كثر استعمال المال للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من نيل حريتهم والحصول على حقوقهم ورفع المظالم عنهم، وللحيلولة دون أن يعيشوا حياة كريمة.. سقط الكثير من الضحايا ووُئدت الكثير من التطلعات، وسُر العدو وامتطى صهوة مظالمه لينال جولات لم يحلم بها من قبل..
وهذا المقال للشيخ الصادق الغرياني، مفتي عام ليبيا، يوضح أحد معالجات القرآن العظيم لهذه الظاهرة..
رَأَى نبي الله موسَى ما عملَه فرعونُ بالمالِ الفاسدِ، في الصدِّ عن سبيلِ الله، وإفسادِ الرعية، والمكرِ بعبادِ الله، فتوجَّهَ إلى ربِّه بثلاثةِ نداءاتٍ.
نداءات ثلاث
النداء الأول:
إبراز النعمة
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. (يونس:88)
أعطيتَه وملأه زينة ظاهرة وأموالًا طائلة، أعطيته من الزينة كلَّ ما يعجب الناظر، مِن الملك العريض والسلطان الكبير، والقصور والكنوز والجنود والخدم والحشم، حتى قال متكبرًا متمردًا: أَلَيسَ لي مُلكُ مصرَ؟!
كفرَ فرعونُ بإحسانِ الله إليه، وأعلنَ عداءَه للدينِ الذي جاءَ به موسَى عليه السلام، واستخدم أموالَهُ ـ كما هي عادةُ الحكامِ الظلمةِ والملوك ـ في استعبادِ الناسِ، وملاحقةِ الدعاةِ إلى اللهِ والمصطفين من الأنبياء والمصلحينَ، وفي شراءِ ولاءاتِ أهلِ السوءِ والنفاقِ، وضعافِ الإيمانِ من الرعيةِ؛ لإخضاعِ العامةِ، وتثبيتِ أركانِ الحكمِ.
فَسامَ بني إسرائيلَ سوءَ العذابِ ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:4).
وهذا ما جعل موسى عليه السلام ينادي ربه.. النداء الثاني:
مقابلتها بالذنب والإضلال
﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾. (يونس:88)
ربنا تعلمُ أنّ ما أعطيتَ فرعونَ وملأهُ مِن الزينة والأموالِ، لم يستعملوهُ في طاعتك، ونصرةِ دينك، والولاءِ للمؤمنين، وإنما استعملوهُ في الكفرانِ والنكرانِ، والعداءِ للمؤمنينِ، ربّنا إنكَ أعطيتَهم الأموالَ لإصلاحِ حالِهم، وإصلاح رعيتِهِم، لكن ما آلَ إليه أمرُهم أنَّ المالَ أغواهَم وأغراهم، أَضلَّهم في أنفسِهم بالترفِ والمجونِ والعصيانِ والفسوقِ، وأضلُّوا به غيرَهم، فحارَبوا الدينَ وأفسَدُوا الرعيةَ، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾.(الزخرف:54)
ربَّنا ومَن كانَ كذلكَ في العداءِ للفطرةِ، وتمكُّنِ الشرِّ منهُ، فإنكَ تعلمُ أنّه لن ينصلحَ بالإحسانِ، وإمدادِهِ بالكنوزِ والأموالِ، بل لا يردَعُه إلّا العقابُ، وطمسُ الأموالِ.
فمَن لم تصلحْهُ النعمةُ، تردُّه إلى صوابِهِ النقمةُ.
فكانَ النداءُ الثالثُ:
محق المال وزوال النعمة
﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ واشدد على قلوبهم فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾. (يونس:88)
امحقْ أموالَهم، خذْهَا وانزعْها مِن أيدِيهم، وخلِّهَا صِفرًا خاليةً، فإنّها أفسدتْهُم، وصرَفوها في الحرامِ، واستعملُوها في الصدِّ عن سبيلكَ، وملاحقةِ الصالحينَ والمُصلحينَ وأهلِ الدين.
اشدد على قلوبهم، عسِّر عليهم أمرَهم، اجعلْ قلوبَهم في كربٍ وغمٍ وشدةٍ، فلعلّهم إذا اجتمعَ عليهم ضيقُ القلوبِ وطمسُ الأموالِ والحرمان، يرجعونَ إلى رشدِهِم ويتوبونَ.
فإنّ عادةَ الإنسانِ إذا مسّه الضرّ، دَعا ربّه منيبًا إليهِ ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾.(الزمر:8)
هذا ما دعا به موسَى، وأمَّنَ عليه هارونُ عليهما السلام، على فرعون الأمسِ ومَلئِهِ؛ لأنّه ظَلَمَ الرعيةَ، وبَغَى في الأرضِ الفسادَ، واستخدمَ المالَ الفاسدَ في ملاحقةِ الصالحينَ مِن بني إسرائيلَ.
فماذا عساهُ يقولُ نبيُّ اللهِ، لو رأَى ما يفعلُهُ المالُ الفاسدُ في أيدِي فراعنةِ العصرِ.
أعطاهمُ اللهُ أضعافَ ما أعطَى فرعون الأمسِ!
البروج المشيدة، والقصور المُنيفة، تحتَ البحرِ وفوقَ الأرضِ، وفي عواصمِ العالمِ ومُنتجعاتِهِ أينَما توَجّهت، مراكبُ فارهةٌ في البرِّ والبحرِ والجوِّ، طائرات كالقصورِ، وسفنٌ كالمدنِ (يخوتٌ) الواحدُ منها بمئاتِ الملايينَ.
[للمزيد: ألهاكم التكاثر .. (1-4) الأموال والأولاد والرياسات]
آثار المال الفاسد في أيامنا المعاصرة
مالُ الحكامِ الفاسدُ في أيامنا، تضاعفَتْ وجوهُ إفسادِهِ على مالِ فرعونَ أضعافًا كثيرةً.
لا ينفقونَه في النهضةِ والعمرانِ، وتطويرِ مشاريعِ التنميةِ الحقيقيةِ والبحثِ العِلمي، والصناعةِ والإدارةِ والتجارةِ.
ولا في تنميةِ المواهبِ وتحفيزِ القدراتِ، واستقطابِ الخبراءِ وتكريمِ العلماءِ، ودعمِ مشاريعِهم، بل على المؤسساتِ المخابراتية القمعيةِ، لتُخيّر عديد النفس منهم بينَ أمرين لا ثالث لهما؛ السجونِ أو الفرار.
لا ينفقونه على العاطلينَ والمحرومينَ في بلدانِهم.
ولا على فقراءِ المسلمينَ في أفريقيا، الذين تشتريهم الجمعياتُ التنصيرية بالمالِ، فيتنَصَّرُونَ.
ولا على المضطّهدينَ الروهينجَا، الذينَ يواجهونَ تطهيرًا عرقيًّا، ويُهجَّرونَ مِن وطنِهم في ميانَمار
بل على شهواتِهم وأهوائِهم، والتآمُرِ على المسلمينَ.
لا ينفقونَه على المحاصرينَ المجاهدِينَ في غزة، والقدسِ وفلسطين، بل يتعاونونَ مع الصهاينةِ على حصارِهم، ووضعِ المجاهدينَ مِن فصائِلِهم في قوائمِ الإرهابِ، فخانُوا القضيةَ، ووَالوا العدوَّ وناصروهُ على المسلمينَ ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.(المائدة:51)
لا ينفقونَ أموالَهم على هذا ونحوهِ، ممَّا أوجبَه اللهُ عليهمْ، بل يضعونَ أموالًا كالجبالِ في أرصدةِ أعدائِهم بسخاءٍ، تودُّدًا إليهم، لشراءِ سلاحِ، تزدهرُ به مصانعُهم، وترتفع به أسهم موازين تجارتهم.
[للمزيد: اشتر دينك طول عمرك، لا تبعه]
معاناة الأمة من آثار المال الفاسد
سلاحٌ يشترونَه لا لقتالِ عدوِّهم، الذي يغتصبُ منهم بيتَ المقدسِ، قبلتهم الأولَى، بلْ ليُقتلَ به الليبيونَ واليمنيون، ولتقمعَ به الثورات في البلادِ العربيةِ، وتقمعَ به شعوبهم عند الحاجةِ، كما فعلَ القذافي، ويفعلُ حاكمُ سوريا الآن بشعبهِ، قتلَ منهُم أكثرَ مِن مليون، ولا يزالُ محتفظًا بالكرسِيّ.
السلاحُ الذي يُشترَى بالمالِ الإماراتي، هو الذي قتلَ به حفتر أكثرَ مِن «15» ألفًا في بنغازي، وتركَ أكثرَ مِن «عشرينَ ألف معاقٍ»، وهَجَّرَ أزيدَ مِن «مائةِ ألفٍ» مِن أهلِها، بعدَ أنْ دمَّرها.
المال الفاسد هو الذي تُجيش به المرتزقة الأفارقة هذه الأيام لاحتلال الجنوب، وتُحاك به مؤامرة قذرة قد تنتهي بتدميره، أو تقسيم ليبيا إن لم يُتدارك الأمر.
المالُ السعوديُّ والإماراتيُّ الفاسدُ، هو الذي موَّلَ الانقلابَ على الشرعيةِ في مصرَ، ومَكَّن فيها للظلمِ والقهرِ، وزادَ المصريينَ فقرًا على بؤْسِهِم وفقرِهِم، وأمَّنَ ديارَ العدوِّ وذادَ عنها، فنامَ العدو قريرَ العينِ.
المالُ الإماراتي والسعوديُّ، هو الذي يُقتلُ به اليمنيونَ، في حربٍ ضروسٍ، على مدى ثلاثِ سنوات، ومَن لم تقتلْهُ قنابلُهم، تفتكُ بهِ الأمراضُ والأوبئةُ المنتشرةُ، والمجاعاتُ والحصارُ القاتلُ.
وأخيرًا؛ إنّها أوامرُ العدوِّ الصادرة إليهم بالمواجهةِ غيرِ المعلَنَةِ، والتضييقِ الشديدِ على كلِّ مَن يُعادِي المشروع الصهيوني، أو يتعاطفُ مع قضيةِ فلسطينَ، أو لا يرضَى مع العدوِّ بالتطبيعِ.
وهي الأوامر نفسها بتمويلِ الدسائِسِ ومشاريعِ الفسادِ، التي تُحاكُ في بقاعِ الأرض، فأينَما اكتشفتْ وجدتَ وراءها المالَ الإماراتي الفاسدَ، دسائس لا تعملُ إلّا على تفريقِ الأمةِ، وخدمةِ المحتل، فسلبَ العدوُّ منهم القرارَ، بعدَ أنْ سلبَ الأموالَ.
فيا شقاء حاكم سعد به العدو وشقي به الصديق، وبلغت به المذلة والهوان أن سُلِب منه المال والقرار.
هذا بعض ما ظهر، وما خفي أعظم.
وقدْ رضيَ اللهُ في عُلاه دعاء موسى وهارونَ، واستجابَ لهما، فقال: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾. (يونس:89)
والحمد لله رب العالمين..
………………………………….
المصدر:
- موقع دار الإفتاء الليبية.
اقرأ أيضا: