يمثل تحديد جهة تلقي الشرائع والنظم في حياة المسلمين جزءا من دينهم وعقيدتهم لا ينفصل عن عبادتهم وشعائرهم؛ فالعلمانية غريبة على الإسلام وطارئة على مجتمعاته.

مقدمة

يقول الله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً * وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾. [النساء:58-70]

هذا الدرس يتناول موضوعاً خطيراً.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه متمثلاً في النظام الأساسي لهذه الأمة. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره.

إن القرآن ـ وهو ينشىء هذه الأمة إنشاءا ـ وهو يخرجها إلى الوجود إخراجاً. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾؛ إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة من حيث لم تكن، وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورَها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام ويربط بهذا التصور ـ في هذه النقطة بالذات ـ نظامها الأساسي، الذي يميّز وجودها من وجود الجاهلية حولها ويفردها بخصائص الأمة التي أُخرجت للناس، لتبيَن للناس، وتقودهم إلى الله.

نظام رباني

وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائماً ومنبثقاً من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام..! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها والطريقة التي تتلقى بها والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وتُردّ إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّ الإسلام.

وعندئذ يلتقي «النظام الأساسي» لهذه الأمة بالعقيدة التي تؤمن بها؛ في وحدة لا تتجزأ ولا تفترق عناصرها.

وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقاً كاملاً، وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس؛ بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل «مسلم» فيها..!

إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع ـ بإذن الله ـ لا لمجرد الإبلاغ والإقناع: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

(ويقول لها): إن الناس لا يؤمنون ـ ابتداء ـ إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله ممثلا ـ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ في أحكام الرسول. وباقياً بعده في مصدَريْه القرآن والسنة بالبداهة. ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ـ ليحسبوا مؤمنين ـ بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: ﴿فَلا وَرَبِّكَ.. لا يُؤْمِنُونَ.. حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾؛ فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.

(ويقول لها): إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ـ أي إلى غير شريعة الله ـ لا يقبل منهم زعْمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذّبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً﴾ .

(ويقول لها): إن علامة النفاق أن يصدّوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله:

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً﴾ .

(ويقول لها): إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله، عز وجل، في هذا القرآن، وأن تطيع رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، في سُنته، وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.

(ويقول لها): إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله؛ أي شريعة الله وسنة رسوله: ﴿فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.

وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمناً على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبَدَ الدهر، في حياة الأمة المسلمة.

قاعدة الإيمان ونظام حياة

وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه؛ إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجدّ ـ وتختلف فيها وجهات النظر ـ إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ..

ولا ننسى ما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾؛ من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أرباباً من دون الله ـ لا لأنهم عبدوهم ـ ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع ـ ابتداء من عند أنفسهم ـ فجُعلوا بذلك مشركين، الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه، حتى الكبائر.. «وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر».

فردُ الأمر كله إلى إفراد الله، سبحانه، بالألوهية؛ ومن ثم إفراده بالحاكمية؛ فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلماً ويبقى المؤمن مؤمناً. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبداً؛ إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..﴾.

خاتمة

هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض. من إقرار مبادئ العدل والخُلق على أساس منهج الله القويم السليم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.

ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجاً للجماعة المؤمنة ومنهجاً للبشرية جميعاً؛ المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفَى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة؛ ومن ثم فـ «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات.. التي أمر الله تعالى بأدائها.

…………………………………..

المصدر:

  • سيد قطب، في ظلال القرآن تفسير سورة النساء (58-70).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة