الحمد لله رب العالمين أن هدانا للإسلام واتباع سنة سيد الأنام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آل بيته الطيبين، وصحبه الغر الميامين، وعنا معهم بفضله وكرمه؛ إنه سميع مجيب، أما بعد:
نعمة الفهم الصحيح للدين
فما أعظم الهداية للإيمان من نعمة، وما أجزلها من هبة، وما أهنأها من عيشة نقية هنية في الدنيا والآخرة؛ قال الله عزّ وجلّ في معرض امتنانه على هذه الأمة ببعثة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم: (لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ) [آل عمران:164] وامتن علينا سبحانه بأن أكمل لنا الدين فقال: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا ) [المائدة:3]، وأكَّد حسن هذا الدين وأحكامه الهادية للطريق المستقيم، المتضمَّنة في كتابه العزيز فقال ( إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ) [الإسراء:9].
وما أنعم الله على عبد بعد نعمة الإسلام بمثل ما أنعم عليه بفهم صحيح نقي لهذا الدين، وعقائده، وأحكامه، وأخلاقه، مصحوبًا بنية صالحة خالصة لله عزّ وجلّ؛ يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجَلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى» [إعلام الموقعين (1/69)].
وحين يرى المؤمن ما تعيشه المجتمعات الكافرة المحرومة من هذه النعمة، وما هي فيه من تخبط وتناقض واضطراب وشقاء، يزداد حمده لله تعالى، وفرحه وغبطته بما أنعم به عليه؛ فرغم ما وصلت إليه هذه المجتمعات من ترف وعلم بظاهر من الحياة الدنيا إلا أنها تنحط وتهبط إلى السفول في أفهامها وموازينها ومعاييرها وأخلاقها؛ ذلك أنها مقطوعة الصلة بالله عزّ وجلّ فاطر السماوات والأرض، العالم بخلقه، اللطيف الخبير، ومقطوعة عن منهجه القويم، وهدايته سبحانه، ونوره الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ ومن أمثلة العرب: «والضدُّ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ»، و«بضدها تتميز الأشياء».
وإن أعداء الإسلام من قديم الزمان رأوا ما منَّ الله به على المؤمنين من رسول الإسلام خير الأنام، وما أنزل عليه من الكتاب المنير الهادي إلى سواء السبيل، وقارنوه بما هم عليه من اضطراب وشقاء، فبدلًا من أن يدخلوا في دين الإسلام لينعموا بمثل ما تنعَّم به المسلمون استكبروا على الحق، وحسدوا المسلمين على هذه النعمة الجليلة التي حُرموا منها، وبذلوا جهدهم لحرفهم عن مفاهيم هذا الدين، وشنوا عليهم حروبهم العسكرية والعقدية وغير الأخلاقية طمعًا في ردهم عن دينهم؛ قال تعالى
: (وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّ) [البقرة:109]، وتوارثوا هذا الحقد والنهج جيلًا بعد جيل حتى عصرنا الحالي، ولمَّا يئسوا من إخراج المسلمين عن دينهم توجهوا إلى إثارة الشبهات حول مسلَّمات هذا الدين ومحكماته، وعمدوا إلى تشويهها من خلال التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم الشرعية، وصرفها عن معانيها الصحيحة وتسميتها بغير اسمها، فجاءوا بمفاهيم غريبة منحرفة أفرزتها عقائدهم الكفرية، فأضحت مفاهيم مشوهة تبعًا لمصدرها الجاهلي البشري المشوه.
تميز المفاهيم الإسلامية عن غيرها
ولسائل أن يسأل عن أسباب هذه الفروق العظيمة بين مفاهيم الإسلام النقية السامقة العادلة، ومفاهيم الكفر وأهله المتسمة بالظلم والانحطاط والتلوث والاضطراب في الموازين والأحكام، ونحسب أن المتأمل في المنهج الرباني وخصائصه وسماته، وفي المنهج البشري الجاهلي وصفاته، لن يجد عناءً في الإجابة على هذا السؤال المطروح، ومع ذلك فيمكن حصر الإجابة عليه في الأمور الآتية:
1 – إن مفاهيم الإسلام ربانية المصدر قرآنية المنطلق؛ فلا جرم جاءت عادلة، كاملة، شاملة، متوازنة، نقية ومنزهة عن كل صفات النقص؛ لأنها من الله عزّ وجلّ العليم الخبير(أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ) [الملك:14]، المبرَّأ من كل نقص، السالم من الظلم والهوى والجهل، العالم بما يصلح لعباده في معاشهم ومعادهم، العالم بما كان وما سيكون، وما لم يكن لوكان كيف سيكون.
وعلى العكس من ذلك فمفاهيم الجاهلية صادرة عن هذا الإنسان الضعيف المحدود زمانًا ومكانًا، صاحب الهوى والجهل والظلم والطغيان، المنبَتّ عن ربه وعبادته؛ فلا جرم أن جاءت مفاهيمه وتصوراته متصفة بصفاته؛ حيث الجهل، والنقص، والظلم، والتناقض والاضطراب، وعدم التوازن.
2 – إن أي مفهوم يُطرح للناس محكومٌ بعقيدة من يطرحه في إله الكون، وفي الكون نفسه، وفي الحياة والإنسان والغاية من خلقه، ومصيره بعد الموت؛ فكل مفهوم هو مقتضى هذه العقيدة أو التصور، وانعكاس لها حسنًا أو قبحًا، سواء بسواء.
ولأن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو الذي يمدنا نحن المسلمين بالفهم والتصور عن إلهنا رب هذا الكون وخالقه، وعن الكون والإنسان والغاية من خلقه ومصيره، فهو الفهم الحق الذي يعطينا الإجابات اليقينية على كل ما سبق، بخلاف الكافرين الذين لم ينعموا بعقيدة الإسلام؛ فتصوراتهم ومفاهيمهم لا تنتج إلا عن زبالات أذهانهم ونحاتات أفكارهم، فهي تتيه في بحر من الظلمات والجهل، فضلَّتْ وشقَتْ وأضلَّتْ وأشقَتْ.
3 – وبناء على ما سبق فالفرق الثالث والمهم بين المفاهيم الربانية والمفاهيم البشرية الجاهلية هو الفرق بين التوحيد والشرك؛ فلا تستوي مفاهيم العابد لله وحده، المتبرئ من الشرك وأهله، ومفاهيم الكافر المنقطع عن ربه عزّ وجلّ وشرعه؛ قال تعالى: (وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ ١٩ وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ ٢٠) [فاطر:20،19]، وكل إناء بما فيه ينضح.
4 – وكذلك «لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون؛ فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال؛ هذا يرى ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة…وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلامُ البشريةَ إليه ويرفعها إلى المكان اللائق بالإنسان الخليفة في الأرض» [في ظلال القرآن (5/2759)].
5 – ولئن كانت مفاهيم المسلمين تتباين وتختلف عن مفاهيم الكفار – كما سبق- بناء على فهم كل فريق لحقيقة: الربوبية والألوهية، والكون، والحياة، والإنسان، فإنه يوجد أيضًا اختلاف في مفاهيم أهل الفرقة الناجية من المسلمين عن مفاهيم الفرق المبتدعة -كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة- وذلك لاختلاف مصادر الاستدلال عند الفرقة الناجية -وهم أهل السنة والجماعة- عن تلك التي لدى هذه الفرق المبتدعة، مع ما بينهم أيضًا من اختلاف في المفاهيم، وكذلك حصل الاختلاف في مفاهيمهم لاختلاف عقائدهم.
وقد يحدث اختلاف في بعض المفاهيم بين من هم في دائرة أهل السنة بسبب الاختلاف في فهم الواقع والأحوال التي يعيشونها، فيُحدِث ذلك اختلافًا في إنزال الأحكام على الأحوال، مع الاتفاق على أصل المفاهيم لدى الجميع؛ يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو يبين ركني الفهم الصحيح: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر» [إعلام الموقعين (1/69)]. فلا بد إذًا حتى يكتمل الفهم الصحيح من فهم الواقع المعاصر واستبانة سبيل المجرمين وإلا حصل الخلل في الفهم لعدم تحقيق المناط ومعرفة الأحوال.
ويبقى عائق آخر خطير يحول بين العبد وتطبيق الفهم الصحيح؛ ألا وهو: الهوى وتغليب الدنيا على الآخرة؛ إذ قد يكون الفهم شرعيًّا وصحيحًا وموافقًا لمفاهيم أهل السنة، مع فقه بالواقع، ولكن بسبب رغبة أو رهبة يترك العبد هذا الفهم الصحيح متعمدًا ويقدم عليه مفاهيم خاطئة أو تطبيقات منحرفة، نسأل الله السلامة والثبات على الحق.
مجمل أسباب انحراف المفاهيم
ومما سبق يمكن إجمال أسباب انحراف المفاهيم واختلافها فيما يلي:
1 – الكفر أو الشرك بالله عزّ وجلّ؛ وذلك يُسبِّب انحرافات كلية في المفاهيم والموازين والأحكام والمواقف؛ لأن صاحبه مقطوع عن الله عزّ وجلّ وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ومقطوع عن اليوم الآخر والإيمان الحق به. ويلحق بهؤلاء: أهل البدع المكفرة المخرجة من الملة.
2 – البدعة غير المكفرة؛ وذلك يُسبِّب انحرافات جزئية تنعكس على بعض المفاهيم في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك، وإن كان أصحابها من أهل القبلة وعندهم حق وباطل.
3 – الجهل بالواقع وبسبيل المجرمين؛ فهذا وإن كان المتصفون به من أهل السنة إلا أن جهلهم هذا ينعكس على بعض الأخطاء والانحرافات في بعض المفاهيم بسبب الخلل في تنزيل الأحكام.
4 – الهوى وحب الدنيا؛ وذلك يتسبب في ترك الفهم الصحيح، أو الانحراف في تطبيقه عن عمد وهوى بعد معرفته ورسوخه.
أهمية تصحيح المفاهيم
لكل ما سبق تتبين لنا الأهمية القصوى لتصحيح المفاهيم، والتحذير من خطورة التلاعب بها، ومن العدول عن المصادر الربانية للفهم الصحيح إلى مفاهيم أهل الكفر والنفاق والبدع والأهواء بدلًا من ذلك، وتلقِّيها بجهل أو هوى.
ولذا فإن من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة الذين أدركوا هذا الخطر أن يهبُّوا لإنقاذ الأمة بإذن الله تعالى من ظلمات المفاهيم المنحرفة إلى نور المفاهيم القرآنية الربانية، وأن يؤصِّلوا للناس هذه المفاهيم النقية، ويبينوا عوار المفاهيم الجاهلية وانحرافها، ويردوا على الشبهات التي يستخدمها المضللون للتلبيس بها على الناس.
كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة
من أجل ذلك قام إخوان لكم من طلبة العلم الذين يهمهم هذا الشأن ويؤرقهم، فبذلوا وسعهم في إخراج خلاصة للمفاهيم الإسلامية النقية وفق منهج أهل السنة، وكما دلَّت عليها نصوص الكتاب والسنة، مع التعرض للمفاهيم المخالفة المنحرفة المغلوطة وتفنيدها والرد عليها لبيان فسادها.
وكان من المراجع في ذلك: الكتب المهتمة بتصحيح المفاهيم وبيان القواعد الشرعية التي تحكمها؛ ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وتفسير السعدي -رحمهم الله جميعًا- وبعض الكتب المعاصرة التي تُعنى بهذا الشأن ويُوثَق في منهجها وسلامة عقيدة أصحابها، ولكن لما كان الاختصار والتصرف في الصياغة هو الغالب على هذا العمل لم نحل على هذه المراجع إلا في مواطن قليلة؛ حيث حاولنا اختصار كل مفهوم بحيث يكون في ثلاثة أو أربعة أسطر، أو لا يتجاوز نصف صفحة في أغلبها، إلا في بعض المفاهيم القليلة التي قد يضطرنا توضيحها إلى التفصيل الذي قد يوصل المفهوم إلى صفحة كاملة أو يزيد.
وأخيرًا فإننا لا نزعم أننا قد استوعبنا جميع المفاهيم، ولكننا بذلنا ما في وسعنا، وركزنا على ما نرى أنها مفاهيم ضرورية، أو غائبة، أو مغلوطة، ولعل الله أن يأتي بمن يكمل النقص ويسد الخلل، ونسأله عزّ وجلّ الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة – إعداد نخبة من طلبة العلم – 1445
انظر أيضا