ليس من قلبٍ أبر من قلب رسول الله، ومن بعده قلوب أصحابه. ومن جاء بعدهم فطريقه مشروط باتباعهم فقد أثنى الله عليهم، واشترط على من جاء بعدهم باتباعهم.
مقدمة
الحمد لله تعالى وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد..
من أصول أهل السنة والجماعة التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم كما قرر ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. (1انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج1، ص241)
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها؛ كما أخبر الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، في قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم…». (2البخاري: كتاب فضائل الصحابة ح/3651)
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من كان مستنّاً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبِعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم». (3أورد ابن تيمية هذا الأثر في منهاج السنة النبوية ج2، ص77، وعزاه إلى ابن بطة، ولعله في الإبانة الكبرى)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الأثر:
“وقول عبد الله بن مسعود: (كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً..) كلام جامع؛ بيّن فيه حسن مقصدهم ونياتهم ببر القلوب، وبيّن فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم، وبيّن فيه تيسير ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف”. (4منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: ج2، ص79)
وقال بعضهم للحسن البصري رحمه الله: أخبِرْنا صفة أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبكى الحسن ثم قال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبّوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم. ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفّوا بسخط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفْرطوا في غضب، ولم يحيفوا ولم يجاوزوا حكم الله في القرآن. شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم. (5أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج2، ص150)
لقد أدرك سلفُنا الصالح قدْر الصحابة رضي الله عنهم، فقاموا بحقوق الصحابة علماً وعملاً، اعتقاداً وسلوكاً، فهداهم الله تعالى إلى الصراط المستقيم. وخالف المبتدعةُ سبيل أهل السنة، فطعنوا في الصحابة رضي الله عنهم، وشتموهم، ومن ثم فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، وكلما زاد سبّ المبتدعة للصحابة رضي الله عنهم زادوا ضلالاً وغيّاً، كما هو ظاهر في طائفة الرافضة وإخوانهم الباطنية، ويليهم في الضلال: الخوارج والمعتزلة؛ فلما كان عداء الخوارج والمعتزلة للصحابة دون عداء الباطنية، فإن ضلالهم أقل، وانحرافهم أدنى من الباطنية، وكان الأشاعرة قريبين من أهل السنة في باب الصحابة، ولذا كانوا أقرب من غيرهم، مع أنهم لم ينفكّوا عن شُعبة من الرفض عندما زعموا أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم. (6انظر: التسعينية لابن تيمية، ص256) (7هذه المقولة المشهورة عند أهل الكلام غير صحيحة، انظر بيان خطئها في فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ محمد الصالح العثيمين ضمن مجموع فتاوى الشيخ ج2، ص25-29 والحقيقة أن المقولة يجب أن تكون أن مذهب السلف هو أسلم وأعلم وأحكم، كما بين الشيخ (حفظه الله))
وحدة معتقدهم واستقامته
كان الصحابة رضي الله عنهم على عقيدة واحدة، فهم خير القرون، قد تلقوا الدين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلا واسطة، ففهموا من مقاصده، صلى الله عليه وسلم، وعايَنوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم (8انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج27، ص388)
لقد تلقوا النصوص بالقبول والتسليم، وقابَلوها بالإيمان والتعظيم، وجعَلوا الأمر فيها أمراً واحداً، وأجْروها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عِضِين؛ فآمَنوا ببعضها، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين. (9انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص49)
قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «قِف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصرٍ نافذ كفوا، وَلَهُمْ على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسّر، وما دونهم مقصّر، لقد قصّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم». (10أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج5، ص338، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر) : ج2، ص247 عن عبد العزيز الماجشون)
وأوصى الإمام الأوزاعي رحمه الله من سأله عن القَدَر بهذه الوصية: «وأنا أوصيك بواحدة، فإنها تجلو الشك عنك، وتصيب بالاعتصام بها سبيل الرشد إن شاء الله تعالى:
تنظر إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من هذا الأمر؛ فإن كانوا اختلفوا فيه، فخُذ بما وافقك من أقاويلهم، فإنك حينئذ منه في سعة، وإن كانوا اجتمعوا منه على أمر واحد لم يشذ عنه منهم أحد.
فأين المذهب عنهم..؟ فإن الهلكة في خلافهم، وإنهم لم يجتمعوا على شيء قط فكان الهدى في غيره، وقد أثنى الله عز وجل على أهل القدوة بهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ…﴾ [التوبة: 100] واحذر كل متأول للقرآن على خلاف ما كانوا عليه..”. (11أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر): ج2، ص254)
وكان اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه والفروع أكمل من اجتهادات مَن بعدهم، وصوابهم أكمل من صواب المتأخرين، وخطؤهم أخف من خطأ المتأخرين (12انظر: منهاج السنة النبوية، ج6، ص80)، ولذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: «هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا». (13انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص80)
يقول ابن القيم معلقاً على كلام الشافعي:
“قد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته.. وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفَهماً عن الله ورسوله ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا وساطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضّاً طريّاً لم يَشُبْه إشكال، ولم يَشُبْه خلاف”. (14إعلام الموقعين: ج1، ص81، 82 باختصار)
في التعبد والسلوك
وفي باب التعبد والسلوك كان الصحابة رضي الله عنهم أرباب النسك الشرعي الكامل كما سبق وصفهم في مقالة الحسن البصري؛ يقول ابن تيمية:
“فالعلم المشروع والنسُك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما ما جاء عن من بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً… فمن بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه: فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى (15مجموع الفتاوى: ج10، ص362، 363 باختصار)
خاتمة
لقد خلّف الصحابة رضي الله عنهم ثروة نفيسة من الأقوال المأثورة، والمواقف العملية المسطورة في سائر المجالات من عقيدة، أو فقه، أو سلوك، أو دعوة… إلخ، وكم نحتاج إلى النظر في تلك الآثار، والانتفاع بها، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه ـ ولله الحمد ـ من يطالب بالأخذ بالكتاب والسنة.
…………………………….
الهوامش:
- انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج1، ص241.
- البخاري: كتاب فضائل الصحابة ح/3651.
- أورد ابن تيمية هذا الأثر في منهاج السنة النبوية ج2، ص77، وعزاه إلى ابن بطة، ولعله في الإبانة الكبرى.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: ج2، ص79.
- أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج2، ص150.
- هذه المقولة المشهورة عند أهل الكلام غير صحيحة، انظر بيان خطئها في فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ محمد الصالح العثيمين ضمن مجموع فتاوى الشيخ ج2، ص25-29 والحقيقة أن المقولة يجب أن تكون أن مذهب السلف هو أسلم وأعلم وأحكم، كما بين الشيخ (حفظه الله).
- انظر: التسعينية لابن تيمية، ص256.
- انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج27، ص388.
- انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص49.
- أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج5، ص338، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر): ج2، ص247 عن عبد العزيز الماجشون.
- أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر) : ج2، ص254.
- انظر: منهاج السنة النبوية، ج6، ص80.
- انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص80.
- إعلام الموقعين: ج1، ص81، 82 باختصار.
- مجموع الفتاوى: ج10، ص362، 363 باختصار.
المصدر:
- د. عبد العزيز آل عبد اللطيف، مجلة البيان، العدد: 90.