إن أكثر الناس يتحسر على وضع المسلمين، ويتمنى أن لو عادت دولة المسلمين قوية مكينة.. إن الإنفاق معيار واختبار يعرف به المرء في نفسه هل هو صادق في حسرته هذه، وهو مخلص في تمنيه.. أم أنها أقوال عابرة وأحلام بعيدة، بينما حقيقة حاله في واد آخر؟!!
الدعوة إلى إنفاق الأموال في سبيل الله
كنت لاحظتُ أن عددا من سور القرآن الكريم تُختم بخاتمة واحدة، وهي: الدعوة إلى إنفاق الأموال في سبيل الله..
(1) وبدأ الأمر من قراءة في سورة المنافقون..
في هذه السورة حديث عن المنافقين وطباعهم وسمتهم وكلامهم، وفي انتقالة مفاجئة تبدو بلا سبب، يقول ربنا تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأَصَّدق وأكن من الصالحين* ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، والله خبير بما تعملون}.
فكأنه توجيه صريح من ربنا تبارك وتعالى لعباده المؤمنين: إن النجاة من النفاق تكون بإنفاق الأموال في سبيل الله!!
وهو الأمر الذي يشدُّ الخاطر إلى سورة التوبة، وهي السورة التي سُمِّيت بالفاضحة لأنها فضحت المنافقين وأظهرت ما في قلوبهم.. فهناك نجد آية أخرى صريحة في أن الإمساك والبخل يؤدي إلى ظهور النفاق في القلب..
وذلك قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من المحسنين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}
(2) فإذا انتهت سورة المنافقون، جاء بعدها سورة التغابن..
والتغابن كلمة أصلها هو الغَبْن، ومعناها: النقص أو الخسارة.. فيقال: غَبَنَه بمعنى: أنقصه أو أخسره.. وهي تستعمل عادة في التجارة والصفقات..
فيوم القيامة هو يوم التغابن، بمعنى أنه يوم النتيجة الكبرى للصفقة العظمى، صفقة الحياة كلها.. فذلك هو السوق الأكبر، السوق الأخطر، السوق الأعظم.. فالفائز فيه هو الفائز، والخاسر فيه هو الخاسر!!
وتستعرض السورة أحوال الناس، {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، وكيف {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا}، ثم مصير المؤمنين والكافرين.. ثم تختم السورة بهذه الآيات:
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجر عظيم * فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم * عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}
فها هنا أيضا، كان التوجيه الإلهي لعباده المؤمنين، للنجاة من يوم القيامة، يوم الخسران العظيم، أن ينفقوا في الدنيا.. وأن يعرفوا أن المال فتنة.. وأن يتخلصوا من شح أنفسهم..
وفي معنى لطيف للغاية، سمَّى الله هذا الإنفاق: إقراضا لله.. وهذا معنى ضخم ولفظ هائل، والتأمل فيه يبث في النفس روعة ورهبة وهولا، فكيف يقرض العبد ربه، وكيف أن الله يتودد إلى العبد بلفظ الإقراض، وبوعد أنه سيضاعف له هذا المال، وفوقها سيغفر الذنوب، وإن الله يُذَكِّر العبد بأنه “شكور حليم” وبأنه “عالم الغيب والشهادة”!!
وإن وصف المعنى لأمر يخرج عن حدّ القدرة، ولكن الذي يعيش مع السورة ويعايش أهوال القيامة ومصائرها، فيعيش الخوف والرعب، ما يلبث أن يخضع ويخر ساجدا أمام آية بهذا اللطف والود والرقة.. آية تطلب من العبد أن يقرض ربه، ليضاعف ذلك له في يوم القيامة، وأن الله شكور حليم!!
ويحسن أن تتأمل في الآيات منفردا وتملأ نفسك وصدرك من معانيها، فما فيها فوق ما في طاقة الكاتب أن يشرح ويصف!!
(3) يلاحظ ذلك أيضا في سورة محمد.. وهي السورة التي تعرف أيضا بسورة القتال..
وهذه سورة تكاد تكون نصفيْن: نصف عن الكفار، ونصف عن المنافقين..
فنصفها الأول حديث عن الكفار وتكذيبهم ومصيرهم في مقابلة المؤمنين، والنصف الثاني عن الذين يتثاقلون عن قتال هؤلاء الكفار، أولئك هم الذين في قلوبهم مرض، والذين لا يتدبرون القرآن كأنما على قلوبهم أقفال، ولا يصبرون للمحن وتكاليف الجهاد.
فهي سورة القتال؛ نصفها عن المقاتِلين، ونصفها عن المُقاتَلين..
وبينما المرء يتابع حال الصنفيْن، تأتي خواتيم السورة لتحكي قصة الإنفاق، ولكنها حكاية فيها لومٌ وعتاب.. وفيها تهديد كذلك.. فكأنما هذه إشارة لأصل الأمراض التي تنبت الجحود والنفاق والتثاقل عن أمر الله..
تأمل معي:
{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيُحْفِكُم تبخلوا، ويُخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}
فنفهم من هذا أن شأن الإيمان والقتال في سبيله لا يجتمع مع البُخل والحرص والشح!.. بل البخل والحرص والشح دليلٌ على التعلق بالدنيا والتشبث بها، وهو تعلق وتشبث ينقص من الإيمان بالآخرة وما فيها!!
والمؤمن بالآخرة حقا لا يستطيع أن يكون بخيلا، فإن التاجر الموقن بصفقة مؤجلة ينفق لأجلها ما في يده الآن ترقبا لها..
ومن بديع التشبيه في هذا الباب ما قاله حجة الإسلام الغزالي: “لا يعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ، فهكذا مثال الدنيا والآخرة؛ فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض، والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له.. فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة”.
(4) كذلك وجدت حديث الإنفاق في خواتيم سورة الليل..
وسورة الليل بدأت بأن الناس أشتات متفرقون في السعي والغاية والأغراض {إن سعيكم لشتَّى}، ولكن هذا السعي الشتيت لا يلبث أن يجتمع في صنفيْن لا ثالث لهما {من أعطى واتقى} و{من بخل واستغنى}!!
وهي قِسْمةٌ جاذبة للنظر بقوة.. عطاءٌ وبخلٌ!
ويزيد في جذب النظر لمسألة الإنفاق أن ربنا تبارك وتعالى لما ذكر الجزاء، قال عن الذي أعطى {فسنيسره لليسرى} وسكت!!.. ولكنه قال عن الذي بخل {فسنيسره للعسرى} ثم أضاف {وما يُغني عنه ماله إذا تردّى}!!!
هذه الآية التي تؤكد مصير المال في الآخرة هي آية كاشفة زائدة، لم يرد مثلها في جزاء الذي أعطى واتقى!!..
وتختم السورة بالنذير: {فأنذرتكم نارًا تلظَّى} وأن الذي سينجو منها هو الذي يعطي.. يعطي لتتطهر نفسه وتزكو، يعطي بغير سابق جميل عليه، بل يعطي متفضلا، يعطي لوجه الله
{وسيحنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحدٍ عنده من نِعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}
وهذا يبشره الله بالبشرى العظمى {ولسوف يرضى}
(5) ثم كان أشد ما وجدته في هذا الباب ومن أكثره تأملا وتفصيلا.. خواتيم سورة البقرة..
نعم، تلك السورة الحاشدة الطويلة الحافلة بالأحكام والتفاصيل.. قد جاء في آخرها ربعان.. خمس صفحات لا حديث فيها إلا عن الصدقة والإنفاق!!
وذلك بداية من قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم}
وسورة البقرة هي السورة التي رافقت حياة المسلمين في المدينة المنورة، وظلت تتنزل منذ أول تأسيس الدولة وحتى نهاية حياة النبي صلى الله عليه وسلم!
وموضوع سورة البقرة: انتقال خلافة الله في الأرض من بني إسرائيل إلى أمة الإسلام، لذلك كان نصف السورة تقريبا يتحدث عن بني إسرائيل وتركهم الأمانة وخيانتهم للتوراة وقتلهم الأنبياء وجحدهم آيات الله.. وخُتِم هذا النصف بحادثة تحويل القبلة التي هي إعلان انتهاء زمان بني إسرائيل وبداية عصر الإسلام ورجوع القبلة إلى بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم..
ثم كان نصفها الثاني حافلا بالأحكام العامة في حياة المسلمين: الزكاة والصيام والحج والقتال والطلاق والخلع والربا والديْن!
وقد سمَّاها الله بالبقرة، لكون حادثة البقرة دليلا مركزيا يجمع موضوع السورة كلها.. فهي دليل على حال بني إسرائيل، وتوجيه لأمة المسلمين ألا يكونوا مثلهم إذا جاءتهم تعاليم الله وأوامره!
سورة بهذا الموضوع الضخم الحافل قد خُتِمت أيضا بالإنفاق!!
كأن الإنفاق هو شرط من شروط الاستخلاف في الأرض، وشرط لحمل الأمانة، فمن لم يكن منفقا لم يكن من أهل هذا الشرف.. شرف خلافة الله في الأرض وإقامة دولة الإسلام!
وهذا المعنى نجده منثورا في آيات أخرى عديدة.. فما من أمة نهضت إلا وكان الإنفاق من شروط نهضتها وانتصارها وعزتها..
حتى الكفار، لا يستطيعون أن يصدوا عن سبيل الله إلا إذا ضحوا، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله}.
وقد اجتمع المهاجرون والأنصار، هؤلاء الذين أقاموا دولة الإسلام، في شأن الإنفاق والتضحية.. فالمهاجرون {أخرجوا من ديارهم وأموالهم} والأنصار {يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}
إن خمس صفحات تتحدث عن الإنفاق في نهاية السورة التي أرادت إقامة دولة الإسلام بعد أن نزعت هذا الشرف واللواء من بني إسرائيل.. أمرٌ كبير ينبغي أن ينبهنا إلى أن الإنفاق أمرٌ مركزي في حياة الأمة وفي نهضة دولتها!
إن أكثر الناس يتحسر على وضع المسلمين، ويتمنى أن لو عادت دولة المسلمين قوية مكينة.. إن الإنفاق معيار واختبار يعرف به المرء في نفسه هل هو صادق في حسرته هذه، وهو مخلص في تمنيه.. أم أنها أقوال عابرة وأحلام بعيدة، بينما حقيقة حاله في واد آخر؟!!
(6) بقي أمر، لعلي أفرده في مقال آخر.. فقد طال هذا جدا..
لقد وجدت شأن الإنفاق متداخلا بقوة في عموم سورتين، لا يكاد ينفك عن ثناياهما كلها، وهما: الحديد والتوبة.. ولهذا شأنٌ وتعلق بما تكلمنا فيه هنا.. ولعل الله ييسر أن نفرده في مقام آخر إن شاء الله..
المصدر
صفحة محمد إلهامي على منصة X.