وهذهِ الحياةُ الدنيا متاعٌ، والآخرةُ هيَ دارُ القرارِ.

وماذا بعدَ أنْ تُهانَ كرامةُ المسلمينَ ويُسخَرَ بديِنِهمْ ونبيِّهم، ويُهدَّدوا بالاحتلالِ في قعرِ ديارِهمْ .. إنَّ المسلمينَ وُعِدوا إحدى الحسنَييْن: فإمّا النصرُ وإمّا الشهادةُ.

مَنْ لمْ يمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِهِ … تنوَّعتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ

فإمّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ … وإمّا مماتٌ يّغيظُ العِدا

ولنْ تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزْقَها وأجلَها، لقدْ أصيبَ المسلمونَ بالوهنِ، وطغى عليهم حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ، ومن عجبٍ أنَّ غيرَ المسلمينَ باتوا يُفادُونَ بأنفسِهمْ وهمْ على الباطلِ، ويَرحلونَ منْ بلادِهم ويهاجِمونَ دونَ هدفِ خيرٍ، على حينِ يبخلُ المسلمونَ بأنفسِهم، وهمْ على الحقِّ .. ويَعجزونَ عنِ الدفاعِ عن أنفسِهمْ وإخوانِهم وبلادِهمْ ومقدَّساتِهم، وهمْ يُهاجَمونَ .. وللهِ في خَلْقِه شئونٌ .. ومهما بلغتْ قوةُ الأعداءِ .. ففيهمْ منَ الرعبِ والخوفِ والضعفِ والَخوَرِ .. ما اللهُ بهِ عليمٌ .. فلوْ صدقَ المسلمونَ لأرهبوهمْ، ولوِ اجتمعتْ كلمتُهمْ لأخافوهمْ .. ولوْ دافعوا عنْ دينِهمْ وحُرُماتِهم لدافعَ اللهُ عنهمْ.

اللهمَّ انصرْ دِينَكَ، وعبادَكَ .. وانتقمْ ممنْ أرادَ بالمسلمينَ سوءًا، يا عزيزُ يا جبَّارُ.

الهوامش

(1) تفسير القرطبي 14/ 332.

(2) تفسير القرطبي 14/ 360.

(3) في ظلال القرآن 4/ 2063.

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” د. سليمان بن حمد العودة (ج10/ص142-153).

اقرأ أيضا

مُسلََّمات في معركة الحق والباطل

آيات ناطقات بسنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (2)

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

التعليقات غير متاحة