إن حال المعايشَةِ القَسْرِيَّة للعالمانية التي فُرِضَتْ على المسلم تقتضي أن يكون المسلم بصيرًا بمفاسدها وحيلها وثمراتها ؛ ولذلك فهو لا يستغني عن الجد في مراجعة فهمه وامتحان تبصره بأخطارها وهو أمر لا يقنع فيه المسلم بالإجمال والتعميم، وإنما يحتاج دِقةً في النظر وصبرًا على السبر مقتديًا بالمنهج القرآني في تعقب المذاهب المضلة.
عند البدء…
تمثل المنظومة العقيدية المسمّاة (علمانية) طرحًا شموليا يستحوذ على الفضاء السياسي في جُل البلاد، وتعبر عن الانتماء العقيدي للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها. إنّها مبدأ التوجيه الأخلاقي والتنظيم المجتمعي والتأسيس الاقتصادي، إليها يعود الأمر كله، دقه وجُله، منها تبدأ الحقيقة، وإليها تعود، وهي التي تحدّد جوهر المعنى وأبعاد ظلاله، ولذلك تُفْرَضُ قَسْرًا على الرعايا دون فُسحة للاختيار أو التعقيب. إنها مقدس جديد، متعال على النقد!
وقد كان هذا المبدأ العقيدي في ما ولّى من الزمان صريحًا في تعبيره عن نفسه، وكان بذلك سَهْل الرَّصْدِ والمواجهة، غير أنه اتخذ في العقود الأخيرة سبيلا جديدًا ليتخفى عن رصد من يتتبع أثره، وليتسلل إلى وعي الأمة بخفاء ومكر دون أن يثير جَلَبَةٌ أو يستحث مُمَانَعَةٌ في نفس المُصدِّق بالبعثة الخاتمة والشريعة الناسخة لما عداها. لقد تمكنت العالمانية من دقائق حياتنا دون أن تعلن ـ في الأغلب – عن نفسها تحت لافتة واحدة كُليَّة، وإنما سيطرت على عقول كثير من الناس ومشاعرهم وولائهم وبرائهم، من خلال مجموع مقولات متفرقة لا تنتظم في ظاهرها في نَسَقٍ أيدلوجي جريء في التعبير عن نفسه، حتى جرى كثير من مقولاتها على ألسنة الدهماء والخاصة، ومَنْ ظَاهِرُهم الفسوق والطاعة وبين رُوّاد الحانات والمساجد، دون أن تَسْتَشْعِر النفس أنها تجمع بين أضغاث من الأخلاط .
مرارة الواقع وحجم التغيير المطلووب
ومما يأسف له الرَّاصِدُ لمسيرة العمل الدعوي لاستئناف الحياة الإسلامية بمعناها الشمولي الحقيقي، ما آل إليه حال عامة جماعاتِ الدَّعوة مِنْ عَجَلَةٍ وغرور بظنها أنه ليس بينها وبين إقامة الكيان السياسي الذي يُمثل الأُمَّةَ غيرُ تغيير بعض الأشكال الظاهرية في واقعنا وإزالة أشخاص ورفع بعض العناوين؛ ثم يكون لها التَّمكين بلونِهِ الوَرْدِيّ المشرق! وهي بذلك تحاول أن تقفز فوق السنن الكونية التي تعبدنا الله – سبحانه – بالجد والاجتهاد للوصول عن طريقها إلى غايات الخلق.
لقد آنَ لِحَمَلَةِ الرّسالة أن ينفضوا هذا الوَهْمَ عن أبصارهم لتتضح الصورة أمام بصائرهم، فإن الواقع يحكي عن غير ما يُبدون أو يأملون، ولا يزال كثير من العرب – وبلاد العرب هي قَلْبُ العالم الإسلامي رغم ما يشوبها من الفساد يجهلون أصل مسائل الدين، وهو ما أثبتته إحصائيَّةٌ صَدَرَتْ سنة ٢٠١٤م لشريحة من أربعة عَشَرَ بلدا عربيًّا 1(۱) هي: موريتانيا، والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان، وفلسطين، ولبنان، والأردن والعراق والسعودية واليمن والكويت. كما شملت الإحصائية عينة من المهجرين واللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن وداخل الأراضي السورية المحاذية للحدود التركية، ونحن لا نجزم بدقة هذا السير، غير أننا نقطع أنه يحمل كثيرا من الحق في تصوير الواقع. تُخْبِرُ أَنَّ :
– نسبة ٥١% يؤيدون مقولة من الأفضل للبلد أَنْ يُجْرِيَ فَضْلَ الدِّينِ عن السياسة»، ولم يُعارض هذا المبدأ العالماني غير ٤١٪.
– ٪۳۰ فقط يرون أن الشريعة الإسلامية ملائِمَةٌ لِحُكم بلادهم، عِلْمًا أَنَّ هذه المجموعة منقسمة إلى رأبَين أولهما: القائلون إن الشريعة ملائمة إلى حد ما، ونسبتهم أكثر من النصف، وأما البقية فقد اعتبروا الشريعة ملائمة جداء، وأما القائلون إنّ الشريعة غير ملائمة، فقد شكلوا ٦١٪ من ممثلي شعوب هذه البلاد العربية.
– أَعْرَبَ ٤٣% أن لديهم مخاوف من الحركات الإسلامية السياسية مقابل ٤٠٪ قالوا إنه ليست لديهم مخاوف منها، وأفاد ۳۷ ٪ فقط أن لديهم مخاوف من الحركات العالمانية.
الأعجب هو أن ۸۷٪ من الشريحة التي تم استطلاع رأيها قد عرفوا أنفسهم أنهم متدينين، ولم ينسب نفسه إلى غير الإيمان غير ٠,٤٪ من المستطلعين !2(2) مجمل التقرير من على موقع المؤسسة: http://www.dohainstitute.org/content/b692680-8060-4836-83fe-bd94a8c9bd2. وهي حقيقة خطيرة وكارثية ليس لما تكشفه من انحراف بعيد عن دين الله في بلاد العرب فحسب؛ وإنما – وهو الأخطر ؛ لأن الملايين الكثيرة من الناس (الممثلة نسبيًا في هذا الاستطلاع لا ترى في مذهبها نقضا لأصول الدين وهدما لأركانه ؛ بل ترى نفسها على جادة الفهم النبوي للإسلام !!
الدعوة وجناية الحلول السريعة
لا شك أن التحديات التي تواجهها الدعوة الإسلامية كبيرة، ولا يَجْحَدُ ما قَدَّمَتْهُ جماعات الدعوة وأفرادها على مدار عقود طويلةٍ إِلَّا كَنُودٌ، غير أن ذلك لا يمنع الناصح من القول إنّ الدعوة قد سلكَتْ نَهْجَيْنِ لَا بُدَّ أن تتراجع عنهما .
أول هذين النهجين هو الخيار العفوي الذي لا يحمل في ذاته مشروع تغيير، والذي يبدأ بموعظة وينتهي بقصص للسالفين وتهييج لعواطف السامعين، مع إغراق في معالجة القضايا الجزئية والشخصية دون أن يُحدد لنفسه خطة مرحلية تنتهي إلى الهدف الأكبر، وهو استئناف الحياة الإسلامية بمعناها الصغروي والأكبر، ليعود للأُمَّةِ التآلف بين تصورها النظري وواقعها العملي.
وأما الثاني، فهو البحث عن حلول سريعة لإشكالات عميقة تتصل خيوطها بمنظومة العلاقات الدولية الكبرى وبانحراف الأمة منذ قرون حتى هَوَتْ إلى ما نحن فيه اليوم من علامات هذه العجلة الساذجة ظاهرة «الدعاة الجُدد»، وهَيْمَنَة الوُعّاظ الذين فصلوا جوهر الإسلام عن جوهر الحياة و«كَثلَكُوا» وَعْيَ الأمة و«دَرْوَشُوا» شبابها لِيَتَحَوَّلَ الدِّينُ في التصور الشعبي إلى
مجرد التزام بالأخلاق الطبيعية التي هي منتج بشرِيٌّ أَو مُشْتَرك جماعي لا يعرف تَمَيُزًا لَوْنِيًّا. وهذا المنهج سَهْلُ الانحراف عن صراط الالتزام العقيدي لأنه سينتهي في آخرِ أَمْرِهِ إلى الخضوع إلى أَمْزِجَةِ النَّاس وأهوائهم، ولن يملك الصمود أمام بنيان الباطل وأعوانه والمنتفعين منه إذا دافعوا عن وجودهم.
ليس أمام الدعوة فُسْحَةٌ من خيار إلا أن تراجع مناهجها، وقبل ذلك تراجع وعيها بالواقع، فإنَّ الخطأ في فهم الواقع سَبْرًا وتفكيكا لا بُدَّ أن ينتهي إلى عمى أو غبش في الرُّؤيَةِ، وفَسَادِ في نصب الأهداف ونَحتِ الأحلام.
العالمانية بين الغربيين والتَّغْرِيبيين
لقد ظل الغرب على مدى قرنين من الزمان يُقدِّمُ منظومته العالمانية على أنها نهاية تاريخ الفكر السياسي، زاعمًا أن التشكيك فيها أو «العدوان» عليها عدوان على قيم إنسانية مطلقة الثبوت؛ فمنظومة القيم الغربية الكبرى ليست «أفضل الموجود» فحسب؛ وإنّما هي «نهاية المنشود»؛ فالليبرالية والديمقراطية وغيرهما من الأنساق والمفاهيم الكبرى هي حقائق كونية على الغرب المتحضر أن يحمي العالم الشرقي – خاصة الإسلامي – من نفسه إن أراد أن يتجاوزها ، بالمنطق الاحتلالي نَفْسِهِ الذي تبنته فرنسا لما عَدَتْ على شمال إفريقيا؛ فقد سمت هذا الفعل الإجرامي: نظام الحماية (Protectorat)؛ لتحمي البلاد من تخلفها، ولترفعها من كبوتها ؛ فهي الوَصِيَّةُ على «الإنسانية» ولها الحق أن تَضْرِبَ بِيَدِ البَطْشِ كُلَّ مَنْ يتجاوز في حق نفسه!
أما في العالم العربي، فتتنازع العالمانية ثلاثة تيارات كبرى: تيار اغترابي مُنبَتُ الصَّلَةِ عن تراث الأمة يرى أن كل سبيل للثنائي عن الإسلام ومنظومته الحياتية بأبعادِهَا المُتَّسِعَةِ هو مطلب أساسي وخط لا يمكن التَّقَهْقُرُ ويُقدِّم التيار الثاني فكرة العالمانية على أنها آلية استنبات منافع مدركة في واقع مقحط، لا أنها نظرة ميتافيزيقية مُحادَّة للإيمان. أما الفريق الثالث فيرى
في العالمانية «دينا» يخالف الإسلام في صميميته.
في ظل هذا الواقع في العالمين الغربي والعربي تعلن العالمانية عن نفسها قضية أساسية في الجدل الفكري والعقائدي.
ماذا نريد؟
تتناول هذه المقالة -وما سيليها بإذن الله- قضيّة العالمانية كنظرة عقيدية بالنظر إلى أصولها وآثارها ومآلاتها، لتميّز حقيقتها الذاتية عن ما نُسب إليها زورا، وهي بذلك تسعى إلى إقامة تصورٍ صحيح لحقيقة المذهب على أساس القراءة في المصادر الأصلية. ويراعي الباحث في عمله التحليلي أن يؤول البحث إلى إقامة فَهُم دقيق للعالمانية بما يتيح الوصول إلى معرفة حكمها في الشرع ويدفع التأويلات الباطلة لمقولاتها من طرف أنصارها .
هل نحن في حاجة إلى أن نشغل الناس بالحديث عن العالمانية؟
تكمن الحاجة إلى هذه الدراسة في أمرين أساسيين :
– الحاجة العملية لفهم الواقع: إنَّ المُسلَّم اليوم محكوم بالسلطان المادي للعالمانية على مستوى الدَّوْلَةِ كَكيان سياسي وقانوني واقتصادي …. ولذلك فإنّه لا يملك حَقَّ السلبية أمام هذا المبدأ النظري المهيمن على تفاصيل وجوده، فهو مطالب أن يقطع بالقول الإيجابي أو السلبي منه. ويزداد الإلحاح عليه أن ينحاز إلى أحد طرفي الموالاة أو المعاداة إذا أدركنا أن من الطروحات الكبرى اليوم من تقول إنّ العالمانية تمثل نقضا لأصل الدين ونفيا لجوهر الملة وأصل المعتقد الإسلامي. إننا هنا إذن أمام حتمية معرفية لا بد أن تصدر بطريقة واعية عن المسلم المستبصر بحقيقة انتمائه وولائه.
– الحاجة إلى تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة والتحليلات غير الدقيقة: إن حال المعايشَةِ القَسْرِيَّة للعالمانية التي فُرِضَتْ على المسلم تقتضي أن يكون المسلم بصيرًا بمفاسدها وحيلها وثمراتها ؛ ولذلك فهو لا يستغني عن الجد في مراجعة فهمه وامتحان تبصره بأخطارها وهو أمر لا يقنع فيه المسلم بالإجمال والتعميم، وإنما يحتاج دِقةً في النظر وصبرًا على السبر مقتديًا بالمنهج القرآني في تعقب المذاهب المضلة.
تهدف هذه المقالة إلى أمرين:
– معرفة حقيقة العالمانية في اللغة والتاريخ والواقع.
– تصحيح المفاهيم والمقولات الشائعة الباطلة عن العالمانية، وأهمها :
١ – العلمانية – بكسر العين – مُشتَقَّةٌ من العِلم، وهي دالة على التفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي.
٢ – ظهور العالمانية في الغرب كان نتيجة لمحاربة الكنيسة للمتخصصين في العلوم المادية.
٣ – العالمانية لها معنى واحد وهو فصل الدين عن الدولة.
٤ – العالمانية ليست أيديولوجيا، فهي لا تتضمن مقولات من الممكن أن توصف بأنها مع الدين أو ضده.
5 – العالمانية ليست إلحادًا، إذ إنّ الكثير من العالمانيين يؤمنون بالله ويصلون في المساجد أو دور العبادة عند أهل الأديان الأخرى.
٦ – العالمانية لا تعادي الدين، وإنَّما تُقرّر أن الدين مسألة شخصية وحرية فردية .
7- ظهور العالمانية هو نتاج مؤامرة يهودية.
8- نجحت العالمانية في الغرب، واستطاعت أن تحقق الرفاهة والتوافق الاجتماعي.
۹ – الدولة الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية.
10 – العالمانية ضمانة لمنع استغلال الدين من رجال الدين.
والهدف الأعلى من وراء ذلك توصيف العالمانية على واقعها الصحيح ليَحْسُنَ بعد ذلك معرفة حُكْمِ الشَّرْعِ فيها .
الهوامش
(۱) هي: موريتانيا، والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان، وفلسطين، ولبنان، والأردن والعراق والسعودية واليمن والكويت. كما شملت الإحصائية عينة من المهجرين واللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن وداخل الأراضي السورية المحاذية للحدود التركية، ونحن لا نجزم بدقة هذا السير، غير أننا نقطع أنه يحمل كثيرا من الحق في تصوير الواقع.
(2) مجمل التقرير من على موقع المؤسسة:
http://www.dohainstitute.org/content/b692680-8060-4836-83fe-bd94a8c9bd2.
المصدر
كتاب: “العلمانية، طاعون العصر: كشف المصطلح وفضح الدلالة”، سامي عامري، ص15-20.
اقرأ أيضا
الفرقان بين الإسلام والعلمانية
دور أهل السنة في فضح العلمانية