إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الصراع بين الحقّ والباطل خاضع للسنن الإلهيّة المطّردة، وهي نافذة في خلقه، متحقّقة الوقوع، صارمة الحدوث، ثابتة لا تتبدّل، ولا تتخلّف، ولا تحابي أحدًا…

سنة توهين كيد الكافرين، وإضعاف تدبيرهم وتقديرهم 

ومعرفة السنن الحاكمة للاجتماع البشريّ يحيي الأمل وينفي العلل، ويحارب الكسل، ويدعو للعمل، ومن السنن الملهمة في هذا الصراع الدامي على أرض غزّة البطولة ما أكّدت عليه سورة الأنفال من توهين كيد الكافرين، (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 18] (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين) [الأنفال: 19]، فكيد اليهود مهما بلغ قوّته، وإحكام خططه، وخطورة وسائله، وقوّته الناريّة، وفتكه بالإنسان، فإنّ سنّة الله الثابتة ستضعف شوكته، وتفلّ عزيمته، وتوهن قوّته، وتكسر شكيمته، وتبطل خطّته، وتحلّ عقدته، فإنّ ما يعتمد عليه العدوّ إنّما هو الأسباب المادّيّة والقوّة العسكريّة، وحبل الناس من قوى الشرّ في العالم، ودعمهم غير المحدود للعدوان، ومع ذلك لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم، وحسم المعركة لصالحهم؛ لأنّ سنّة الله قضت بتوهين كيدهم، وإبطال تدبيرهم؛ وتعطيل تأثيره: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 18].

توهين كيد العدوّ أهمّ ضمانات النصر ومعالم التأييد

ومُوهِنُ-اسم الفاعل من أوهن يوهن، وفي قراءة أخرى (موهِّنٌ) اسم فاعل من (وهَّن) أي ضعّف، ووهَّن وأوهن بمعنى واحد، وقراءة التشديد تفيد التكرير والمبالغة فهو توهين بعد توهين، فهي سنّة إلهيّة ثابتة ومطّردة مع عباده المؤمنين في كلّ معركة يلتقي فيها الحقّ والباطل، ما دام أهل الحقّ قد أخذوا بالأسباب، وأعدّوا ما استطاعوا من القوى المادّيّة الممكنة، والقوّة المعنويّة الصلبة، فإنّ توهين كيد العدوّ يغدو أحد أهمّ ضمانات النصر ومعالم التأييد، ويحسم نتيجة المواجهة مع العدوّ لصالح المؤمنين1(1) ابن تيميّة، أحمد بن عبد الحليم- مجموع الفتاوى،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبويّة، 1995م، 28/57..

من مظاهر توهين كيد الكافرين 

1- إلقاء الرعب في قلوب الأعداء، قال سبحانه: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12].

2- معيّة الله مع المؤمنين، قال تعالى: (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين) [الأنفال: 19].

3- الجبن والخور الكامن في قلوبهم، المغروس في أفئدتهم فلا يستطيعون القتال إلّا في القرى المحصّنة أو الدبّابات قال تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) [الحشر:14].

4- ولاية الله لعباده المؤمنين وتأييده لهم، فهو يتولّى الصالحين، ويخذل من يناوئهم من الكافرين، (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال: 40].

5- أنّ الكفّار أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين وقوّة الله معهم: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ) [الأنفال: 59].

كيد الله بالكافرين قويّ متين

فالوهن الكامن في قلوب الأعداء، والضعف المخبوء في صفوفهم؛ لأنّهم أحرص الناس على حياة، ومعيّة الله وولايته لنا، ستجعل كيدهم في نحرهم، وتكون نتيجة الوهن تهيئتهم للهزيمة على أيدينا، وإفشال مخطّطاتهم، ودحر قوّاتهم، وانحصار مشروعهم، ومن كان له بصر بتاريخ الأمم، وسنن الله، لم تخدعه ظواهر القوّة، ولم يأسره مشهد الباطل المنتفش؛ فالكيد الإلهيّ بالكافرين قويّ متين، يمهل ولا يهمل، قد يطول الأمد، ويضعف السند، لكنّه حتمًا يأتي من مأمن، ويصيب في مقتل، ويهدم أركانهم، ويقوّض بنيانهم حتّى يتهاوى السقف على أهله، كما قال تعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:27].

ثمرات الإيمان بهذه السُنة الإلهية

والواجب علينا أمام هذا الكيد إيقاظ جذوة الإيمان في القلوب، وتجديد الثقة بربّنا، والاطمئنان إلى وعده، والاستمساك بحبله المتين، والاعتصام بالكتاب والسّنّة، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: “ومن سنّة الله: أنّه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحقّ الحقّ بكلماته، ويقذف بالحقّ على الباطل؛ فيدمغه؛ فإذا هو زاهق”2(2) الطبري- تفسير الطبري، 11/173، ابن كثير – تفسير القرآن العظيم، 4/48.. وهكذا ينقلب كيدهم نقيض ما أرادوا وخطّطوا ودبّروا وموّهوا، كما حكى الله عاقبة كيد قوم إبراهيم عليه السلام به، فقال: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات: 98]

فلتطمئنّ الفئة المؤمنة الصامدة في أرض الرباط بأنّ الله لن يتركهم وحدهم، وأنّ الله معهم، وأنّهم هم المنصورون، وأنّ جندنا هم الغالبون الذين يحقّقون سنّته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، ويرفعون رايته وينطلقون باسمه، ويجاهدون لحماية دينه، وصيانة شعائره، وإزالة رجس اليهود وكفرهم من الأرض المقدّسة، ولن يفلت الخونة من عقابه.

الهوامش

(1) ابن تيميّة، أحمد بن عبد الحليم- مجموع الفتاوى،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبويّة، 1995م، 28/57.

(2) الطبري- تفسير الطبري، 11/173، ابن كثير – تفسير القرآن العظيم، 4/48.

المصدر

موقع هيئة علماء فلسطين، “معركة طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهيّة”، د. مجدي قويدر.

اقرأ أيضا

السنن الإلهية في معركة طوفان الأقصى

غزة الصابرة والسنن الإلهية

من خصائص السُّنن ..في المِنَن والمِحَن

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (١)

التعليقات غير متاحة