دعائم المجتمع الجديد

الأمة الإسلامية ليست مجرد جماعة تسعى للعيش واللذة، بل أمة تحمل عقيدة تُحدد غايتها في الحياة: إرضاء الله، وتحقيق حكمة الوجود، والتمسك بالحق والعدل.

ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همّها أن تعيش بأيّ أسلوب، أو تخطّ طريقها في الحياة إلى أيّ وجهة، وما دامت تجد القوت واللذة فقد أراحت واستراحت.

كلا كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدّد صلتهم بالله، وتوضّح نظرتهم إلى الحياة، وتنظّم شؤونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة.

وفرق بين امرئ يقول لك: همّي في الدنيا أن أحيا فحسب! وآخر يقول لك: إذا لم أحرس الشّرف، وأصن الحقوق، وأرض لله، وأغضب من أجله، فلا سعت بي قدم، ولا طرفت لي عين…

والمهاجرون إلى المدينة لم يتحوّلوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء.

والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، وأهدفوا أعناقهم للقاصي والداني، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق …

إنّهم- جميعا- يريدون أن يستضيئوا بالوحي، وأن يحصلوا على رضوان الله، وأن يحقّقوا الحكمة العليا التي من أجلها خلق الناس، وقامت الحياة …

وهل الإنسان إذا جحد ربّه، واتبع هواه، إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم؟!.

دعائم المجتمع الإسلامي

ومن هنا شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم- أوّل مستقره- بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بدّ منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشؤون الآتية:

1- صلة الأمّة بالله.

2- صلة الأمّة بعضها بالبعض الاخر.

3- صلة الأمّة بالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها.

أولا: المسجد

ففي الأمر الأول- وهو صلة الأمة بالله- بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام، التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات، التي تربط المرء بربّ العالمين، وتنقّي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا.

والمرويّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، في مربد لغلامين يكفلهما أسعد بن زرارة، وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتّخذ مصلّى كهذه المصليات التي تنتشر في ريفنا؛ كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفي في ترابه بعض قبور للمشركين.

فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالخرب فسوّيت، وصفّوا النخل قبلة للمسجد – والقبلة يومئذ بيت المقدس – وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مئة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريبا، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم.

وكانوا يروّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنّقل والبناء.. بهذا الغناء:

اللهمّ لا عيش إلا عيش الآخره … فاغفر للأنصار والمهاجره!!

وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبيّ عليه الصلاة والسلام يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميّز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:

لئن قعدنا والرّسول يعمل … لذاك منّا العمل المضلّل!!

وتمّ المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح.

هذا البناء المتواضع ، هو الذي ربّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيّ يؤمّ بالقرأن خيرة من آمن به، أن يتعهّدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.

إنّ مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي؛ فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكنّ الناس- لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاما!!.

أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام.

والمسجد الذي وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم همته إلى بنائه قبل أي عمل أخر بالمدينة، ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيّد في عبادته بمكان.

إنّما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبّث به أشدّ تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلا يتجدّد مع الزمن، ويتكرّر أناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الاخر، وتخلط المعروف بالمنكر!.

والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكّر أبدا بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغّض في المنكر، وتقف على حدود الله.

ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد صلى الله عليه وسلم يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهّده للصلاة؛ فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكا يغمز؟!.

ثانيا: الأخوة

أمّا عن الأمر الثاني- وهو صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر- فقد أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل؛ الإخاء الذي تمحى فيه كلمة «أنا» ، ويتحرّك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وأمالها، فلا يرى لنفسه كيانا دونها، ولا امتدادا إلا فيها.

ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية؛ فلا حمية إلا للإسلام.

وأن تسقط فوارق النّسب واللون والوطن، فلا يتأخّر أحد أو يتقدّم إلا بمروءته وتقواه.

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا؛ لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال؛ لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثر.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.

حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجريّ على أنصاري إلا بقرعة!! وقدّر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلّوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجّهون إلى العمل الحر الشريف.

روى البخاريّ: أنهم لما قدموا المدينة، اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إنّي أكثر الأنصار مالا؛ فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟.

فدلّوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!!.

ثم تابع الغدوّ.. ثم جاء يوما وبه أثر صفرة1(1) زينة.، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟»2(2) سؤال عن حاله. قال: تزوجت، قال: «كم سقت إليها؟» ، قال: نواة من ذهب!.

وإعجاب المرء بسماحة (سعد) لا يعدله إلا إعجابه بنبل (عبد الرحمن) ، هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم، وبزّهم في ميدانهم، واستطاع- بعد أيام- أن يكسب ما يعف به نفسه، ويحصن به فرجه!! إنّ علو الهمة من خلائق الإيمان؛ وقبّح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به، حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة؛ لم يتميّز عنهم بلقب إعظام خاصّ، وفي الحديث: «لو كنت متّخذا من أمّتي خليلا لاتخذته يعني: أبا بكر- خليلا، ولكنّ أخوّة الإسلام أفضل»3(3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 14، من حديث ابن عباس بهذا اللفظ..

والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والغشّ والجبن والبخل والجشع لا يمكن أن يصحّ إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجّلت لهم الدنيا هذا التأخي الوثيق في ذات الله.

فسموّ الغاية التي التقوا عليها، وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نمّيا فيهم خلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكانا لنجوم خلة رديئة.

ذلك، ثم إنّ محمدا عليه الصلاة والسلام كان إنسانا تجمّع فيه ما تفرّق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمّة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه، وداروا في فلكه رجالا يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء.

إنّ الحبّ كالنبع الدافق يسيل واحده، ولا يتكلّف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوّة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنّما هي أثر من تخلّص الناس من نوازع الأثرة والشح والضّعة.

وقد تبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين؛ لأنّهم ارتقوا- بالإسلام- في نواحي حياتهم كلّها، فكانوا عباد الله إخوانا، ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!!.

على أنّ تنويهنا بقيمة التسامي النفساني في تأسيس الإخاء، لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاما يؤخذون بحقوقه أخذا، فإذا لم يؤدّوها طوعا أدّوها كرها، وذلك كما يجبرون على العلم، والجندية، وأداء الضرائب وغير ذلك.

وقد ظلّت عقود الإخاء مقدّمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة (بدر) ، حتى نزل قوله تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75] .

فألغي التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم.

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ …) [النساء: 33] .

قال: كان المهاجرون- لما قدموا المدينة- يرث المهاجريّ الأنصاريّ دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهم، فلمّا نزلت: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ …) ، نسخت ذلك، ثم قال: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له.

ثالثا: غير المسلمين

أما الأمر الثالث- وهو صلة الأمّة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها- فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام قد سنّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز، التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصّب والتغالي، والذي يظنّ أنّ الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأنّ المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلّط هو رجل مخطئ بل متحامل جريء!.

عندما جاء النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وجد بها يهودا توطّنوا، ومشركين مستقرين.

فلم يتّجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل- عن طيب خاطر- وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهداهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه.

ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة، التي أبرمها مع اليهود دليلا على اتجاه الإسلام في هذا الشأن.

جاء في هذه المعاهدة: «أنّ المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة.

وأنّ المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم4(4) دسيعة ظلم: محض ظلم.، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم!!.

وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن …

وأنه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنّه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.

لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.

وأنّ ليهود بني النجار والحارث وساعدة وبني جشم وبني الأوس … إلخ، مثل ما ليهود بني عوف.

وأنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبر، دون الإثم.

وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم، وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا أثم.

وأنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره …

وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.

وأنّ من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة امن، إلا من ظلم وأثم..

وأنّ الله جار لمن بر واتقى..»5(5) روى هذه الوثيقة ابن إسحاق: 2/ 16- 18، بدون إسناد..

وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة؛ لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم.

وقد نصّت بوضوح على أنّ حرية الدين مكفولة.

فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف؛ بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصّة والعامّة، واستنزل تأييد الله على أبر ما فيها وأنقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش.

واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها.

ويلاحظ أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين ومشركي مكة، وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم، وحرّم إسداء أي عون لهم، وهل ينتظر إلا هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دما لبغي قريش وأحلافها عليهم؟.

أكان اليهود صادقين في موافقتهم على هذا العهد؟.

أغلب الظنّ أنهم لم يكونوا جادّين حين ارتضوه وقبلوا إنفاذه.

وأفة العهود أن يرتبط الوفاء بها بمدى المنفعة المرجوّة منها، فإذا بدا أن المعاهدة المبرمة لا تحقّق المطامع المبتغاة، قلّ التمسك بها، والتمست الفرص للتحلل منها.

وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرّق العرب، قبائل متناحرة، فلمّا دخل العرب في الإسلام، وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى، وتتابعت الأيام تؤكّد أنّ الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة.. استشعر اليهود القلق، وساورتهم الهموم، وشرعوا يفكّرون في الكيد لهذا الدين، والتربص بأتباعه.

ثم إنّ اليهود في المدينة يكوّنون البيئة التي تتوافر فيها سمات التدين المصنوع، والاحتراف السمج بمبادئ السماء، وأبرز خلال هذه البيئات الحقد، والنفاق، والتمسّك بالقشور والولع بالجدل، ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجّة.

وربما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء كالكرم والشجاعة، بيد أنّ انطواءهم العنصريّ غلب على سيرتهم، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوهة.

وكان المتوقع أن يرحّب اليهود بالإسلام، فإذا لم يرحّبوا به فليكونوا أبطأ من الوثنيين في مخاصمته، فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى توحيد الله، وإصلاح العمل،

والاستعداد لحياة أرقى في الدار الآخرة، والدين الذي جاء به وقّر موسى وأعلى شأنه، ونوّه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفّذوا أحكامه، ويلزموا حدوده.

لكنّ اليهود صمتوا- أولا- صمت المستريب، ثم بدا لهم فقرّروا المعالنة بالجحود.

وهذا الترحيب المتوقّع تلمح دلائله في كثير من الآيات، فإنّ عبدة الأصنام إذا أنكروا النبوة فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد:43] .

وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكّرهم به: (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [القصص:51-52] .

غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين!.

فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولدا، بشرا أو حجرا، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟!.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا..) [المائدة: 64] .

(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181] .

على أنّ الإسلام يدع أولئك الجحدة في ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفي بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجوّ بآياته ومعالمه.

فمن استراح إليها فدخل فيها؛ فبها ونعمت، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبه الإسلام بشيء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير.

ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمدّ يده إلى اليهود مصافحا، وتحمّل الأذى مسامحا، حتى إذا رأهم مجمعين على التنكيل به، ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينه وبينهم من الوقائع الكثير.

بتقوى الله والإخلاص له دعمت الناحية الروحية في هذا المجتمع الجديد.

وبالإخاء الحق، تماسك بنيانه، وتوثقت أركانه.

وبالعدل والمساواة، والتعاون، رسمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الأخرى.

ومن ثمّ استقرت الأوضاع، ووجد المسلمون متسعا لتجديد قواهم، وترتيب شؤونهم.

الهوامش

(1) زينة.

(2) سؤال عن حاله.

(3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 14، من حديث ابن عباس بهذا اللفظ.

(4) دسيعة ظلم: محض ظلم.

(5) روى هذه الوثيقة ابن إسحاق: 2/ 16- 18، بدون إسناد.

المصدر

كتاب: “فقه السيرة” (ص187-198)، الشيخ محمد الغزالي السقا (المتوفى: 1416هـ).

اقرأ أيضا

كيف نبني المجمتع المسلم؟

منهج متكامل لإصلاح المجتمع

التفرّد من البداية

إخراج الأمة المسلمة

أسس وحدة الأمة الإسلامية

التعليقات غير متاحة