يجتاح العالَمَ فزعٌ من فيروس كورونا، وهناك ما هو أخطر منه من الأمراض، والأخطر منهما خطر الانحراف العقدي والخُلقي، وثمة توازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على خالقها.
مقدمة
الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل كما جاء في الحديث (1رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني (716))؛ فإن الشرك الخفي يتسلل إلى النفوس دون أن تشعر.
وقد بالغ الكثيرون في التحرز من “الكورونا” والتعلق بالأسباب الوقائية إلى درجة يمكن أن تقدح في العقيدة وضعف التوكل على الله بسبب المبالغة في الاعتماد على الأسباب، وهذا ظهر في سلسلة من الإجراءات الاحترازية والوقائية التي قد تسوغ في جملتها إلا أن بعض تلك الوسائل غير مبررة، بل أثَّرت علی شتی نواحي الحياة من عبادات وتعليم وصحة واقتصاد وغيرها.. حتى أنه يمكن أن يقال: إن المفاسد بتعطيل تلك المصالح هي أكبر بكثير من مفاسد كورونا.
ومن المعلوم أن هناك أمراضا في العالم معدية وغير معدية تفتك بالناس أضعاف ما تفعله “كورونا”، كما أن الحروب الظالمة والتي تفتك بأعداد كبيرة من المسلمين يوميا هي أعظم شرا من کورونا، فصرنا بهذه الإجراءات المبالغ فيها كالذي يمنع زراعة العنب من أجل أن يمنع بذلك صناعة الخمر، فإن المفاسد والحرج الذي سيدخل على عموم الناس من منع زراعته هو أعظم من مفسدة شرب بعضهم للخمر.
قاعدة عقدية
وحتى تتضح علاقة ذلك بالعقيدة والتوحيد لا بد أن نتعرف على قاعدة الأسباب عند أهل السنة والجماعة، وخلاصة معتقدهم في ذلك أن:
الانقطاع إلى الأسباب والاعتماد عليها وحدها، شرك في التوحيد. كما أن الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. ونفي تأثير الأسباب مخالف للشرع والعقل، والتوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب.
وإذا أردنا أن نفهم حقيقة الأسباب عند أهل السنة فينبغي علينا أن نتعرف على صفتين من صفات الله عز وجل:
أولاهما: صفة الحكمة، فمن حكمته أن جعل لكل شيء سببا.
ثانيهما: صفة القدرة، فمن قدرته أن يأتي بالشيء من غير سببه كما جاء بعيسى عليه السلام من غير أب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا صفر، ولا هامة» فقال أعرابي: یا رسول الله، فما بال الإبل، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيُجْربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول». (2رواه البخاري (5770)) وهذا يدلنا على أن الإصابة الأولى بـ “كورونا” لم تكن عدوى.
ومن قدرته أيضا أنه قادر على إلغاء تأثير السبب كما ألغى تأثير النار على إبراهيم عليه السلام.
فالأسباب مؤثرة، وتأثيرها بإذن الله، وعلينا أن نستفرغ الوسع في الأخذ بالأسباب الحقيقية، ولكن نتعامل معها بجوارحنا، أما قلوبنا فمعتمدة على الله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23].
والأسباب تنقسم إلى قسمين الأول: أسباب وهمية، وهي التي ليس عليها دليل شرعي أو تجريبي.
الثاني: أسباب حقيقية، وهي ما ثبت سببیتها بالشرع ککون ماء زمزم شفاء من الأدواء، أو ثبت سببیتها بالتجربة. وهذه يشترط فيها شرطان:
الأول: أن يكون تأثير السبب في المسبب مباشر وبينهما اتصال.
الثاني: أن يكون التأثير ظاهرا لا خفيا إما بمعرفة عموم الناس أو أهل الاختصاص.
ولنأخذ مثالا تطبيقا: التداوي بالكي والنار، فهل هو سبب مشروع..؟ فقد ثبت بالتجربة أن الكي ينفع من بعض الأمراض، بل وثبت بالشرع أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى بعض أصحابه، فهو إذا سبب مشروع. أما قوله صلى الله عليه وسلم «من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل». (3رواه الترمذي (2055) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6081)) فالجواب عنه: أنه محمول على من اعتقد أن الكي يشفي بنفسه.. أو استعمل الكئ مع إمكانية التداوي بغيره فإن الشرع كره الكي، فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي». (4رواه البخاري (5681))
ومثال آخر: الطيرة، وهو: التشاؤم بالطيور أو ببعض المرئيات والمسموعات فتجعلك تمضي في الأمر أو تتركه، فهذا شرك أكبر إذا اعتقد أن الطيور أو الأمور المتشائم بها تضره بذاتها، أما إذا اعتقد أنها سبب للضر أو علامة عليه فهو شرك أصغر؛ لأن الشرع لم يجعل البوم أو الغراب سببا للضر، كما أنه لم يثبت بالتجرية أنه سبب للضر أو توقعه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الطيرة من الشرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل». (5رواه الترمذي (1614) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني. وانظر : مذكرة في العقيدة د. أبو زيد مكي)
ومن المعلوم أن شرك الأسباب لا يقدح في توحيد الربوبية فقط؛ بل كذلك يقدح في توحيد الألوهية، فالخوف من غير الله ينقسم إلى عدة أقسام:
الأول: محمود، كالخوف من شيء قد انعقدت أسباب التضرر منه، كالخوف من الاختلاط بشخص ثبت مرضه بالكورونا.
الثاني: مذموم، كالخوف من سبب وهمي ليس فيه ما يدعو للخوف، کالخوف من شخص لم يعرف أنه مصاب وفي منطقة غير موبوءة.
الثالث: محرم، فتترك من أجله الفرائض أو ترتكب الكبائر.. ومن ذلك منع الطائفين والمعتمرين، لاسيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا أحدا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار». (6رواه أبو داود (1899) وصححه الألباني) والله جل وعلا يعلم أنه ستكون هناك أوبئة وأمراض. كما أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام المنع من الطواف والعمرة بسبب الوباء، والشرع لا يلغي مصلحة إلا لكونها مصلحة موهومة أو ضئيلة بالنسبة إلى ما يضادها من المصالح. وهذا الخوف قد يصل إلى الشرك الأكبر، فالخوف من غير الله أن يصيبك بمكروه بلا إذن من الله يدخل في الشرك الأكبر.
وهناك أسباب شرعية يدفع الله بها المرض والوباء مثل: الاستغفار، والتوبة، وشرب ماء زمزم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة، وهي طعام طعم، وشفاء سقم». (7رواه الطيالسي (459) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1162))
مواجهة الوباء بالأسباب الشرعية
ومن أسباب دحر الأعداء والأوبئة وكل ما ينزل بالناس من مصائب وما لم ينزل مما يتوقع نزوله: الدعاء؛ يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
يقول العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
“والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل.
وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه”. (8الجواب الكافي (ص 4))
وأبواب الرحمة لا شك أنها تفتح بالدعاء، ويعُمّ ذلك ما نزل من بلاء وما لم ينزل؛ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «من فتح له منکم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا يعطَى أحب إليه من أن يُسأل العافية». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء». (9رواه الترمذي (3548) وغيره وصححه الألباني)
ومن أعلى الدعاء التوسل إليه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ عن أبي التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنبش التميمي، وكان كبيرا: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ قال: نعم. قال: قلت: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين..؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول اللہ صلی الله عليه وسلم من الأودية والشعاب، وفيهم شيطان بيده شعلة نار، يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهبط إليه جبريل، فقال: یا محمد قُل، قال: «ما أقول؟» قال: «قل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير، یا رحمن». قال: فطفئت نارهم، وهزمهم الله تبارك وتعالى”. (10رواه أحمد (15460) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (2995))
قال ابن تيمية:
“و«كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر»: هي التي كوَّن بها الكائنات فلا يخرج بَر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته”. (11مجموع الفتاوی (11/ 271))
وعن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيتُ من عقرب لدغتني البارحة. قال: «أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك». (12رواه مسلم (2709))
وعن أبان بن عثمان يقول: سمعت عثمان ـ يعني ابن عفان ـ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم تُصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تُصبه فجأة بلاء حتى يمسي». قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه فقال له: مالَك تنظر إلى فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها. (13رواه أبو داود (5090) وغيره، وصححه الألباني)
وعن أبي رافع أن خالد بن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه وَحشة يجدها فقال له: «ألا أعلمك ما علمني الروح الأمين جبريل؟ قال لي: إن عفريتا من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر طوارق الليل والنهار ومن شر كل طارق يطرق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان». (14رواه عبد الرزاق (19831) وسنده صحيحا)
فاستعاذة العبد باسم الله عز وجل وبكلماته مما يحصل به الأمن والعافية والطمأنينة والسلامة من كل شر مهما عظم..
ومنه الاستغفار، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].
يقول شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى:
“وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا، فعلى كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن ذلك يرفع العذاب وينزل الرحمة”. (15مجموع الفتاوی (35/ 83))
وكلامه رحمه الله تعالى في طائفتين من المسلمين متنازعتين؛ لكنه عام في كل وقت ولكل مسلم كما لا يخفی.
خاتمة
ومما ينبغي استحضاره في مثل هذه الفتن والأوبئة أن كل هذه الشرور ناتجة عن إجرام وظلم بني آدم؛ يقول ابن القيم:
“ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله، حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها، أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا.
فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم:41]. ونزِّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض. وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم”. (16زاد المعاد (4/ 362-363))
حفظ الله تعالى عباده المؤمنين من كل سوء.
………………………..
الهوامش:
- رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني (716)
- رواه البخاري (5770).
- رواه الترمذي (2055) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6081).
- رواه البخاري (5681).
- رواه الترمذي (1614) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني. وانظر : مذكرة في العقيدة د. أبو زيد مكي.
- رواه أبو داود (1899) وصححه الألباني.
- رواه الطيالسي (459) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1162)
- الجواب الكافي (ص 4).
- رواه الترمذي (3548) وغيره وصححه الألباني.
- رواه أحمد (15460) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (2995).
- مجموع الفتاوی (11/ 271).
- رواه مسلم (2709).
- رواه أبو داود (5090) وغيره، وصححه الألباني.
- رواه عبد الرزاق (19831) وسنده صحيحا.
- مجموع الفتاوی (35/ 83).
- زاد المعاد (4/ 362-363).
المصدر:
- الشيخ طه سليمان