ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه حذَّر أمته من مشابهة الكفار وأخبر أن هديه مخالف لهديهم الذميم، وأخبر عن هذه الأمة أنها تتبع سنن اليهود والنصارى والمجوس، وأكد ذلك بالقسم عليه تحقيقًا لوقوعه والأحاديث في ذلك كثيرة.

ذكر الأحاديث في اتباع هذه الأمة لسنن من قبلهم من الأمم

قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه أخبر عن هذه الأمة أنها تتبع سنن اليهود والنصارى والمجوس، وأكد ذلك بالقسم عليه تحقيقًا لوقوعه والأحاديث في ذلك كثيرة.

الحديث الأول: منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن؟».

قال النووي: السنن بفتح السين والنون وهو الطريق. وقال ابن حجر العسقلاني بفتح السين للأكثر، وقال ابن التين: قرأناه بضمها، وقال المهلب: بالفتح أولى؛ لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق، قال ابن حجر وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك انتهى. قال عياض الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه. وكذا قال النووي. قال وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد وقع ما أخبر به. وقال ابن حجر قد وقع معظم ما أنذر به – صلى الله عليه وسلم – وسيقع بقية ذلك انتهى.

الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعًا بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم، فقال: ومن الناس إلا أولئك؟» رواه البخاري بهذا اللفظ. ورواه ابن ماجه ولفظه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن إذًا؟!». ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال ابن حجر في فتح الباري الأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة يقال أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته وما أخذ أخذه أي ما فعل فعله وما قصد قصده انتهى.

الحديث الثالث: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعًا بذراع وباعًا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا من يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن إلا هم؟» رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة وإسناده جيد.

الحديث الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذارعًا بذارع وباعًا بباع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» رواه محمد بن نصر المروزي والبزار بأسانيد جيدة والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بنحوه مختصرًا، وإسناده حسن.

الحديث السادس: عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لتسلكن سنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل ولتأخذن مثل مأخذهم إن شبرا فشبر وإن ذراعًا فذراع وإن باعًا فباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه» رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.

الحديث السابع: عن شداد بن أوس رضي الله عنهما عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لتحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.

الحديث الثامن: عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم». رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ولفظه: «إنكم ستركبون سنن من كان قبلكم»، ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بنحوه وأسانيده كلها جيدة.

الحديث التاسع: عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تترك هذه الأمة شيئًا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني.

الحديث العاشر: عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم» رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بهذا اللفظ، ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: «لتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وهذا الأثر له حكم المرفوع لأنه إخبار عن أمر غيبي فلا يقال إلا عن توقيف، وقد قال الله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

وروى ابن جريج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لتأخذنَّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر وباعًا بباع حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه» قال أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) الآية. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال: «فهل الناس إلا هم؟» وروى ابن جريج أيضا عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما أشبه الليلة بالبارحة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم» لا أعلم إلا أنه قال: «والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه».

وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بإسناد جيد عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كائن فيكم».

وذكر البغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟». وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إن أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل أنتم تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله».

وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل والله لا تدعون شيئًا عملوه إلا عملتموه، ولا كان فيهم شيء إلا سيكون فيكم مثله» فقال رجل أيكون فينا مثل قوم لوط؟ فقال: «نعم. ممن أسلم وعرف نسبه»، وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: «والله ما من شيء كان ممن قبلكم إلا سيكون فيكم».

وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرّها» وروى محمد بن نصر أيضًا عن همام بن الحارث قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فذكروا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فقال رجل من القوم إنما هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة رضي الله عنه: «نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو ولهم المر كلا والذي نفسي بيده حتى تحذى السنة بالسنة حذو القذة بالقذة».

تحذير المؤمنيين من التشبه بأعداء الله تعالى وذكر ما يترتب على مشابهتهم من الحشر معهم

وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه من اتباع أمته لسنن أعداء الله تعالى حذو القذة بالقذة، ولا سيما في زماننا هذا فإنه لم يبق شيء مما يفعله اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أعداء الله تعالى إلا ويفعل مثله في كثير من الأقطار الإسلامية، وقد تضمن إخباره – صلى الله عليه وسلم – بذلك تحذير المؤمنين عن سلوك مسالك العصاة المتشبهين بأعداء الله تعالى فإن من تشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم.

لما روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة».

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية لأنه لو لم يكن مؤثرًا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءًا من المقتضي إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطًا ببعض؛ لأن أبعاض ما ذكره تقتضي الذم مفردًا انتهى.

ويشهد لما قاله عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قول الله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) الآية. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: وأزواجهم قال أشباههم، وكذا قال ابن عباس والنعمان بن بشير رضي الله عنهم يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم.

وقال قتادة والكلبي كل من عمل مثل عملهم.

وقال الراغب الأصفهاني أي أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم.

وقال الله تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال ابن كثير أي جمع كل شكل إلى نظيره.

وروى ابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: «الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله».

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس فقرأ (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فقال: «تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم».

وفي رواية قال: «هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار»، وقال مجاهد: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، قال ابن كثير وكذا قال الربيع بن خيثم والحسن وقتادة. واختاره ابن جرير وهو الصحيح.

تعوذ النبي من بلوغ الزمان الذي يتشبه به المسلمون بالأعاجم وتعويذ أصحابه من بلوغه

وقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يتعوذ من بلوغ الزمان الذي يتشبه فيه المسلمون بالأعاجم ويعوذ أصحابه من بلوغه.

ففي المسند من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اللهم لا يدركني زمان أو لا تدركوا زمانًا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب».

وفي مستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اللهم لا يدركني زمان أو لا أدرك زمان قوم لا يتبعون العليم ولا يستحيون من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال المناوي في شرح الجامع الصغير قلوبهم قلوب الأعاجم أي بعيدة من الأخلاق مملوءة من الرياء والنفاق، وألسنتهم ألسنة العرب متشدقون متفصحون متفيهقون يتلونون في المذاهب ويروغون كالثعالب.

قال الأحنف لأن أبتلى بألف جموح لجوج أحب إلي من أن ابتلى بمتلون. قال والمعنى اللهم لا تحيني ولا أصحابي إلى زمن يكون فيه ذلك انتهى.

وهذان الحديثان مطابقان لحال الأكثرين من زماننا فإنهم لا يتبعون العليم ولا يستحيون من الحليم. (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ). ويطيعون المغوين ويعصون المرشدين، وليس معهم من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ما يحملهم على الحياء. ويمنعهم من تعاطي ما يدنس ويشين عند ذوي الأحلام والنهى.

وإنما شبه قلوبهم بقلوب الأعاجم لقلة فقههم في الدين، وانحرافهم عن المروءات العربية وتخلقهم بأخلاق الأعاجم من طوائف الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى وشدة ميلهم إلى مشابهتهم في الزي الظاهر واتباع سننهم حذو القذة بالقذة.

والمشابهة في الظاهر إنما تنشأ من تقارب القلوب وتشابهها. قال الله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية.

وقد عظمت البلوى بداء المشابهة في زماننا وعمت جميع الأقطار الإسلامية ولم ينج منها إلا القليل من الناس. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المصدر

كتاب: “الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين” ص7-15، حمود بن عبد الله التويجري.

اقرأ أيضا

تحريم التشبه بالكفار وموالاتهم

الولاء والبراء على أساس العقيدة من هدي الأنبياء

حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع

التعليقات غير متاحة