الاستدلال على إسقاط حكم الله وشريعته بأدلة من الشريعة نفسها لهو أشد الخبث وأسوأ المناهج؛ إذ يجعلون النصوص دالة على إبطال العمل بها..!
مقدمة
كم يعتذر معتذر عن محكمات الإسلام وأصول هذا الدين، وعن سيادة شريعته وعلو حاكميته بما لا يفهم وجهه جهلا، أو ما يوجهه الى غير قصده عامدا خبيثا.
ومن الأمثلة هذا الحديث الذي يأخذون منه بشق ويتركون شقه الآخر، ولا يستكلمون النظرالى الدليل ولا العمل به، بل يعملون بما يوافق أهواء الظالمين الذين يخدمونهم.
الحديث محل الاستدلال
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسند عبد الله بن عمر: حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء فيما أحبَّ أو كرِه، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». (1إسناد صحيح. ورواه البخاري (6: 82 و13: 109 من فتح الباري) عن مسدّد عن يحيى بن سعيد، بهذا الإسناد، ورواه أيضاً (6: 82) من طريق إسماعيل بن زكريا عن عبيد الله، ورواه مسلم (6: 86) من طريق الليث بن سعد، ومن طريق يحيى القطان وابن نمير، ثلاثتهم عن عبيد الله)
وهذا الحديث أصل جليل خطير من أصول الحكم لا نعلم أنه جاء في شريعة من الشرائع، ولا في قانون من القوانين، على هذا الوضع السليم الدقيق المحدد، الذي يحدد سلطة الحاكم، ويحفظ على المحكوم دينه وعزته.
ضبط طاعة الحكام في شريعة الله
أما الشرع الإسلامي فقد وضع الأساس السليم، والتشريع المحكم، بهذا الحديث العظيم. فعلى المرء المسلم أن يطيع من له عليه حق الأمر من المسلمين، فيما أحب وفيما كره، وهذا واجب عليه، يأثم بتركه، سواء أعرَف الآمر أنه قصَّر أم لم يعرف، فإنه ترك واجباً أوجبه الله عليه، وصار ديناً من دينه، إذا قصر فيه كان كما لو قصر في الصلاة أو الزكاة أو نحوهما من واجبات الدين التي أوجب الله.
ثم قيّد هذا الواجب بقيد صحيح دقيق، يجعل للمكلف الحق في تقدير ما كُلِّف به، فإن أمره من له الأمر عليه بمعصية، فلا سمع ولا طاعة، ولا يجوز له أن يعصي الله بطاعة المخلوق، فإن فعل كان عليه الإثم، كما كان على من أمره، لا يُعذر عند الله بأنه أتى هذه المعصية بأمر غيره، فإنه مكلَّف مسؤول عن عمله، شأنه شأن آمره سواء.
أمثلة معاصرة لتطبيق القاعدة
ونرى أن نضرب لذلك بعض المثل. مما يعرف الناس في زماننا هذا، إيضاحاً وتثبيتاً:
إصدار الرخصة بالأعمال المحرَمة
نرى بعض القوانين تأذن بالعمل الحرام الذي لا شك في حرمته، كالزنا، ويبع الخمر ونحو ذلك، وتشترط للإذن بذلك رخصة تصدر من جهة مختصة معينة في القوانين.
فهذا الموظف الذي أمرتْه القوانين أن يعطي الرخصة بهذا العمل إذا تحققت الشروط المطلوبة فيمن طلب الرخصة لا يجوز له أن يطيع ما أمر به، وإعطاؤه الرخصة المطلوبة حرام قطعاً، وإن أمره بها القانون، فقد أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة. أما إذا رأى أن إعطاء الرخصة في ذلك حلال، فقد كفر وخرج عن الإسلام، لأنه أحل الحرام القطعي المعلوم حرمته من الدين بالضرورة.
العمل بالقوانين الأوروبية
نرى في بعض بلاد المسلمين قوانين ضربت عليها، نقلت عن أوربة الوثنية الملحدة، وهي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح بديهي، لا يخالف فيه إلا من يغالط نفسه، ويجهل دينه أو يعاديه من حيث لا يشعر، وهي في كثير من أحكامها أيضاً توافق التشريع الإسلامي، أو لا تنافيه على الأقل.
وإن العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز، حتى فيما وافق التشريع الإسلامي، لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة أو لمبادئها وقواعدها، وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه، فهو آثم مرتد بهذا، سواء أوضع حكماً موافقاً للإسلام أم مخالفاً.
وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين عن مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد الإسلام إذ ذاك بريئة من هذا العار؛ ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين، الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، فقال في الكتاب (الرسالة) (2رقم: 178 بشرحنا وتحقيقنا):
“ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه من حيث لا يعرفه ـ غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه”.
ومعنى هذا أن المجتهد في الفقه الإسلامي، على قواعد الإسلام، لا يكون معذوراً إذا ما كان اجتهاده على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت في البحث عن الأدلة من الكتاب والسنة، حتى لو أصاب في الحكم، إذ تكون إصابته مصادفة، لم تُبن على دليل، ولم تُبن على يقين، ولم تُبن على اجتهاد صحيح.
أما الذي يجتهد ويتشرع..!! على قواعد خارجة عن قواعد الإسلام، فإنه لا يكون مجتهداً، ولا يكون مسلما، إذا قصد إلى وضع ما يراه من الأحكام، وافقت الإسلام أم خالفته، فكانت موافقته للصواب، إن وافقه من حيث لا يعرفه، بل من حيث لا يقصده، غير محمودة، بل كانوا بها لا يقلون عن أنفسهم كفراً حين يخالفون، وهذا بديهي.
وليس هذا موضع الإفاضة والتحقيق في هذه المسألة الدقيقة. وما كان هو المثل الذي نضربه، ولكنه تمهيد.
والمثل: أنّا نري كثيراً من المسلمين الذين عُهد إليهم بتنفيذ هذه القوانين والقيام عليها، بالحكم بها، أو بالشرح لها، أو بالدفاع فيها، نراهم مسلمين فيما يتبين لنا من أمرهم، يصلون ويحرصون على الصلاة، ويصومون ويحرصون على الصوم، ويؤدون الزكاة ويجودون بالصدقات راضية نفوسهم مطمئنين، ويحجون كأحسن ما يحج الرجل المسلم، بل نرى بعضهم يكاد يحج هو وأهله في كل عام، ولن تستطيع أن تجد عليهم مغمزاً في دينهم، من خمر أو رقص أو فجور، وهم فيما يفعلون مسلمون مطمئنون إلى الإسلام، وراضون معتقدون عن معرفة ويقين.
ولكنهم إذا مارسوا صناعتهم في القضاء أو التشريع أو الدفاع، لبستهم هذه القوانين، وجرَت منهم كالشيطان مجرى الدم، فيتعصبون لها أشد العصبية، ويحرصون على تطبيق قواعدها والدفاع عنها، كأشد ما يحرص الرجل العاقل المؤمن الموقن بشيء يرى أنه هو الصواب ولا صواب غيره، وينسون إذ ذاك كل شيء يتعلق بالإسلام في هذا التشريع، إلا ما يخدع به بعضهم أنفسهم أن الفقه الإسلامي يصلح أن يكون مصدراً من مصادر التشريع..! فيما لم يرد فيه نص في قوانينهم، ويحرصون كل الحرص على أن يكون تشريعهم تبعاً لما صدر إليهم من أمر أوربة في معاهدة “منترو”، مطابقاً لمبادئ التشريع الحديث.
فهؤلاء الثلاثة الأنواع: المتشرع والمدافع والحاكم، يجتمعون في بعض هذا المعنى ويفترقون، والمآل واحد.
أما المتشرع: فإنه يضع هذه القوانين وهو يعتقد صحتها وصحة ما يعمل، فهذا أمره بيّن، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
وأما المدافع: فإنه يدافع بالحق وبالباطل، فإذا ما دافع بالباطل المخالف للإسلام معتقداً صحته، فهو كزميله المتشرع. وإن كان غير ذلك كان منافقاً خالصاً، مهما يعتذر بأنه يؤدي واجب الدفاع.
وأما الحاكم: فهو موضع البحث وموضع المثل. فقد يكون له في نفسه عذر حين يحكم بما يوافق الإسلام من هذه القوانين، وإن كان التحقيق الدقيق لا يجعل لهذا العذر قيمة.
أما حين يحكم بما يُنافي الإسلام، مما نص عليه في الكتاب أو السنة، ومما تدل عليه الدلائل منهما، فإنه ـ على اليقين ـ ممن يدخل في هذا الحديث: قد أمر بمعصية القوانين التي يرى أن عليه واجباً أن يطيعها أمرتْه بمعصية، بل بما هو أشد من المعصية: أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فلا سمع ولا طاعة، فإن سمع وأطاع كان عليه من الوزر ما كان على آمره الذي وضع هذه القوانين، وكان كمثله سواء.
وقد صنع رجال كبار من رجال القانون عندنا شيئاً شبيهاً بهذه القاعدة، احتراماً منهم لقوانينهم التي وضعوها؛ فقد قرر مجلس الدولة مبدأين خطيرين، فيما إذا تَعارَض قانون عادي من قوانين الدولة مع القانون الأساسي، وهو الدستور، فجعل الأولية للدستور، وأنه يجب على المحاكم أن لا تطبق القانون العادي إذا عارضه…
ومن البيّن البديهي الذي لا يستطيع أن يخالف فيه مسلم: أن القرآن والسنة أسمى سمواً، وأعلى علواً، من “الدستور” ومن كل القوانين، وأن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا أطاع الله ورسوله، وقدم ما حكما به على كل حكم وكل قانون، وأنه يجب عليه أن يطرح القانون إذا عارض حكم الشريعة الثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، طوعاً لأمر رسول الله في هذا الحديث: «فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
خاتمة
مما أمر الله تعالى به أن يوصل وصل أطراف الأدلة وجمعها، والعمل بكل ما جاء عن الله ورسوله. ومن عمل بهذا انضبطت بيده الأمور ولم يأخذ طرفا تاركا لآخر، ولا يشوَّه الإسلام على يديه.
……………………………
الهوامش:
- إسناد صحيح. ورواه البخاري (6: 82 و13: 109 من فتح الباري) عن مسدّد عن يحيى بن سعيد، بهذا الإسناد، ورواه أيضاً (6: 82) من طريق إسماعيل بن زكريا عن عبيد الله، ورواه مسلم (6: 86) من طريق الليث بن سعد، ومن طريق يحيى القطان وابن نمير، ثلاثتهم عن عبيد الله.
- رقم: 178 بشرحنا وتحقيقنا.
المصدر:
- كتاب “حُكمُ الجَاهِليَّة” الشيخ أحمد شاكر، ص146-155.