58 – مفهوم 9: شبهتان والرد عليهما
يَرِدُ على القول الحق في مسألة الحكم بالشرع شبهتان، نذكرهما فيما يلي ونرد عليهما:
1 – يرى البعض السكوت عن بيان هذا الكفر البواح خشية الفتنة، ولما يترتب على بيانه من مفاسد بزعمهم، والأولى في نظرهم هو الصبر والسكوت حتى يتقوَّى المصلحون ويقدروا على البيان ومواجهة الطواغيت.
وللجواب على ذلك نقول: هناك فرق بين التبيين والتغيير، وما ننادي به حاليًا هو البيان باللسان أو القلم دون التغيير باليد والسنان؛ فإن التغيير بالجهاد والمواجهة هو الذي تشترط له القدرة، وتراعى فيه المصالح والمفاسد، أما بيان التوحيد فهو المعروف الأكبر الذي ينبغي أن يواجه به الشرك الأكبر، وهذا لا يجوز تأخيره بحال؛ لأن الشرك الأكبر هو الفتنة الكبرى الواردة في قول الله تعالى: (وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ) [البقرة:191]، [ينظر تفسير ابن كثير للآية، وغيره من التفاسير]. والرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قـول الله تعالى: (قُمۡ فَأَنذِرۡ) [المدثر:2] كان مستضعفًا في مكة المكرمة، وأصحابه يخفون إسلامهم، فقام وصدع بالحق وبيَّن الشرك وحذَّر منه، ولكنه أجَّل التغيير بالقوة إلى حين تمت له القدرة على ذلك؛ فلم تُزل الأصنام من حول الكعبة إلا عند فتح مكة عام 8 هـ؛ أي إن المنكر ظل قائمًا طوال واحد وعشرين سنة هي مجموع العهد المكي وثماني سنوات من العهد المدني، بينما التحذير منه وبيان الحق قد صُدِع به من أول بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 – والشبهة الثانية تتلخص فيما ظهر في الآونة الأخيرة من بعض دعاة السوء من تجاوز حد السكوت عن بيان الحق في هذه المسألة إلى التهوين من شأنها، والدفاع عمن يقع فيها من الحكام بادِّعاء أن ذلك مجرد معصية وليس شركًا أكبر ما دام المشرع لحكم غير الله لم يجحد حكم الله ولم يستحل فعله، وهو ممن يقول: «لا إله إلا الله». ويحتجون على ذلك بالقول المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) [المائدة:44] قال: «كفر دون كفر» [ينظر تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر، الأثران: (12026،12025)].
وهذا الفهم من هؤلاء ضلالٌ مبين، وخلط للأمور عجيب؛ حيث إن مجرد تبديل شرع الله والاستعاضة عنه بغيره من تشريعات البشر هو في حد ذاته كفر أكبر؛ سواء وُجِدَ الاستحلال أم لم يوجد؛ إذ لم تشترط النصوص التي تدل على كفر من بدَّل الشرع وحكم بغير شريعة الرحمن الاستحلال، وهذا مجرد ادِّعاء استجلبه هؤلاء من بُنيات أفكارهم. وإنما يُشترط لكون الحكم بخلاف الشرع معصية وليس كفرًا الشروط أو القيود الآتية:
أ – أن تكون السيادة للشريعة الإسلامية، وأصل التحاكم مبنيًّا على الكتاب والسنة، ومعمول به في واقع الناس.
ب – أن يكون الحكم المخالف للشرع استثناءً في حوادث عينية لا في الأمور العامة، ولا يُفرض على الناس بوصفه قانونًا عامًّا مُلزمًا، بل يكون بهوى من الحاكم في قضية معينة لمصلحة شخصية، أو قرابة مثلا من المحكوم له بالباطل، والحاكم بذلك على خطر عظيم وقد ارتكب معصية كبرى، وإن لم تبلغ به حد الكفر.
جـ – ألا يعتقد القاضي أوالحاكم حل ما فعله، فإن اعتقد حل ذلك كفر بالإجماع.
وهذا هو مراد ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: «كفر دون كفر»؛ إذ قاله في معرض مناظرته للخوارج الذين يكفرون بالمعصية، ويريدون موافقة العلماء لهم في تكفير أمراء الجور الذين كانوا يحكمون في بعض الأقضية بما يخالف الشريعة اتباعًا للهوى أو جهلًا بالحكم، فيبرروا لهم بتلك الموافقة خروجهم عليهم بالسيف. ويدل أيضًا على أن هذا هو مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن صورة تبديل الشرع على وجه العموم لم تكن موجودة أصلًا زمن ابن عباس، ولم يكن يخطر ذلك على بال أحد، ولا يظن أحد مجرد ظن أنه يجوز له أن يحكم المسلمين بغير شرع الله، ولا أن يَسُنَّ قانونًا مخالفًا للكتاب والسنة ثم يُلزِم الناسَ بالاحتكام إليه، وإنما ظهر ذلك في عهد التتار حين ألَّف جنكيز خان كتاب «الياسا» وجعله مرجع الحكم بين الناس، وقد خلط فيه بين تشريعات للمسلمين وأخرى لديانات أهل الكتاب وغيرهم، وبعض الأعراف والتقاليد السائدة، وما ارتآه هو من قوانين وتشريعات. وقد أفتى شيخ الإسلام بكفره وأتباعه المناصرين له كفرًا مخرجًا من الملة، واستحل قتالهم.
المصدر:كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة – إعداد نخبة من طلبة العلم