إن مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال كل ذلك قد صار نسياً منسيا في السودان، فما عاد امرؤ يأمن على دينه ولا نفسه ولا عرضه ولا ماله ولا عقله..فما الواجب علينا جميعاً تجاه إخواننا في السودان أمام هذه الموجة العاتية من التآمر اللئيم؟ وهل يسعنا السكوت عما يجري هنالك بدعوى أن الأمة مشغولة بغزة؟
ماذا يحدث في السودان؟!
ففي كل يوم تطلع فيه شمسه تقع مأساة في بلاد السودان، تضيع معها مقاصد الشريعة وضرورات الدين؛ وذلك مذ قامت تلك الحرب المشؤومة في الخامس والعشرين من رمضان ١٤٤٤ الموافق ١٥ إبريل ٢٠٢٢؛ حيث يتعرض الناس للفتنة في دينهم؛ وذلك بتعطيل مساجدهم من أن يذكر فيها اسم الله عز وجل؛ فكم من مسجد كان بذكر الله عامراً صار خاوياً على عروشه يشكو لربه ظلم العباد! وكم من إمام مطاع كان الناس يفيئون إليه ويحتكمون إلى قوله صار قتيلاً أو أسيراً أو شريداً!
وأعظم من ذلك أن يرى الناس أولئك اللصوص النهابين سفكة الدماء -ممن ينتسبون إلى (الدعم السريع) – وهم يمارسون ما حرم الله عز وجل من سفك للدماء وانتهاك للحرمات وهم يرددون «الله أكبر»! وثمة أرقام مفزعة عن أعداد القتلى الذين صعدت أرواحهم إلى بارئها، بل إن بعض الناس – كما حصل في مدينة الجنينة – دفنوا أحياء وذلك تحقيقاً لشهوات مريضة ودعوات عصبية منتنة.
أما انتهاك الفروج والاعتداء على الأعراض فحدث ولا حرج! وقل مثل ذلك في نهب البنوك واحتلال بيوت المواطنين وأخذ ممتلكاتهم من سيارات ونقود وأثاثات، والمسلم المهموم بأمر الدين يقض مضجعه أن يُطلق على مثل هذا الإجرام وتلك السرقات الاسم الشرعي الشريف (الغنائم) بل عاد المجرمون يأتون إلى السودان من دول شتى ليجدوا مرتعاً خصباً يمارسون فيه إجرامهم بغير وازع ولا رادع، في ظل تعتيم إعلامي مقصود، وتواطؤ إقليمي مريب، حتى بدا للمراقب أن كل شيء تقريباً متفق عليه وعلى مآلاته، مع توزيع ممنهج للمخدرات والمسكرات على أولئك النهابين.
وبالجملة فإن مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال كل ذلك قد صار نسياً منسيا، فما عاد امرؤ يأمن على دينه ولا نفسه ولا عرضه ولا ماله ولا عقله.
لماذا السودان؟
والسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي يحمل هؤلاء على مثل هذا بدعم لا حدود له من دولة (الإمارات العربية المتحدة) – وكيلة الصهاينة في المنطقة – تسليحاً وعتاداً وإمداداً بالمال والرجال، مما نطقت به تقارير أممية وتحقيقات صحفية؟ مع شراء ذمم قادة أفارقة تستخدم مطارات بلادهم وحدودها لتمرير ذلك الدعم ، وما سر هذا الحقد الدفين على شعب لم يعرف عنه شر معلن – وهو شعب السودان- ولا كان يوماً من الأيام إلا ردء للأمة مناصراً لقضاياها العادلة ساعياً في نفع إخوانه من العرب والمسلمين؟
والجواب يتمثل في أمور:
أولها: أن أعداء السودان قد سعوا منذ سنوات في تغيير هوية الشعب وتغييبه عن قضايا أمته، وذلك حين سارع بعض الخونة – على مستوى القيادات – إلى التطبيع السياسي والتبادل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني؛ فلما بدا لهم أن ذلك مستحيل وأن منظمات ومؤسسات قد قامت لمناهضة ذلك المسعى اللئيم، كان لا بد من إلحاق العقاب الجماعي بشعب كان – وما يزال – نصيراً لفلسطين والقدس وقضايا التحرر في كل مكان.
ثانيها: أن السودان قد قامت فيه إجراءات أثارت فزع طواغيت ما يسمى بالمجتمع الدولي، ومن ذلك:
أ. إعلان الجهاد – قبل سنوات- حين كانت رحى الحرب الصليبية المدعومة كنسياً ودولياً تدور رحاها في الجنوب؛ حيث أقيمت المعسكرات وردد الناس شعارات إسلامية خالصة، وصار لقب (الشهيد) مألوفاً متداولاً، بل إن مناهج الثقافة الإسلامية قد غزت الكليات والمعاهد العسكرية والشرطية، وأقيمت المساجد وحلقات القرآن والمحاضرات الدينية في سائر وحدات الجيش والشرطة.
ب. حققت البلاد نوعاً من الاستقلال الذاتي في الإنتاج العسكري الذي يحقق لها أماناً واستغناء عن الحصار الدولي المحكم الذي فرض من أواسط تسعينيات القرن الماضي؛ حتى بلغ غايته
بإنتاج الطائرات المسيرة والمدفعية الثقيلة والدبابات المتطورة؛ حيث استفاد السودان من تفكك دول المنظومة الشرقية – حلفاء الاتحاد السوفييتي- فاستجلب عدداً من الخبراء الذين أعانوه على بلوغ تلك الغاية.
ت. صار للسودان – قبل الانقلاب المشئوم الذي استجلب عملاء الغرب لسدة الحكم- قراره المستقل الخارج عن المنظومة الدولية، وتعامل مع أولئك الطواغيت بندية أحدثت لهم ولعملائهم قلقاً وأرقاً، ولم يقبل تدخلاً في شئونه الداخلية، حتى إنه طرد السفير البريطاني عام ١٩٩٤ في سابقة لم تحدث قريباً من دولة من دول العالم الثالث، وذلك بسبب تيسير السفير دخول أسقف كانتبري إلى مناطق محتلة من المتمردين في الجنوب دون علم الحكومة، وكذلك طرد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة حين كتب تغريدة ينتقد فيها تعامل الحكومة مع بعض الأنشطة السياسية.
ثالثها: كان السودان يمثل حضناً دافئاً للمسلمين المستضعفين من سائر الأقطار؛ وذلك من عهد قديم؛ فإن إخواننا حين نكبوا في أثيوبيا وإريتريا – بالأنظمة الشمولية والتسلط الشيوعي- لم يجدوا بلداً يأوون إليه سوى السودان، وفي السنوات المتأخرة حين نكب المسلمون في الصومال ثم في سوريا واليمن كان السودان ملاذهم؛ حيث عومل طلبة العلم من تلك البلاد معاملة أهل البلاد حتى حصلت أعداد غفيرة منهم على الشهادات الجامعية وفوق الجامعية.
رابعها: مثل السودان سنداً وعضداً للمقاومة في فلسطين؛ حين استعصى على محاولات التطبيع، وكان محطة إمداد بالسلاح مما عرضه للقصف الجوي مراراً من قبل الصهاينة، وفي الوقت نفسه كان الطلبة الفلسطينيون يجدون موضعاً لهم في سائر الكليات – حتى كلية الشرطة وعلوم القانون- وكان قادة المقاومة حين غلقت في وجوههم أبواب الدول العربية يجدون أبواب السودان وصدور أهلها مفتوحة لهم؛ وذلك في أحلك الظروف التي كان يمر بها السودان وفلسطين معاً.
واجبنا نحو السودان
أما بعد، فما الواجب علينا جميعاً تجاه إخواننا في السودان أمام هذه الموجة العاتية من التآمر اللئيم؟ وهل يسعنا السكوت عما يجري هنالك بدعوى أن الأمة مشغولة بغزة؟
الجواب أن علينا جملة أمور:
أولها: التعريف بقضيته، فليس صواباً ما يشاع أنها حرب أهلية داخلية، أو صراع على
الحكم بين جنرالين؛ ففي هذا تنفيه للأمر وتمويه على الناس؛ بل الحق أنه غزو أجنبي مسلّح يستند على طائفة من العملاء الداخليين، تدعمه قوى الشر إقليمية ودولية.
ثانيها: بيان أن غاية هذا التآمر إسقاط الدولة السودانية وتشريد الناس وتدمير مقدرات هذا البلد الذي كان -وما يزال- عضداً للإسلام وأهله، مع نهب ثرواته، وتقسيم أقاليمه وزرع العداوة والبغضاء بين أهله.
ثالثها: بسط اليد لمساعدة اللاجئين وذوي الحاجات ممن جار عليهم الزمان وألجأتهم تلك الحرب المدمرة إلى دول الجوار والمنافي، حفظاً ليد سابقة كانت لهم، وإنفاذاً للأمر النبوي: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة».
وخلاصاً من الوعيد: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته».
رابعها: فضح أطراف المؤامرة من عملاء الداخل، والممولين من الخارج، والمتواطئين بالصمت المريب من دول الإقليم وما يسمى بالمجتمع الدولي.
خامسها: حث الناس في السودان على القيام بما أوجبه الله من دفع هذا العدو الصائل وقتال الطائفة الباغية المعتدية المحاربة لله ورسوله الساعية بالفساد في الأرض، وذلك بالجهاد في سبيل الله دون انتظار إذن من أحد فما حكَّ جلدك مثل ظفرك! والتعويل على المنظمات إقليمية ودولية إنما هو محض سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
المصدر
مجلة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحي يوسف.
اقرأ أيضا
المقاومة السودانية… الصراع من أجل البقاء