بعد زحف المئات من نشامى الأردن نحو الحدود الفلسطينية واقتحام بعضهم للسياج الحدودي، في مشهد مهيب يحمل من المعاني ما تعجز الألفاظ عن بيانه، نشر أحد الدعاة ” السلفيين ” الأردنيين منشورا، يخطّئ فيه فعل أولئكم الرجال، داعما مقالته بنصّ عن ابن كثير، لازم استشهاده به تأثيم المقتحمين للحدود، وكما جرت عادة هؤلاء كان مناط الغلط – حسبه – في فعل المتظاهرين، معصية الإمام أو الافتيات عليه فيما هو من صلاحياته الحصرية في شأن “الجهاد”.
تصحيح ولايات الحكام المعاصرين
وقبل الجواب عن الشبهة التي استند إليها هذا الشيخ في تخطئته للمقتحمين للحدود، أودّ الإشارة إلى أنّ الفكرة ” المدخلية ” التي تقوم على خذلان الأمة في كلّ موقف مصيري ولحظة فارقة، متترسة بخطاب شرعي اختارته بعناية ليوافق هواها، غير قاصرة على أتباع ربيع المدخلي وأوصيائه على الأقاليم، بل هي موجودة بنسب متفاوتة بين جميع من يوافق المدخلية في أصولهم، لا سيما “تصحيح ولايات الحكام المعاصرين، والتزام مقتضيات ذلك”، لا تفترق طوائف هؤلاء – في ذلك – سوى في اسم الشيخ الوصيّ، لذا وجب البيان أنّ جميع من وافق المداخلة في أصولهم التي يحتمل أن تكون مثارا للغلط أو التدليس في فتاويهم المتعلقة بالشأن العام كعلاقة الأمة بالحاكم أو سائر القضايا العامة والمصيرية، لا يصح استفتاؤهم – على الأقل في خصوص هذه القضايا -، لأجل ما تقرر من فساد منطلقاتهم في هذا الشأن، فكما لا يصح اعتماد أصول ربيع في التبديع والعلاقة بالمبتدع، لا يصح اعتماد رأي من وافقه في أصوله الفاسدة سائرها.
دور أهل الاختصاصات والخبرات من أبناء الأمة المخلصين
هذا من جهة فساد مسلكهم الاستدلالي لبيان أحكام الشرع في قضايا الأمة المصيرية، أما من حيث صناعة الفتوى عموما فالرأي أنّ هذه القضايا لا يصحّ أن يستبدّ علماء الشرع بالنظر فيها من غير مؤازرة لأهل الاختصاصات والخبرات المختلفة من أبناء الأمة المخلصين، الذين تعين توضيحاتهم الفقيه على تصوّر الواقع وملابساته وحاجات الأمة، جميع ذلك كما هو موضوعيا، فكلّ من تجاوز وسائل التصوّر إلى استبداد بالنظر كان رأيه أقرب إلى الغلط وإن كان أعلم الأمة بالشرع – ولا أتصوّر أن يجترئ أعلم الأمة بالشرع على الخوض في قضايا فارقة مستبدا محتكرا النظر والمعرفة -، قال شيخ الإسلام عن إحدى وقضايا المصير: (الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا). تأمّل كيف أزاح عن الاعتبار رأي الجاهل بتفاصيل الشريعة مع الجاهل بشؤون الدنيا جميعا، لا تشفع للأخير وصلته بالدين.
الرد على يشترط إذن الحاكم في الجهاد
أما بخصوص هذه المسألة، فالغلط فيها ظاهر، سواء من حيث اشتراط ” إذن السلطان ” في مثل ما فعل الأردنيون، أو من جهة تكييف عملهم، أو من حيث مدى اعتبار ” اختيارات السلطات الحالية ” في شأن كالجهاد.
وبيان تلكم الأغلاط كالتالي :
ما يقال في خصوص شرط الأمير في الجهاد
1- أختار أن أبدأ ببيان أنّ الأمر في هذا الخصوص ” مصلحي معلّل ” مطلقا، فعمدة القول فيه ” المصلحة الشرعية “، وما دعوة الشريعة لنصب الأمير والراية في الجهاد إلا لجلب أكبر قدر من المصالح للمسلمين ودفع مثله من المفاسد عنهم، لا ينصب أمير ولا يستحق طاعة إلا لأجل ذلك، فالعادة أن يكون وجوده قاضيا على النزاع، معينا على اختيار الأصلح للمجاهدين وذريعة لحفظ وحدة الصف والغاية، وما يقال في خصوص شرط الأمير في الجهاد فرع عمّا تقرر في المقاصد العامة لنصب الإمام في الإسلام، ركن الأمر الذي تقوم عليه أحكام الباب جميعها مصلحة الأمة، فكما أن إمام الدولة لا يستحق طاعة ذاتية، كذلك أمير الجهاد طاعته معلّلة بالمصلحة = أن يكون هو مرجع تقدير شؤون القتال واختيار الأصلح فيها، ووسيلة توحيد الكلمة والإلزام بالتصرفات، ورفع النزاع .
غياب الإمام لا يؤثّر على صحة الفعل القتالي
2- ومع الحاجة التنظيمية لنصب الأمراء، إلا أنّ وجودهم ليس شرط صحّة لكلّ عمل قتالي ضدّ الأعداء، والأليق بقواعد الشريعة التفريق بين التصرفات العامة أو الأفعال الفردية التي تحمل نوعا من ” الرسمية ” أو تعكّر على قرارات ممثلي الأمة، ويمكن أن تعقبها آثار كبيرة، وبين التصرفات الفردية الجانبية وإن كثر فاعلوها، فالناظر في السيرة المطهرة، يجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم صحّح تصرفات كثيرة حصلت من الصحابة رضي الله عنهم من غير أن يكون منه إذن مخصوص بها، كتصحيحه- صلوات ربي وسلامه عليه- الأعمال القتالية لأبي بصير وجماعته ضدّ قوافل المشركين، وقد استنبط ابن القيم من هذه القصة، أن المعاهَدين إذا استلموا أحدا من المسلمين من إمامهم، فأصاب منهم هذا المسلم بعد أن تسلّموه لم يكن عليه في ذلك قود ولا ضمان، ولا يضمنه الإمام، لأنه حينئذ يكون قد ( فصل عن يد الإمام وحكمه )، والشاهد من هذا أن غياب الإمام – لم يكن على أبي بصير حينئذ إمام – لا يؤثّر على صحة الفعل القتالي وإنما المرجع حينئذ لما يقدّره المُقاتل من المصلحة.
إذن الإمام في قتال الدفع ليس شرطا
ومن الشواهد كذاك قصة سلمة بن الأكوع، إذ أغار الكفار على لقاح للنبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة خارجا من المدينة فتبعهم وقاتلهم حتى ردّ مال رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يستأذن الرسول في ذلك، فلما رجع إلى المدينة مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ” خير رجالاتنا سلمة بن الأكوع “، وقد استنبط العلماء من هذا عدم اشتراط إذن الإمام في قتال الدفع، على أنّ غارات أبي بصير على قوافل قريش كانت هجمات لا مجرد دفاع.
كما أننا نجد عبر تاريخ المسلمين استمرار الحركة الجهادية في فترات موت الخلفاء خاصة تلك التي كانت تعقبها خلافات أسرية تفضي إلى تأخر نصب الإمام.
والحاصل أنّ الجهاد كحركة جمعية للأمة ينبغي أن يكون لها رأس وقيادة يستقيم عليها أمرها، أما أفراد التصرفات فلا تتوقف على وجود القيادة أو إذنها وإنما مرجعها في ذلك المصلحة.
تعليل استئذان الإمام
هذا مع ضرورة بيان أن وجود الأمير يقتضي وجوب طاعة أمره فلا معنى لنصب الأمراء إلا أن يطاعوا في طاعة الله تعالى، وحيث صدرت قراراتهم لم يجز لأفراد المسلمين معصيتها، مخافة أن يكون ذلك ذريعة لجلب فساد أو تفويت مصلحة على الأمة هي أكبر مما يظنه الفرد المقاتل.
قال ابن قدامة في المغني: ( فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بكثرة العدو وقِلَّتهم ومكامن العدو وكيدهم فينبغي أن يُرجَع إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذَّر استئذانه لمفاجأة عدو هم لهم فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعيَّن في قتالهم والخروج إليه لتعين الفساد في تركه ). والشاهد تعليل استئذان الإمام وإسقاط شرطه في حال كان طلب إذنه مفوّتا لمصلحة أو جالبا لفساد أكبر .
على أنّ كثيرا من العلماء لا يرى سوى الكراهة في الافتيات على الإمام في قرار جهاد الطلب، ولعل نصّ إمام الأئمة الشافعي في هذا كاف، جاء في مختصر المزني: ( وإن غزت طائفة بغير إذن الإمام كرهته، لما في إذن الإمام من معرفته بغزوهم، ومعرفتهم ويأتيه الخبر عنهم فيعينهم، حيث يخاف هلاكهم في قتل ون ضيعة، قال الشافعي ولا أعلم ذلك يحرم عليهم ) .
وليس القصد من هذا استقصاء الكلام في نوعي الجهاد وشرط الأمير، وإنما المقصود، بيان قيام الكلام في الباب على التعليل، وتصحيح الفعل القتالي على أوجه كثيرة حيث تكون مصلحة طلب إذن الإمام أقل من مصلحة القتال نفسه، فتأمل واعتبر.
الأمة هي الحافظة للشرع وليس هو الإمام
3- هذا من حيث الأحكام التجريدية الخاصة بهذا الشأن، أما إن أردنا النزول بهذه الأحكام إلى واقعنا اليوم، فسنتعثّر كعادتنا بالواقع المبدّل أو المشاقق للشريعة، فبعيدا عن بحث شرعية ولاية الحكام المعاصرين، يمكن القول أنّ ما تعلّق بأحكام الجهاد اليوم مستقلّ تماما عن قراراتهم، لفقدانهم شرط صحة الاعتبار، إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حقيقة وحسا، فلا أثر لقراراتهم – من حيث هي – في أي من متعلقات هذا الأمر ومباني الأحكام فيه، وإنما العبرة في ذلك بمصالح المسلمين، التي يقدّرها أبناء الأمة المخلصين من علماء وخبراء وهيئات تقوم بآرائهم الجمعية مقاصد نصب الأمير، والذين هم ممثلون للأمة حفظ الدين والسير بحركة الحياة على مسلك العبودية، فإن ( الأمة هي الحافظة للشرع وليس هو الإمام ) كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالرأي أن يتولّى تقدير مصالح هذا الأمر ومفاسده وحركة الجماهير فيه إقداما أو تربصا، علماء الأمة وهيئاتها المستقلة عن القرار السلطوي، عمدتهم في ذلك مصالح الأمة ودينها، فربما منعوا الفعل – وإن كان حكمه التجريدي الوجوب – إن رأوا فيه جلب مفسدة على الأمة، على قاعدة أن ” الواجب إذا تعيّن سبيلا لدفع الضرر يُترك “، وربّما فصّلوا وخصصوا أقطار المسلمين بأحكام مختلفة ونحو هذا، مما يُعتمد فيه النظر القاصد إلى إقامة الدين والتمكين للمسلمين متجاوزين الواقع السلطاني المبدل المفروض وقراراته.
ما المصلحة من اختراق الحدود؟ وهل يعتبر تعرضا للتهلكة؟
4- قلت: أما بخصوص تعريض النفس للتهلكة، فلا يُمنع بإطلاق، بل الحق فيه التفصيل، وإلا فكل قتال فيه تغرير بالنفس وتعرّض للهلاك، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا لا تبلغ عشر عدد الأعداء كسرية حمزة رضي الله عنه ضد عير قريش ( ثلاثون ضد ثلاثمائة )، بل أرسل سرايا من ثلاثة فأقل . والعبرة هنا بما يرجى من النفع المحتمل جلبه للمسلمين، وكم يعجبني التطبيق الأصولي البديع للقاضي ابن العربي في هذا النص الرائع، يختار فيه رأيا عن حمل الفرد الواحد من المسلمين على الجماعة الكثيرة من العدوّ: ( والصحيح عندي جوازه، لأن فيه أربعة أوجه: الأول: طلب الشهادة، الثاني: وجود النكابة، الثالث: تجرية المسلمين عليهم، الرابع: ضعف نفوسهم – يقصد الكفار – ليروا أنّ هذا صنع واحد، فكيف الظنّ، فكيف الظنّ بالجميع، والفرض لقاء واحد اثنين وغير ذلك جائز ) . فتأمل واستمع. على أن سرد الشواهد من السيرة وسير الصحاب يستغرق وقتا كبيرا، يمكن الاستعاضة عنه بالإحالة إلى أخبار غزوات اليمامة والقادسية وسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمرجع على كلّ حال ما يقدّره ممثلوا الأمة من المصالح المرجوة، و الموازنة بينها وبين المفاسد الواقعة والمتوقعة.
اختراق الحدود يؤكد على ألاّ سلام ولا تطبيع مع المغتصبين
ومن المصالح في خصوص اختراق الحدود، المحافظة على الروح العدائية لليهود المغتصبين، وإعلام العالم بالاختيار الشعبي المفارق تماما للاختيار السلطوي، وأن مخرجات المعاهدات لا تلزم سوى من وقّعها، فالشعوب تختار ألاّ سلام ولا تطبيع ولا لقاء بين المغتصبين وأصحاب الحق إلا في ساحة الحرب، والناظر في تعامل سلطات دول الطوق مع هذه الحادثة الصادمة يجد أنّها تعبّر لديهم عن تمرّد قوي على واقعهم الذي حاولوا فرضه بمنطق القوة وأن جميع ما صدر عنهم لم يجد طريقا إلى الوعي الشعبي الضامن لبقاء القضية وبقاء الحق، كما أنّ التخوف الكبير الذي أبداه المحللون في دولة اليهود ينبئ عن استشرافهم مستقبلا مرعبا تتوسع فيه دائرة العداء خارج فلسطين، وتكسر فيه حواجز الأمان التي حمتهم عقودا طويلة.
والعالم بالسياسة وكواليس صناعة القرار يعلم أنّ فعلا كهذا يمكن أن يحفّز حركات في أعلى هرم السلطة والعسكر العربي، استثمارا للحدث في مصالح شخصية أو فئوية.
وما يقال في هذه الحادثة يقال مثله في حوادث الطعن والدهس الفردية التي يقوم بها الفلسطينيون في الضفة والداخل، سواء .
نصر الله أولياءه، وردّ كيد الظالمين في نحورهم.
قلت: قد استجدّ بعد يوم السبت وما أعقبه من إبادة لإخواننا ما يجعل توسيع دائرة الاشتباك في الداخل الفلسطيني وتغيير رتابة التطبيع مع الواقع في دول الطوق – ولو على نحو لا يمكّن العدو من استعمال القوة الغاشمة لكن يفرض التعجيل بوقف الحرب – ضرورة تجعل جميع ما قيل أولى اليوم مما مضى …
المصدر
صفحة الأستاذ أبو عبد الرزاق فتح الله دبوزة، على منصة ميتا… والمنشور كتب بتاريخ 17 ماي 2021 ردّا على فتوى أردنية بتحريم اقتحام الحدود، وجميع ما جاء فيه يصلح لنقض فتوى دار الإفتاء المصرية …
اقرأ أيضا
منكرات وطوام التطبيع مع اليهود؛ إلغاء فريضة الجهاد
الجهاد في فلسطين واجب على المسلمين