إن العقيدة هي التي جعلت المحبة والموالاة معيارا ربانيا لا شخصيا، فالمؤمن يحب كل ما يحبه الله ورسوله، ويبغض كل ما يبغضه الله ورسوله، فلا مكان لمعيار الأهواء أو الانتماءات الجزئية الضيقة أو الشعارات البراقة المصطنعة على خلاف ما يرضي الله تعالى.
ما هو معيار الموالاة والمعادة؟
معقد الولاء والبراء ليس أرضًا ..
فما هو غزة، ولا القدس، ولا الحرمين.. ولا الأردن، ولا السعودية ..
معقد الولاء والبراء ليس جماعة..
فما هو جماعة الإخوان، ولا السلفية، ولا حماس..
معقد الولاء والبراء ليس شخصًا..
فما هو أردوغان ولا حاكم أي بلد، ولا القرضاوي ولا الألباني ولا ابن عثيمين ولا “أبو عبيدة” ولا غيرهم من الحكام والعلماء والرموز..
ومعيار الدين والشرف والنزاهة ليس في ثائر تُحبّونه ولا في أكاديمي يُعجبكم ولا في كاتبة تُلهمُكم ..
التقديس والغلو من أسباب الانحراف
التقديس أفسد أجمل ما فينا، ودمّر الكثير من الخير الظاهر فينا والخفيّ، ومرّر خُبث وعبث المُتربّصين من أصحاب المشاريع المشبوهة بينما نُدافع عن حقّ كُل واحد منا في تقديس حاكمه أو نظام بلده أو شيخه أو حزبه أو مُفوّه تطير بنا عباراته البليغة فوق السحاب.
أوَكُلّما ظُلِمَ أحد إخوتنا قدّسناه وأطلقنا العصمة على كُل فعل يصدر عنه أو قول؟!
أوكُلّما رزقنا الله بعد طول قحطٍ وجفافٍ بإخوة في الدين أكثر جُرأة ورجولة وهمّة بين جموع الخانعين الخاضعين الأصفار حولنا؛ اختزلنا الدين والأخلاق والحقّ بهم وحدهم دون غيرهم؟!
العقيدة هي معيار الولاء والبراء
كلماتي هذه أبثها فقط لمن كان دستوره القرآن القائل في إحدى آياته المُحكمات:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55- 56].
إلى هؤلاء الذين يستظلون بعقيدة الإسلام الصافية، والتي تتضمن الولاء والبراء، الولاء لله ورسوله ولكل امرئ مسلم، والبراء من كل من يُعاديهم.
تلك العقيدة التي جعلت المحبة والموالاة معيارا ربانيا لا شخصيا، فالمؤمن يحب كل ما يحبه الله ورسوله، ويبغض كل ما يبغضه الله ورسوله، فلا مكان لمعيار الأهواء أو الانتماءات الجزئية الضيقة أو الشعارات البراقة المصطنعة على خلاف ما يرضي الله تعالى.
– أتكون الأرض هي معقد الولاء والبراء؟
كلا، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والوطن حيثما كان الإسلام، وإلا لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة التي ولد ونشأ وترعرع فيها وله فيها أهل وسكن.
– أيكون الأشخاص هم معقد الولاء والبراء؟
كلا، فما من إنسان معصوم بعد الأنبياء، والمرء تتناوب عليه الحادثات، تغيرن من توجهاته ومسالكه، فقد يصبح بحال ويمسي بأخرى، فليس منهم أحد ببعيد عن الفتنة.
علاقة حماس بإيران
أسوق هذه المقدمة لكي أقوم بالتأسيس عليها في مسألة باتت فضفاضة مميعة غير محسومة، تتجاذبها التوجهات والأهواء والأذواق، يختلط فيها الحابل بالنابل.
تلك المسألة هي علاقة حماس بإيران وما يتفرع عنها من مواقف تتخذها النخب والجماهير حيال إيران ما بين مؤيد ومعارض، ما بين مادح وذام، ما بين مُطَمئِن ومحذر.
الحكاية وما فيها، أن حركة حماس قد أطلقت ثناءها ومدحها لإيران التي دعمتها في وقت تخلى فيه العرب عن دعم المقاومة، فانعكس ذلك على بعض النخب العربية الإسلامية وقواعدهم الجماهيرية للاستغراق في مدح إيران وتجميل وجهها، ونسيان كل جرائمها تجاه الشعوب العربية الإسلامية، وصلت إلى حد أنهم يطالبون غيرهم – ومنهم أنا “الفقيرة إلى رضا ربّها” – بسلوك النهج نفسه، بدعوى أن هذا ليس وقته.
المكافأة لمن أسدى المعروف
أقول وبالله التوفيق، لم أعترض بعد طوفان الأقصى طرفة عين على ذلك المديح الذي كالته حركة حماس لإيران، لأنه من باب المكافأة لمن أسدى المعروف مهما كانت ملته أو طائفته أو توجهاته، فحماس قد أُغلقت في وجهها الأبواب، وتخلى عنها الأقربون، ولم تجد أمامها سوى الباب الإيراني لتطرقه، فدعمتها إيران دعما غير مشروط، حسب قولهم وهُم أعلم بأحوالهم منا، رغم أنها تستفيد من ذلك (أي إيران) بتجميل صورتها أمام العالم السُنّي بعد جرائمها الطائفية الدموية المعروفة في سوريا والعراق واليمن، وكونها تُدرج في دعايتها حركة حماس ضمن محور المقاومة، فهذا بلا شك يرفع أسهمها.
دور النخب في تجميل وجه إيران
إذن، موقف حماس من إيران طبيعي جدا، ولا غبار عليها فيما فعلت، المشكلة الحقيقية في النخب الفكرية والثقافية والسياسية التي استنسخت موقف حماس من إيران، بلا داعٍ وبلا مبرر وتكاد أن تعتبره حُكما شرعيا يؤثم أو يُشكك بشرف وأخلاقيات ومبادئ من لا يتبنّاه ويتّبعه.
خطورة ما تفعله هذه النخب يتمثل في إسهامها بتمييع القضايا، والخلط في وجدان الشعوب العربية والإسلامية بين الصديق والعدو، وإسهامها في عدم وضوح الرايات، والتغطية على التاريخ الأسود لإيران الطائفية.
بدعوى أن هذا ليس وقته، تُجمل هذه النخب وجه إيران رغم العلم اليقيني بأن لها مشروعا مشابها للمشروع الصهيوني، فلم يعد خافيا على متابع أو قارئ مهتم، أن إيران لها مشروع قومي فارسي مُحمل على رأس طائفي، تتخذ من التشيع رأس حربتها، تجمع الانتماءات من هنا وهناك من شتى بقاع الأرض على الولي الفقيه، ويفقد أتباعها في الدول العربية انتماءاتهم لأوطانهم، بل كثير منهم يطعنون هذه البلاد من الداخل.
جرائم الحرس الثوري الإيراني
كيف تريدون لنا أن ننسى قِتال وجرائم وضحايا الحرس الثوري الإيراني إلى جانب طاغية الشام بشار الأسد، ضد أهلنا في سوريا، وإحداث القتل والتدمير بأمر من طهران، وإحداث تغيير ديموغرافي في سوريا يهددها بالتقسيم؟
كيف ننسى أن ذراعها في لبنان أحد أبرز الأسباب لعدم استقرار ذلك البلد، فحزب حسن نصر اللات يمثل إيران داخل لبنان باعتراف حسن نصر اللات نفسه، وكيف ننسى أن هذا الحزب الذي أطلق بضعة صواريخ ضد الصهاينة لزوم مسك العصا من المنتصف وعدم إيصال الهجوم إلى درجة حرب، وعدم المشاركة الفعلية الجادة في القتال الدائر رغم الجعجعة المستمرة حول نصرة الأقصى، كيف ننسى أن هذا الحزب ذبح أشقاءنا السوريين في القصير لصالح بشار بأمر من طهران؟
وكيف ننسى أن إيران قامت بالشراكة مع الولايات المتحدة في تدمير وتحييد العراق تلك القوة العربية الإسلامية التي كانت ترعب الصهاينة، قامت إيران باقتسام الكعكعة مع واشنطن، حتى غدا العراق محافظة إيرانية، ناهيك عن ملايين الضحايا من المدنيين العراقيين من أهل السُنّة والجماعة والذين دافعوا عن بيوتهم وأعراضهم وأنفسهم فتكالب العالم المُنافق عليهم باسم تطهير العراق من الإرهاب أو من داعش، فصار كُل من لا يعتبر الحشد الشيعي الدموي في العراق مُخلّصا بطلا هو بالضرورة داعشي وخطر على البشرية ويستحق القتل.
وكيف ننسى أن الحوثي لم يعث في اليمن فسادا إلا بدعم من إيران، فهو ذراعها في ذلك البلد الذي أنهكه القتال وأوصله إلى خطر المجاعات والأوبئة، ولن أتحدّث عمّن دعم الحوثيين يوما وجعل لهم شوكة إضافة إلى الدعم الإيراني المكشوف لهم.
خطورة الاسترسال في تحسين وجه إيران
إن الاسترسال في تحسين وجه إيران يطمس كل هذه الحقائق، ويُغرِق هذا الجيل والأجيال اللاحقة في حالة من عدم التمييز بين الصديق والعدو.
عجبا لهؤلاء، يلزمون بما لا يلزم، هم يضعون حتمية بغيضة مفادها أن دعمك للمقاومة في غزة يستلزم أن يكون هذا موقفك من إيران.
هذا عبث، وكما قلنا هو سائغ بحق المقاومة التي تخلى عنها العرب وتوجهت إلى إيران على قاعدة الضرورة، فما الذي يحتم علينا نحن القاعدين أن نُحسِّن وجه إيران ونسكت عن جرائمها طالما أننا ندعم المقاومة الفلسطينية؟!
التوازن في تطبيق الولاء والبراء
وحتى لو بنوا رأيهم تجاه إيران نصرةً للمقاومة، فأنا قد بنيت موقفي نصرةً للعقيدة التي تحفنا جميعا كمسلمين من أهل السنة (وهُم الأُمّة)، وبنيته على ضرورة تمايز الصفوف وعدم الخلط ودفع الالتباس عن الجماهير وخاصة الناشئة.
علم الله أن غزة في سويداء قلبي، وأن المجاهدين تاج على رأسي، وأفتخر أن في أمتي أمثال هؤلاء جند الله وأوليائه ممن باعوا الدُنيا ومباهجها من أجل ما هو خير وأبقى، الذين ينوبون عن الأمة بأسرها في جهادهم ضد الصهاينة الذين تكالب كُل مسوخ العالم وشُذّاذ الآفاق لنُصرتهم ودعمهم والتحريض على من يُزعج سكينتهم في بلد استوطنوه واحتلّوه ونكّلوا بشعبه منذ عقود،
لكن كما يقال هذه نقرة وهذه نقرة…
تعاطُفي ودعمي ومحبتي للمُجاهدين في فلسطين لن تجعلني أُسْهِمُ في تمييع الثوابت وتحسين الأوجه القبيحة أو مسح دماء إخوة لي آخرين من على سكاكين القتلة والمُجرمين..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر
صفحة الأستاذة إحسان الفقيه.
اقرأ أيضا
حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو
الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق في نازلة غزة المرابطة