كثُرت أوجه أخذ أموال المُسلمين بغير وجه حق ومن أمثلتها “الضرائب”, والالتزام بالأوجه الشرعية يحقق صلاح الحالة الاقتصادية للأمة الإسلامية.
مُعاناة الأمة الإسلامية بسبب البعد عن النظام الاقتصادي الإسلامي
لا يخفى على المسلم ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من وضع اقتصادي مزرٍ، بسبب سوء إدارة الحكومات العربية والإسلامية، التي جمعت بين الفشل السياسي والفساد الاقتصادي، بسبب بعدها عن منهج الله تعالى، وعدم التزام شريعته، واعتمادها في نظامها الاقتصادي -كما هو الحال في السياسي- على تخطيطات غيرها من الدول الشرقية أو الغربية، فتارة نجدها مع الاشتراكية وتارة مع الرأسمالية، وتارة مع غير ذلك من المناهج البعيدة عن شرع الله، ولأنها لم تستطع مسايرة تلك الأنظمة الوضعية ولا الصمود أمامها لأسباب متعددة، فقد غرقت في مديونية عالمية لتلك الأنظمة وخصوصًا الرأسمالية منها فباتت تلك الدول المتنفذة تملي عليها من الترتيبات والتشريعات الاقتصادية ما تراه يحقق مآربها، وأصبحت دولنا مضطرة لقبول تلك المقترحات، وصارت تقايض في كل عام جدولة ديونها وفق شروط معلنة وأخرى خفية، وأبرز مثال على ذلك مديونيات صندوق النقد الدولي الذي يرهق الشعوب منتهى الإرهاق، وحتى تستطيع الدول سداد مثل هذه الديون وكذلك محاولة اللحاق في ركاب التطور التكنولوجي الكبير والمتسارع، فتلجأ إلى وسائل متعددة لعلها تتمكن من سد المتطلبات الملحة وتأمين الخدمات الضرورية للشعوب، ومن هذه الوسائل توظيف الضرائب المتكررة والمتنامية على الناس بمقادير فاقت قدرة المواطن، وشعر الكل بثقلها..
تعريف الضريبة
وفي هذا المقال نستعرض شيئًا عن الضريبة وما يتعلق بها من مفاهيم وأحكام، فنقول وبالله التوفيق:
الضريبة مشتقة من الفعل ضرب، وهي ما يفرض على الـمِلك والعَمَل، والدخل للدولة، وتختلف باختلاف القوانين والأحوال.1 [المعجم الوجيز صـ (379)].
أما تعريف الضريبة عند علماء المالية فهي: فريضة إلزامية، يلتزم الفرد بأدائها إلى الدولة تبعًا لمقدرته على الدفع، بغضِّ النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة. 2[انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، د عبد السلام العبادي (2/285)].
أما في اصطلاح علماء الشرع: فقد اختلف العلماء في تعريفها على عدة أقوال، فقد عرفها الإمام الغزالي بأنها: ما يوظفه الإمام على الأغنياء بما يراه كافيًا عند خلو بيت المال من المال. 3[شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل].
ويتضح لنا من تعريف الغزالي شرط جليٌّ واضح؛ وهو خلو بيت المال من المال، وهذا يمثل فارقًا بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الوضعي للضريبة.
وكذلك عرفها الإمام الجويني بأنها: ما يأخذه الإمام من مياسير البلاد والمثرين (الأغنياء) من طبقات العباد بما يراه سادًّا للحاجة. 4[غياث الأمم في التياث الظلم صـ (275)].
وهنا يتضح لنا في تعريف الجويني أن الضريبة تجنى من المقتدر فقط بما يسد الحاجة لا أكثر، وهو ما لا يوجد في المفهوم الوضعي للضريبة.
وعرفها من المحدَثين د. يوسف إبراهيم فقال: هي ما تفرضه الدولة فوق الزكاة وسائر التكاليف المحددة بالكتاب والسنة وذلك وفقًا لظروف المجتمع الإسلامي، وتتميز هذه الضرائب بأنها مؤقتة بالظروف التي فرضت من أجلها، ويمكن أن يطلق عليها الضرائب الاستثنائية. 5[النفقات العامة في الإسلام (دراسة مقارنة)].
وتسمى عند الأحناف النوائب، وعند المالكية الوظائف أو الخارج، وعند الشافعية التوظيف، وعند الحنابلة الكلف السلطانية.
حُرمة أخذ أموال المسلمين إلا بسبب شرعي
والأصل العام والقاعدة المقررة في الشريعة الإسلامية: أنَّ المسلم إذا ما التزم بدفع الواجبات المالية التي تتعلق بملكية المال الذي بيده شرعًا، فإنه لا يجوز بعد ذلك التعرض لما في يده من أموال دون حق؛ لذلك نرى كثيرًا من النصوص الشرعية تحذر من أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا 29 وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء/29-30]. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/188]. وقال تعالى في ذمّه لليهود: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء/161].
وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبة الوداع: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» 6[البخاري (7447) ومسلم (1679)].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: « لا يحلّ مالُ امرئ مسلمٍ إلا بطيبِ نَفْسٍ منهُ » 7[صححه الألباني في المشكاة (2946)].
وقد ذمَّ النبي صلَّى الله عليه وسَّلم صاحب المكس وأشار إلى عظيم جريرته حينما قال لخالد بن الوليد في حديث رجم الغامدية: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» 8[رواه مسلم (1695)].
ومعنى المكس: الجباية، وغلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء كما قال الشاعر:
وفي كلِّ أسواق العراق إتاوة … وفي كلِّ ما باع امرؤ مكس درهمِ
قال البغويُّ: يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجَّار إذا مروا عليه مكسًا باسم العشر أي الزكاة، وقال الحافظ المنذري: أمَّا الآن فإنَّهم يأخذون مكسًا باسم العشر، ومكسًا آخر ليس له اسم، بل شيء يأخذونه حرامًا وسحتًا، ويأكلونه في بطونهم نارًا، حجَّتهم فيه داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. 9[الخلاصة في أحكام أهل الذمة (2/219-220)].
وقد ذمَّ الله قوم شعيب لأنهم كانوا يأخذون المكوس من التجار المارين بهم فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ طريقٍ ﴿تُوعِدُونَ﴾ تخوِّفون الناسَ بأَخْذِ ثيابهم أو المكْسِ منهم. روى الطبري (14848) عن السدي: ﴿ولا تَقْعُدوا بكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُون﴾ قال: العشَّارُون. وفيه ابن وكيع شيخ الطبري ضعيف. والعشَّارون: هم الذين يأخذون الـمـَكْس. والـمَكْس: الضريبة.
وكتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى عدي بن أرطأة أن: “ضع الفدية، وضعْ عن الناس المائدة، وضع عن الناس المكس، وليس بالمكس، ولكنه البخس الذي قال الله -تعالى-: ﴿ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود/85]، فمن جاءك بصدقة فاقبلها منه، ومن لم يأتكِ بها فالله حسيبه”.
وكتب أيضًا إلى عبد الله بن عوف القاري أن: “اركبْ إلى البيت الذي برفح، الذي يقال له: بيت المكس، فاهدمْه، ثم احملْه إلى البور فانسفْه فيه نسفاً!” 10[أخرجه أبو عبيد في الأموال (703-704)].
وقال الإمام أبو يوسف القاضي -رحمه الله-: “ليس للإمام أن يُخرج شيئًا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف” 11[الخراج لأبي يوسف صـ (71)].
ومما سبق يتبيَّن لنا حرمة أخذ أموال المسلمين إلا بسبب شرعي، إما متعلق بالأفراد كزكاة الفطر، أو متعلق بالأموال كالزكاة المفروضة في الأموال الزكوية. أو ما تعلَّق في ذمته من واجب النفقة على الزوجة وعلى الأولاد، وعلى الوالدين في حال العجز. ولا يجوز للدولة أو من دونها الأخذ من أموال المسلمين فيما وراء ذلك إلا بطيب نفس منهم.
الموارد المالية للدولة المُسلمة
ولما كان تحقيق المصالح العامة وتأمين الحاجات الضرورية لأي مجتمع يمثل المسؤولية الأولى للدولة القائمة عليه، فإنه لا يتسنى لهذه الدولة أن تقوم بدورها في النفقات العامة إلا بوجود موارد مالية ثابتة ودورية تركن إليها في تأمين هذه المتطلبات، وقد حدد الإسلام الموارد الماليَّة للدولة والتي تستغني بها عن فرض الضرائب والمكوس لو طبقت أحكام الله في جبايتها وصرفها في وجوهها، وهذه الموارد هي:
- أولًا: الزكاة: وهي: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. وتؤخذ من المسلم من سائر أمواله نقدية أو زراعية أو عروضًا تجارية إذا بلغت أمواله النصاب الشرعي، فمن ملك النصاب يجب عليه أن يؤدي زكاة ماله أو تقوم الدولة بجبايتها لتنفقها على مستحقيها. وكما يؤكد كلُّ علماء الاقتصاد وعن تجارب فعليَّة في التاريخ الإسلامي كله، أنه إذا دفعت الزكاة على حقها الذي فرضه الله تعالى فلن تحتاج الأمة الإسلامية إلى اللجوء أو الاستدانة من الغرب ولا من غيره أبدًا، بل ستعيش في رخاء كما كان الحال في كثير من أوقات الرخاء عبر التاريخ، في الأندلس وبغداد منارة العلم ودمشق عاصمة الخلافة وخراسان وما وراء النهر بل وفي كلِّ أقطار العالم الإسلامي.
- ثانيا: الخمس من غنائم الحرب على الكفَّار: وذلك يكون بإقامة الدولة لفريضة الجهاد في سبيل الله، ولا شكَّ أنَّ تعطيل هذه الفريضة اليوم، من أسباب الأزمة التي حاقت بالأمة على المستوى السياسي والاقتصادي، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُعِل رزقي تحتَ ظلِّ رمحي وجُعِل الذلُّ والصغارُ على مَن خالف أمري» 12[البخاري (4/40)]. أي جعل الله تعالى كسبي ومعاشي من الغنيمة وهي لا تنال إلا بالجهاد ومن خالف ما جئت به ناله الذل بالأسر والرق أو فرض الجزية عليه.
- ثالثًا: ما يستخرج من الأرض من المعادن والركاز؛ وهو المال المركوز في الأرض مخلوقًا أو موضوعًا فيضمُّ المعدن الخلقي والكنز المدفون، 13[المعجم الوجيز صـ (276)]. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وفي الرِّكازِ الخمُسُ» 14[البخاري (1499)].
- رابعًا: الجزية: وهي ضريبة مالية تؤخذ من غير المسلمين إذا دخلوا في ذمَّة المسلمين وعهدهم مع بقائهم على دينهم، يدفعونها للدولة الإسلامية نظير حماية المسلمين لهم من عدوهم وعدم مشاركتهم في الجهاد، وحقنًا لدمائهم فلا يتعدَّى عليهم أحد من المسلمين، وكذلك نظير انتفاعهم بمرافق الدولة الإسلامية، وقد وردت شرعيتها في كتاب الله تعالى إذ يقول سبحانه: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة/29].
- خامسًا: الخراج: وهو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدى عنها 15[الماوردي، الأحكام السلطانية، صـ (186)، أبو يعلى، الأحكام السلطانية (146)]. وهو جزء معين من الخارج منها كالربع والثلث ونحوهما وقد يكون نصف الخارج. وهذا المورد ضريبة يفرضها الإمام على أراضي أهل الذمَّة بعد فتحها وإقرار أهلها عليها إن رغبوا. وقد فعل ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين فتح خيبر وأبقى رقبة الأرض في أيدي أهلها نظير خراج يؤدونه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم فعل ذلك عمر بن الخطاب في أرض سواد العراق 16[الماوردي، الأحكام السلطانية صـ (188)].
- سادسًا: العشور: وهي ما يؤخذ من أموال التجارة سواء كان المأخوذ عشرًا لغويًّا أو نصفه أو ربعه أو ما تأخذه الدولة ممن يجتاز بلده إلى غيره من التجار، وهذا ما يشبه اليوم ضريبة الجمارك.
وقد أصبح من موارد بيت المال في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنـه عندما كتب إليه أهل منبج من وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا تجارتهم أرض العرب وله منها العشر فشاور عمر أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأجمعوا على ذلك، فهو أول من أخذ منهم العشور. وكذا سأل عمر المسلمين كيف يصنع بكم الحبشة إذا دخلتم أرضهم قالوا: يأخذون عشر ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم. 17[موسوعة فقه عمر، صـ (506)].
وبذلك يكون عمر رضي الله عنـه قد شرعها من قبيل المعاملة بالمثل ولا تؤخذ إلا من غير المسلمين، أما المسلمون فلا يؤخذ منهم إلا ربع العشر وهو مقدار الزكاة المفروضة.
فعن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم. 18[الأموال صـ (706)].
وسئل عبد الله بن عمر: هل علمت عمر أخذ العشر من المسلمين؟ فقال لا لم أعلم. 19[الأموال صـ (707). موسوعة فقه عمر، صـ (508)].
حُرمة فرض الضرائب على المُسلمين إلا في حالات استثنائية بشروط مُعيَّنة
ومما سبق من الموارد التي ترفد الدولة الإسلامية يتبيَّن لك أن الذي يؤخذ من المسلمين هو الزكاة فقط، أما غيرها من الموارد فتؤخذ من غير المسلمين.
وعلى كل حال فإنَّ فرض الضرائب على المسلمين زيادة على الزكاة من غير ضرورة شرعية يقتضيها واقع الحال ويقررها علماء الشريعة، داخل في أكل أموال الناس بالباطل، وهي من المكوس التي جاءت النصوص الشرعية بتحريمها وتوعد صاحبها بالعذاب الأليم. وما ذكره المجيزون للضرائب من الفقهاء المحدثين من كلام العلماء ليس داخلًا في صورة الضرائب المفروضة على المسلمين اليوم، فإن المتأمل لكلام الغزالي والجويني الذي سبق في بداية المقال، وكلام الشاطبي في قوله في كتابه الاعتصام: “إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد حاجات الثغور… وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى مالا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت مال المسلمين، ثم إليه ينظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلًا من كثير -بحيث لا يجحف بأحد- ويحصل المقصود”. 20[الاعتصام (2/121-123)]. أو غيره من كلام العلماء يجد ذلك مرتبطًا كله بالجهاد والاستعداد له وحفظ الأمن، وأين ذلك من الضرائب المتنوعة التي تفرض اليوم، ولا تستخدم في الضروريات فقط، بل تتعدَّى ذلك إلى الحاجيات والتحسينات، ومجالات الفساد المتنوعة. وإنما يصح الاستشهاد بكلام العلماء المذكورين -رحمهم الله- على الضرائب التي يحتاج إليها في القيام بالواجبات فقط.
ومما سبق يتبين أنَّ الأصل هو حرمة فرض الضرائب على المسلمين إلا في حالات استثنائية ليست متروكة بلا ضوابط كما هو واقع الحال، بل بشروط معيَّنة ومنها:
- أن تكون هذه الضرائب أمرًا استثنائيًّا تدعو إليه المصلحة العامة للمجتمع، وتدبيرًا مؤقتًا، حسبما تدعو إليه الضرورة التي تقدر بقدرها، ينتهي ويزول بزوال العلة والحاجة.
- أن يكون الحاكم الذي يفرض هذه الضرائب عادلًا، تجب طاعته، ليكون في هذا ضمان لعدم الظلم والعسف، ولتحقيق العدل.
- أن لا يكون هناك في بيت المال والخزينة العامة ما يكفي لسد هذه الحاجات، ولا ينتظر أو يرجى أن يكون شيء من ذلك، نظرًا للظروف الطارئة، وأن يرد الحاكم وحاشيته ما عندهم من أموال فائضة إلى بيت مال المسلمين.
- أن يقع التصرف في جباية المال وإنفاقه على الوجه المشروع.
- كما يشترط أن تكون أحكام الشرع في تلك الحال نافذة كما يجب، وحدوده مُقامة كما يرضى، وأن تكون الوظائف في جهاز الحكم بقدر الحاجة، لا تزيد عليها.
هذا وليعلم الحكام أنهم لو التزموا شريعة الله تعالى وأقاموا القسط بين الناس، وحاربوا الربا والفساد بكل أنواعه لاستقام لهم أمر دينهم ودنياهم ولما احتاجوا إلى فرض الضرائب على العباد، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف/96].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “الاقتضاء”: “وعامة الأمراء، إنما أحدثوا أنواعًا من السياسات الجائرة، من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة لأنفسهم، وأقاموا الحدود المشروعة، على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله، لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم”. انتهى. 21[اقتضاء الصراط المستقيم صـ (281)].
نسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردًّا جميلًا إنه سميع قريب.
الهوامش:
- [المعجم الوجيز صـ (379)].
- [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، د عبد السلام العبادي (2/285)].
- [شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل].
- [غياث الأمم في التياث الظلم صـ (275)].
- [النفقات العامة في الإسلام (دراسة مقارنة)].
- [البخاري (7447) ومسلم (1679)].
- [صححه الألباني في المشكاة (2946)].
- [رواه مسلم (1695)].
- [الخلاصة في أحكام أهل الذمة (2/219-220)].
- [أخرجه أبو عبيد في الأموال (703-704)].
- [الخراج لأبي يوسف صـ (71)].
- [البخاري (4/40)].
- [المعجم الوجيز صـ (276)].
- [البخاري (1499)].
- [الماوردي، الأحكام السلطانية، صـ (186)، أبو يعلى، الأحكام السلطانية (146)].
- [الماوردي، الأحكام السلطانية صـ (188)].
- [موسوعة فقه عمر، صـ (506)].
- [الأموال صـ (706)].
- [الأموال صـ (707). موسوعة فقه عمر، صـ (508)].
- [الاعتصام (2/121-123)].
- [اقتضاء الصراط المستقيم صـ (281)].