أريد أن أبدأ بفكرة أعتقد أنها من الظواهر التي بدأت تنتشر، وإن كانت هي موجودة قديماً، لكن الآن مع كثرة المصائب والملمات أصبحت تتضح أكثر وأكثر في عصرنا الحالي، وهي فكرة الإسلام المجاني.
ما المقصود بالإسلام المجاني؟
ماذا أعني بالإسلام المجاني؟ الإسلام المجاني هو رغبة المسلم بأن يكون تدينه بلا كلفة، بأن يكون تدينه وإسلامه بلا ثمن، بلا مقابل، بلا ضريبة، بمعنى أنه مرتاح يختار الأحكام الإسلامية التي تتلائم مع نفسيته ومع مزاجه بما لا يشعره بعبء، وبالتالي هو يشعر بأنه لا يعيش حالة الانفصام؛ هو من جهة أرضى دينه كمسلم، لكن في نفس الوقت أرضى مزاجه وأرضى نفسه بأن يختار الأحكام الأسهل عليه، ويناصر القضايا الأهون عليه، لكن متى ما شعر أن هناك كلفة هرب من الأمر. ولذلك لا يدافع عن قضية إلا إذا كانت مضمونة، وكل حكم إسلامي له كلفة حاول أن يتهرب منه بأي طريقة من الطرق، أحياناً يتحايل على الشرع نفسه، وأحياناً بالهجوم على القائمين بهذا المشروع، أو أي شيء من هذا القبيل، لكن هناك حرص دائم على أن يبتعد عن الأحكام الإسلامية ذات الكلفة، ويريد إسلاماً وردياً، إسلاماً مجانياً لا كلفة فيه.
منطق الإسلام في التكليف: الابتلاء والاختبار
لو أردنا أن نعود إلى الإسلام نفسه، والمتحدث الرسمي باسم الإسلام هو الوحي نفسه، الوحي نفسه لو أردنا أن نستنطق الوحي ويخبرنا ما منطق الإسلام في التكليف؟ نجده واضحاً وجلياً لا غبش فيه. الله عز وجل في مطلع سورة العنكبوت ماذا يقول؟ يقول: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ). يعني: هل يعتقد الناس – ولاحظ أنه طرح الآية على شاكلة سؤال استنكاري، لم يأتيها بجملة خبرية، لا – قال: (أَحَسِبَ النَّاسُ) يريد أن يلفت نظرك بهذا السؤال الاستنكاري إلى أن هذا أمر مستعجب ومستغرب: أنك تعتقد هذه العقيدة؟! (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) بدون أي اختبار؟! تقول أنا مسلم بدون أي اختبار، بدون أي كلفة، ثم تريد الجنة يوم القيامة؟! هذا بأي معيار؟! يعني كأن الآية تقول: أنت من كل عقلك تعتقد أنك سوف تدعي الإسلام ثم تعيش حياة وردية ثم تذهب إلى الجنة هكذا؟! لا، ما يستقيم! ما يستقيم، وهذا أمر بدهي فطري، مثل: الآن ما تقول لشخص: أنت – يعني – أنت من كل عقلك تريد أن تأخذ شهادة جامعية بدون أن تختبر أي اختبار وأنت جالس في منزلك هكذا؟! لا، كيف؟!
التمايز بين الصادق والكاذب بالفتنة
إذاً، كيف يحصل التمايز بين المسلم الصادق والمسلم غير الصادق؟ كل الناس يدعون الإسلام، كل الناس يدعون الإيمان، كيف يتمايز الناس إذاً؟ لابد إذاً من اختبار. والله عز وجل استعمل كلمة (الفتنة): (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ). والفتنة هي الاختبار الكاشف عن المعدن، ليس مطلق الاختبار، ليس اختباراً عادياً، الاختبار الذي يكشف عن معدن الإنسان، هي أخذت من فتنة الذهب: الذهب إذا أردت أن تعرف أنه ذهب أصلي أو غير أصلي ماذا تفعل به؟ تضعه على النار، ثم بعد ذلك إذا كان مزيفاً يتحول إلى الأسود يتبين أنه مزيف، أما إذا كان ذهباً أصلياً فسيبقى ويزداد لمعاناً ربما. فمن خلال النار والاختبار يتبين ويكشف معدن الذهب. وهكذا الابتلاءات الإلهية للإنسان هي اختبارات لكي تكشف معادننا. كلنا ندعي الإسلام، إذاً لابد من اختبار.
تكرار منطق الابتلاء في القرآن
وهذا منطق مضطرد، تجد القرآن يكرره كثيراً، وعلى كثرة تكرار القرآن له لازلنا نغفل عنه. الله عز وجل يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). أين هذا؟ بأي منطق؟ هكذا تدخل الجنة هكذا بدون أي اختبار؟ بدون أي ابتلاء؟ بدون أي كلفة؟ بأي منطق هذا؟ لا. (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) اللذين قبلكم كلهم خضعوا لهذا الابتلاء، كلهم خضعوا لهذه الفتنة، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). الله عز وجل يعلم الصادقين والكاذبين أزلاً، لكنه يريد أن يثبت عليك من نفسك، لأنها جرت سنة الله عز وجل أن يجعل الإنسان نفسه شاهداً على نفسه، ولذلك تشهد الألسنة والأرجل عليك يوم القيامة. لماذا؟ لأن الله عز وجل ينتزع اعترافك منك بنفسك، وحتى يريك هذا الاعتراف لابد أن يبتليك ويختبرك.
علاقة الابتلاء بمكانة الإنسان عند الله
ثم هذا الابتلاء بحسب – بحسب مكانة الإنسان، وبحسب – يعني: أنت كلما ارتقيت عند الله عز وجل كلما زادت الكلفة، وكلما ابتعدت كلما قلت الكلفة. منطقي؟! يعني: أنت لما تذهب إلى البكالوريوس اختباراتك مستوى معين، ثم تذهب إلى الماجستير اختبارات أكبر وأقوى، ثم تذهب إلى الدكتوراه اختبار أقوى وأقوى، كلما صعدت كلما زاد الاختبار. هذه سنة الله عز وجل، ولذلك إبراهيم عليه السلام تعرض إلى أكبر اختبار، لأن إبراهيم هو في أعلى مكانة، الله عز وجل اتخذه خليلاً، ثم ماذا أمره؟ أمره بأن يذبح ابنه، وهذا كما قال القرآن نفسه: (إن هذا لهو البلاء المبين)، بلاء مبين. كيف تؤمر بأن تذبح ابنك؟! أنت الآن لو جاؤوا بك وقالوا سنذبح ابنك أمامك وأنت تنظر – أنت لا تفعل شيء فقط انظر – لا تتحمل، يمكن تموت عشر مرات قبل أن ينتهوا من القهر والحسرة، فما بالك بأن تؤمر أنت تذبح ابنك؟! كيف يكون وضعك بعد ذلك؟! لذلك القرآن سماه البلاء المبين، ومع ذلك نجح فيه إبراهيم، نجح في هذا الابتلاء. فكلما زادت مكانة الإنسان عند الله عز وجل زاد ابتلاؤه.
ميل المسلمين المعاصرين للإسلام المجاني
لكن الإشكال اليوم أن المسلمين عموماً أصبحوا يميلون إلى الإسلام المجاني: أنا أريد إسلام لكن بدون أي شيء، بدون ما أدفع أي كلفة. حتى الزكاة يحاول أن يتهرب منها – أبسط الواجبات –تجد ثرواته هائلة، لكن في النهاية لما يطلب منه مثلاً الزكاة تجده يبحث عن أي حيلة من الحيل، أي مخرج فقهي أو غير فقهي حتى – المهم أنه يتخلص – لا يريد أي كلفة. يعني: جنة في الآخرة وكل السعادة المادية في الدنيا بدون أي تعب وبدون أي ابتلاء! وهذا المنطق لا يستقيم مع القرآن، إذا أردنا الإسلام الذي تحدث عنه القرآن هذا الأمر لا يستقيم مع القرآن هكذا. إذاً نجد أن منطق الإسلام يقوم على الابتلاء والاختبار، الكلفة.
الابتلاء بالخير والشر
نحن لدينا إشكال أيضاً في مفهوم الكلفة والابتلاء: أننا نحسب أن الله عز وجل لا يبتلي الإنسان إلا بالشر، فإذا رأينا مريضاً، إذا رأينا فقيراً – نقول هذا مبتلى، لكن حينما يكون الإنسان معافى في بدنه وجسده وأهله وماله نقول: لا، هذا ما عنده ابتلاءات! هذا غير صحيح، غير صحيح. الله عز وجل ماذا يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). في الاثنين! كما يبتلي بالشر يبتلي بالخير. الناس ينتبهون لابتلاءات الشر، لذلك لما يمرض يخضع لله عز وجل ويتضرع لله عز وجل، لكن لما يكون معافى؟! لما يكون فقيراً يتضرع إلى الله عز وجل، لما يكون غنياً؟! لا. لما يكون مظلوماً – موظف مظلوم – يتضرع إلى الله عز وجل، لما يكون مديراً – وزيراً – لا! لأنه يغفل أن النعمة بحد ذاتها ابتلاء واختبار: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). لذلك أنت الآن لما تكون صاحب منصب هذا من أعظم الابتلاءات، هذا اختبار إلهي: كيف تصرفت في المنصب؟ هل خدمت أصحابك؟ خدمت أهلك أقربائك على حساب الكفاءات؟ هذا ابتلاء عظيم. لذلك صعب جداً، والناس غالباً – بحسب ما أرى – تنجح في ابتلاء الشر ولا تنجح في ابتلاء الخير. ابتلاء الخير أصعب، لذلك كم تعرف – مثلاً – تاجر ملتزم جداً بماله ويستثمر ماله وفقاً لمراد الله عز وجل؟ قليل جداً. لكن كم تعرف فقير صابر محتسب؟ كثير. نفس الشيء: كم تعرف صاحب منصب يلتزم بأن يكون مسؤولاً عن الكفاءات ومسؤولاً عن الإنتاج ومسؤولاً عن أن يخلق المشاريع النافعة لمجتمعه؟ كم؟ قليل جداً. لأن السلطة، المال، الثروة، النعم هذه تجعل الإنسان يطيش، لا يستطيع أن يسيطر على نفسه إلا من رحم الله عز وجل.
الكلفة في مختلف مناحي الحياة
لذلك لا تنظرون للشرور فقط على أنها هي الابتلاءات، النعم هي ابتلاءات أكبر لأنها مخفية ولا ينتبه لها الناس. لذلك قد لا تكون الكلفة التي تدفعها حتى تكون مسلماً حقاً بالشرور التي تقع عليك، وإنما بالنعم – الخير – التي تتحصل عليها. هذه هي الضريبة التي تدفعها. لأنه كما ذكرنا الإنسان لما يقول أنا مسلم هذه دعوة كبيرة، دعوة كبيرة، لأن المسلم ماذا يعني؟ أنه مسلم لله تسليماً مطلقاً. طيب، هذا يحتاج إلى اختبار حتى نتأكد: هل تسليمك صحيح ولا غير صحيح؟ مثل: الآن شخص يقول: أنا ولائي لك تماماً – موظف عندك في شركة – أو موظف عندك في أي مكان – يقول: أنا ولائي لك تماماً، وبمجرد ما يأتيه عرض وظيفي بسعر قليل أعلى تركك! طيب هذا كيف؟ الآن نعرف أين ولائك؟! مع أول تجربة هربت! مع أول تجربة لم تثبت ولائك. فإذاً دعوى أن ولائك لي يحتاج إلى اختبار، لابد أن يستبين هذا الأمر بالمواقف. ودعوى أنك مسلم أيضاً يتطلب اختبار حتى يتميز الصادق من الكاذب. لذلك لابد أن نوطن أنفسنا على الكلفة، وأن يكون فطرياً في عقل المسلم أنه بما أنه مسلم يجب أن يتقبل الكلفة، وأن يعتاد عليها، وأن يجعلها جزءاً من فهمه للإسلام.
نماذج تطبيقية للكلفة
في كل مستويات الحياة هناك كلفة. الكلفة في الوالدين. أحياناً يكون لديك والدان – مثلاً –يلحان عليك كثيراً، سلوكهما – مثلاً – غير جيد إلى آخره، تجد الابن عقهما. لماذا؟ قال لك: والله يا أخي أزعجوني! أزعجوني، يتكلمون كثير، يلحون كثير، مشاكلهم كثيرة إلى آخره، وأنت لا تبر والديك إلا إذا كانا جيدين! إلا إذا كانا بدون كلفة! ها؟! لا، الله عز وجل لما كلفك بالوالدين يريد أن يرى صدقك، فلما ترى أن في والديك إشكالاً يتطلب الصبر، هذه هي الكلفة التي أراد الله عز وجل اختبارك فيها. فإذا كنت تنفر من أي كلفة كيف إذاً تدعي أنك مسلم؟! كيف تدعي أنك مؤمن؟! لا بد أن تتحمل الكلفة. بعض الناس يتعامل مع والديه كأنه يتعامل مع صديقه: صديقه – مثلاً – أخلاقه سيئة تركه وأعرض عنه وبحث عن صديق آخر. نفس الشيء مع والديه! رأى بعض الأخلاق وكذا ما قدر يصبر عليه تركهم! لا، أنت ما تتعامل مع صديقك، أنت تتعامل مع والديك، منطق مختلف تماماً في التعامل معهما. أو العكس أحياناً: الكلفة في أبنائك. الأبناء نعمة عظيمة، لكن أن ترميهم في مدارس لا تعترف لا بدين ولا لغة ولا هوية، تقول: والله فقط لكي أضمن مستقبلهم، أما دينهم ولغتهم هذا كله يذهب هباءً منثوراً! هذا فشل في الاختبار الإلهي. أنت خفت من الكلفة هنا، كان تفكيرك كله متعلق بالوظيفة، مع أنه ما في تعارض، ممكن تعلمهم الدين واللغة وما يتطلب الوظيفة، لكن بعض الناس اليوم يرى ابنه ينسلخ من دينه وينسلخ من لغته ومع ذلك لا إشكال عنده! كل ذلك طمعاً بالوظيفة التي حتى ربما لو تخرج لا يجدها مستقبلاً! هذا فشل في الاختبار.
الكلفة في المال والمسؤوليات
وأحياناً تكون الكلفة في الأموال، وهذا من أصعب الأشياء، لأن سبل الأموال كثيرة، والله عز وجل حرم سبلٌ كثيرة من سبل تحصيل الأموال، وأوجب عليك قيوداً أخلاقية في التعامل مع الأموال، وليس كل إنسان يستطيعها. ربما تكون محامياً وتعرض عليك قضية فيها مال هائل لكن فيها نصرة للظالم على المظلوم، هذا اختبار إلهي ليرى مدى صدقك. أو أحياناً – سبحان الله – بعض الأطباء لديهم طرق – لأن الأطباء يثق الناس بهم – فلديهم طرق كثيرة في أخذ الأموال من الناس بالباطل، وهذا أسلوب مغري، يعني ممكن حتى يتفق مع الصيدلي على أنه يصرف أدوية أنت لا تحتاجها فقط كي يستفيد من الأموال. لكن الإنسان حينما يتذكر أن هذا ابتلاء لا يقف هنا: نعم، أخسر أموال؟ هذه الكلفة. هذه طبيعة الإسلام: أنه لا توجد جنة بدون كلفة.
الصفقة مع الله
هذه صفقة: صفقة مع الله عز وجل بالنص – النص الصريح: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). الله الذي اشترى واشترى منك مباشرة، ما في وسيط بينك وبين الله عز وجل. هذه الصفقة ترضى بها؟ إذاً فيها كلفة في الدنيا وجنة في الآخرة. أما أن تتهرب من الكلفة في الدنيا وتريد الجنة في الآخرة، هذا منطق لا يستقيم. وقد تجد الكلفة في العلم: قد يكون الشخص عالماً، قد يكون عالماً شرعياً أو غيره – يعني – يجب عليه أن يبين حقائق للناس، لكن أحياناً بعض المواقف يخشى أن يخسر مكانته، مثلاً يكون مفتياً في في بنك إسلامي أو شيء من هذا القبيل، ويرى البنك يلف ويدور ومع ذلك يسكت عنه حتى لا يخسر وظيفته! لابد أن تدفع الكلفة هنا. أو حتى أحياناً الكلفة لها مظاهر كثيرة، يعني حتى في العلاقات الدولية: لما الدولة تكون على عهد مع دولة أخرى ومعاهدة، ثم تلوح لها فرصة اقتصادية أخرى لكن على شرط أن تنقض هذه المعاهدة، هذه كلفة يجب أن تصبر: نعم، ضاعت علي فرصة اقتصادية، لكن في سبيل التزامي الأخلاقي. لكن هذه السيولة الأخلاقية اليوم في المجتمعات المسلمة ناتجة عن تصورنا بأن الإسلام بلا كلفة.
المصدر
صفحة د. نايف بن نهار، على منصة ميتا، محاضرة مفرغة بتصرف يسير.

