ينبغي ألا يهمل المسلمون دور المنافقين في مجتمعاتهم؛ فإنهم قد أظهروا اليوم نفاقهم مع ضعف المسلمين. وتاريخهم مفسد، واليوم يكملون الدور بوجه أبشع وأكثر وضوحا..!
مقدمة
التاريخ لا يصنعه العظماء فقط، بل إن للوضعاء الحقراء والتوافه الخبثاء دوراً كبيراً في صناعته وتسيير دفته.
لا تعجب..! فالتاريخ ليس خيراً كله، فهو وعاء لما يُقضى من القدَر خيره وشره؛ فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالاً عظماء شرفاء؛ فبعْد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ، بل تألق التاريخ بهم. وأما أقدار الشر فقد خُلق لها الأشرار، ولم يُعدم التاريخ منهم من يعكر صفو صفحاته العظيمة، ومن يجرف مجرى سيره نحو الانحدار.
لا نتحدث هنا عن التاريخ الإنساني بعامة؛ فهذا ليس موضوعنا، ولكن عن التاريخ الإسلامي خاصة؛ حيث كان ذلك التاريخ مشطوراً بين نصيبين: نصيب للصادقين السائرين على المحجة البيضاء، ونصيب للكذابين الخاطئين من حزب المنافقين أو ضحاياهم من العصاة الفاسقين.
أما المنافقون منهم فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة من الوهن والإنهاك حتى يفرض نفسه منتشراً بالداء والبلاء.
تعالوا نستنطق التاريخ، ونستخرج شهاداته، ونقلب بعض ملفاته وصفحاته لعلنا نستحضر بعض ملامح الواقع العملي لقول الله تعالى عن المنافقين في كل زمان ومكان: ﴿هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
منافقو العرب وفتنة الردة
أبو بكر رضي الله عنه هو أعظم عظماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، لا يشك في ذلك مؤمن، ولكن انظر لهذا العظيم الكريم: مَنْ شغله واستغرق جهده في سنيِّ حكمه القصيرة، حتى لم تكد همومه تخرج عن حدود الجزيرة إلا قليلاً..؟!
إنهم فئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تنزُّل الوحي؛ حيث كانوا دائمي الخوف؛ وهذا سر انقماعهم من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم: ﴿يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 64)، فلما أمنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق كان مستوراً، وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كُرهاً على عهد الرسالة: ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 98)، وبدأت معالم فتنة تولى كِبْرها مبكراً أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذر منهم: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة: 101).
بدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنارِ الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلَنة استوعبت أرجاء الجزيرة حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد صلى الله عليه وسلم على صحيح الدين إلا أهل المسجدين؛ فقد بدأ الأمر بشبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: «كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكن لنا» متذرعين بأن الله تعالى قال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 103) وأنشد بعضهم يقول:
«أطعنا رسول الله ما كان بيننا .. فيا لعباد الله ما لأبي بكر» (1انظر: البداية والنهاية، م 3، ج 6، ص 317)
حجة داحضة ودليل ساقط؛ إنه لَحْن المنافقين في القول؛ ذلك اللحن الذي لم تكد أذن الصدِّيق تصغي إليه حتى ازدرته ثم لفظته؛ فقد رفض فقهُه البصير أن يهضم تلك الحجج الفجة، ولم ينطلِ عليه ذلك الزخرف من القول، فقال في حسم مسؤول وتلقائية صادقة، وهو يستشعر خطر ذلك النهج الأعوج: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة». (2انظر: الأحاديث والآثار في ذلك في فتح الباري (3/ 211)).
وقد كان الجهر بجحد الزكاة وحمل السلاح لمنعها كافياً لأن يُطلق على هؤلاء وصف “المرتدين” وأن يرفع أبو بكر في وجوههم سيف الحق.
قال ابن كثير:
“وفي جمادى الآخرة ركب الصدِّيق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها”. (3البداية والنهاية، (6/ 317))
ولم يتلعثم رضي الله عنه في قول ولم يتردد في فعل، وقال لمن خالفوه في عزمه: «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي؛ ولو خالفتني يميني لقاتلتهم بشمالي». وقام في الناس فخطبهم؛ فكان مما قال: «إن مَنْ حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا»، ثم قال: «والله لا أدَع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويُقتَل من قُتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته في أرضه». (4البداية والنهاية، (6/ 316))
وشاء الله تعالى أن يطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به رجل واحد استطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم.
وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام. ولا ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين الذين تحولوا إلى مرتدين؛ ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فساداً داخل حصن الإسلام والمسلمين.
وجاء بعد “الصّديق” عمر “الفاروق” رضي الله عنهما، الذي خنس النفاق في عهده وانقمع؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره..؟!
ومع هذا؛ فقد جرى في شأن مقتله لغط بسبب شبهات ثارت حول تواطؤٍ مَّا حدث بين قاتله المجوسي “أبي لؤلؤة”، ورجلين آخرين، حيث ترجَّح لدى ولَد الفاروق “عبيد الله بن عمر”، رضي الله عنهما، أنهما تآمرا مع “أبي لؤلؤة” على قتل أبيه، وكان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى “الهرمزان” وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه، والآخر يدعى “جفينة” وقد مات على النصرانية. وقد باشر عبيد الله قتلهما بنفسه ثأراً لأبيه. (5انظر: البداية والنهاية، 7/ 154). أما حقيقة القصة فلن تظهر كاملة إلا يوم تُبلى السرائر.
النفاق وتأسيس الفتنة الكبرى
انجلت الظلمة بعد اغتيال الفاروق بإشراق عهد “ذي النورين”، وشرع الخليفة الثالث “عثمان” رضي الله عنه في إكمال ما بدأه أسلافه من تمكين للدين في الداخل ونصرته في الخارج، وتعززت في عهده رايات الفتوح حتى سارت قافلة الإسلام في عهد عثمان بأرواح ملائكية لا تخلو من هنات البشر. ولكن بشراً آخرين أوغلوا في الغلو، وتنطعوا في طلب الكمال الذي لم يقتربوا هم من حده الأدنى، بل لم يلج بعضهم دين الإسلام أصلاً؛ حيث كشف النفاق عن حزبه الجديد، ممثلاً في “عبد الله بن سبأ” وجماعته؛ حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب بـ “ابن السوداء” الإسلام في زمن عثمان، وانطلى نفاقه على كثيرين، بل قل اجتمع على نفاقه الكثيرون؛ فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعماً النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم. (6أنكر بعض المستشرقين وأكثر المتشيعيين، وتبعهم فريق من العرب الباحثين المعاصرين أن يكون هناك وجود حقيقي لشخصية باسم عبد الله ابن سبأ، ولكن دواوين التاريخ الإسلامي تثبت وجوده وتؤكد دوره في الفتنة، انظر: تاريخ الطبري (4/340) وتاريخ ابن عساكر (9/329)، وتاريخ ابن كثير (7/183)، وتكلم المؤلفون في الفرق والملل والنحل عن فرقته المسماة بـ (السبئية) انظر: مقالات الإسلاميين، ص 15 بل إن بعض معاصري الشيعة اعترفوا بوجود هذه الشخصية، كصاحب كتاب (لله ثم للتاريخ) بما أورده من النصوص الواردة في دواوين الشيعة المعتبرة لديهم)
وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، فكان منهم نفر ممن نزلوا مصر واستوطنوها مع الفاتحين، ونفر آخر كانوا في العراق وآخر في الشام. (7انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، (7/ 178))، وبدأ المنافقون فتنتهم بالتنادي ـ بلا حياء ـ بعزل من كان يستحيي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم..!
وتجمع رعاع آخرون، ممن لا يفقهون، حول المطالبة بعزل عثمان، بل تأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ (التوبة: 47).
لقد نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت “الثورة” وكانت المصيبة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصره هؤلاء الخوارج في بيته مدة أربعين يوماً، وقتله المجرمون فأسالوا دمه مفرَّقاً على المصحف الذي جمع الأمة عليه، ولم يكن يدور بخلَد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما وصلت إليه؛ حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج، ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تغلق بعد
ذلك؛ فقد ظل “قتلة عثمان” موضوعاً لمزيد من الفتنة ومزيد من المصائب التي رزئ الإسلام بها بسبب النفاق وأهله.
خاتمة
هذا دور النفاق في خير العصور، وما أدى اليه. بل قد آل الأمر الى ضعف حال الخلافة الراشدة حتى آلت الى مُلك؛ بعدما اختلف المسلمون بسب امتداد هذه الفتنة وآثارها بين المطالبة بدم عثمان وبين عجز عليّ ودخول عناصر الفتنة في جيشه، ثم ضعف أهل العراق، ثم مقتل علي رضي الله عنه، ثم امتلاك معاوية للأمر، ثم توطن الفتن والبدع بالعراق والإضافة الى التشيع ما لم يكن على عهد عليّ رضي الله عنه، واستقرت بعض البدع بفعل هذه الحادثة التي تلتها حوادث.
ودراسة التاريخ تعرّفنا مدخلهم، فاليوم تكرار للوسائل نفسها، والله تعالى العاصم للمسلمين من السوء والفتنة.
…………………………
الهوامش:
- انظر: البداية والنهاية، م 3، ج 6، ص 317.
- انظر: الأحاديث والآثار في ذلك في فتح الباري (3/ 211).
- البداية والنهاية، (6/ 317).
- البداية والنهاية، (6/ 316).
- انظر: البداية والنهاية، 7/ 154.
- أنكر بعض المستشرقين وأكثر المتشيعيين، وتبعهم فريق من العرب الباحثين المعاصرين أن يكون هناك وجود حقيقي لشخصية باسم عبد الله ابن سبأ، ولكن دواوين التاريخ الإسلامي تثبت وجوده وتؤكد دوره في الفتنة، انظر: تاريخ الطبري (4/ 340) وتاريخ ابن عساكر (9/ 329) ، وتاريخ ابن كثير (7/ 183) ، وتكلم المؤلفون في الفرق والملل والنحل عن فرقته المسماة بـ (السبئية) انظر: مقالات الإسلاميين، ص 15 بل إن بعض معاصري الشيعة اعترفوا بوجود هذه الشخصية، كصاحب كتاب (لله ثم للتاريخ) بما أورده من النصوص الواردة في دواوين الشيعة المعتبرة لديهم.
- انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، (7/ 178).
المصدر:
- عبد العزيز كامل، مجلة البيان ،العدد:172.