حذّر الله تعالى من التفرق عن سبيله وعن الاعتصام بغير حبله، وأمر بالحفاظ على الأمة، ومسماها أنها أمة إسلامية.. وحذّر رسول الله من دعوى الجاهلية، وأخبر أنها نتنة.. ورغم ذلك تُطل تلك الدعاوى المفرقة عن سبيل الله.
وفي هذه الفتوى بيان لحكم هذه الدعاوي..
السؤال
ما حكم الدعوة للقومية العربية ونحوها ؟
الجواب
اِعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإِسلام والقضاء عليه في داره، بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع..
فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإِسلام، واغترّ بها كثير من الأغمار ومن قلّدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإِلحاد وخصوم الإِسلام في كل مكان.
ومن المعلوم من دين الإِسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإِسلام وأهله، وذلك لوجوه..
وجوه بطلان القومية العربية ومناقضتها للعقيدة الاسلامية
التفريق بين المسلمين
الأول: أن الدعوة إلى القومية العربية تفرّق بين المسلمين، وتفْصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرّق بين العرب أنفسهم؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإِسلام وما يرمي إليه، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام…
دعوى الجاهلية المحرمة
الوجه الثاني: أن الإِسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذّر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوصٍ كثيرة؛ بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإِسلام من ذلك، ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية؛ لأنها دعوة إلى غير الإِسلام، ومناصرة لغير الحق.
وكم جرّت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودُها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله:
“كل ما خرج عن دعوى الإِسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية.
بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: أَبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُم؟! وغضب لذلك غضبا شديدا” انتهى(1)
[للمزيد: من عبرة التاريخ .. التفرق الذي يسبق كل سقوط]
استلزام ولاية الكافرين
الوجه الثالث: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية: هو أنها سلّم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم، من أبناء غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم.
ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير، والمخالفة لنصوص القرآن والسنة، الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم، ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ (المَائدة: 51-52).
سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى، ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم، تحت لواء القومية العربية، ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم.
فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعدٍ لحدود الله، وموالاة ومعاداة، وحب وبغض على غير دين الله؟
فما أعظمَ ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج.
القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ (البَقـَـرَة: 140)، ويقول الله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (المُمتَحنَة: 1).
ونظام القومية يقول: كلّهم أولياء، مسلمهم وكافرهم، والله يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشّورى: 13).
ويقول سبحانه: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (المُمتَحنَة: 4).
وقال تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (المجَادلة: 22).
وشرع القومية؛ أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول: اقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم، حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإِسلام وقف في طريقهم، وحال بينهم وبين أمجادهم، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية، سبحانك هذا بهتان عظيم.
والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والتحذير من تولّيهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن، فلا ينبغي أن نطيل ذكرها.
وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة ابن أبي معيط، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يومنا هذا، إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من العرب إلى يومنا هذا..؟!
هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل.
وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه، وإن أنكره بعض دعاتها جهلا أو تجاهلا وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أوجب الله على المسلمين أن يتكاتفوا ويتكتلوا تحت راية الإِسلام، وأن يكونوا جسداً واحداً، وبناء متماسكاً ضد عدوهم، ووعدهم على ذلك النصر والعز والعاقبة الحميدة، كما تقدم ذلك في كثير من الآيات…
وليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء، ولا تؤمن غائلتهم.
وقد حرم الله موالاتهم، ونهى عن اتخاذهم بطانة، وحكم على من تولاهم بأنه منهم، وأخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات.
وثبت في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر، فلما كان بـ (حَرَّةِ الوَبَرَة) أَدْرَكَهُ رجل قد كان يُذْكَرُ منه جُرْأَةٌ ونَجْدَةٌ، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه.
فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتَّبِعَك وأُصِيب معك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تُؤْمِنُ بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِك.
قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال: لا، قال: فارْجِعْ فلن أَسْتَعِينَ بِمُشْرِك.
قالت: ثم رجع فأدركه في البَيْدَاء، فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَانْطَلِقْ.(2)
فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، ويدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يُدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب ولا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يُؤمَن..
وليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، وصدقوا في معاملته؛ لأن النصر بيده لا بيد غيره، وقد وعد به المؤمنين، وإن قَلّ عددهم وعدَّتهم كما سبق في الآيات وكما جرى لأهل الإِسلام في صدر الإِسلام، ويدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عِمرَان: 118).
فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك وسنة نبيك ـ عليه الصلاة والسلام ـ كيف يحاربان موالاة الكفار، والاستعانة بهم واتخاذهم بطانة، والله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم والاستعانة بهم مصلحة راجحة؛ لأذن الله فيه وأباحه لعباده..
ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذمّ من يفعله، وأخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، وخروجهم في جيش المسلمين يضرهم، ولا يزيدهم ذلك إلا خبالاً، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ (آل عِمرَان:149). وقال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (التّوبَة:47).
فكفى بهذه الآيات تحذيراً من طاعة الكفار، والاستعانة بهم، وتنفيراً منهم، وإيضاحاً لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك.
وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التّوبَة: 71) وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفَال: 73)..
أوضح سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فإذا لم يفعل المسلمون ذلك، واختلط الكفار بالمسلمين، وصار بعضهم أولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير..
وذلك بما يحصل في القلوب من الشكوك، والركون إلى أهل الباطل والميل إليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من أكثر المدّعين للإِسلام حيث تولّوا الكافرين، واتخاذهم بطانة، فالتبست عليهم الأمور بسبب ذلك، حتى صاروا لايميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والأضرار ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
[اقرأ أيضا: حكم مظاهرة الكفار على المسلمين إذا كانت للدنيا]
شبهة موَدّة النصارى
وقد احتج بعض دعاة القومية على جواز موالاة النصارى والاستعانة بهم بقوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ (المَائدة: 82). وزعموا أنها ترشد إلى جواز موالاة النصارى، لكونهم أقرب مودة للذين آمنوا من غيرهم.
وهذا خطأ ظاهر وتأويل للقرآن بالرأي المجرد، المصادم للآيات المحكمات المتقدم ذكرها، وغيرِها، ولِما ثبت في السنة المطهرة من التحذير من موالاة الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم وترك الاستعانة بهم؛ وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَنْ قال في القرآن بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار(3).
والواجب أن تفسر الآيات بعضها ببعض، ولا يجوز أن يفسر شيء منها بما يخالف بقيتها، وليس في هذه الآية بحمد الله ما يخالف الآيات الدالة على تحريم موالاة الكفار من النصارى وغيرهم.
وإنما أُتِي هذا الداعية من سوء فهمه وتقصيره في تدبر الآيات، والنظر في معناها والاستعانة على ذلك بكلام أهل التفسير المعروفين بالعلم والأمانة والإِمامة.
ومعنى هذه الآية على ما قال أهل التفسير، وعلى ما يظهر من صريح لفظها: أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، وليس معناها أنهم يوادّون المؤمنين، ولا أن المؤمنين يوادّونهم.
ولو فُرض أن النصارى أحبوا المؤمنين وأظهروا مودتهم لم يجز لأهل الإِيمان أن يوادوهم ويوالوهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نهاهم عن ذلك في الآيات السالفات؛ ومنها قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ (المَائدة: 51).
وقوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ﴾ (المجَادلة: 22)، ولا ريب أن النصارى من المحادّين لله ولرسوله، النابذين لشريعته، المكذبين له ولرسوله، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكيف يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يوادّهم أو يتخذهم بطانة؟! نعوذ بالله من الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
شبهة ولاء من لم يخرجنا من ديارنا
وزعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل في موالاة الكفار الذين لم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المـُمتَحنـَـة:8).
وهذا كالذي قبله: احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها.
والله سبحانه حرم موالاة الكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم، ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدلّ عليه كتاب ولا سنة؟! سبحان الله ما أحلمَه.
وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم، الرخصة في الإِحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة..
وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح: أنَّ أُمَّ أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي مُشْرِكة تريد الدنيا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماءَ أن تَصِلَ أُمَّها، وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعطى عمر جُبَّةً من حرير، فأهداها إلى أخٍ له بمكة مشرك.
فهذا وأشباهه من الإِحسان الذي قد يكون سبباً في الدخول في الإِسلام، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والأبصار.
شبهة الاستقواء بكفار العرب
والخوف من إعلان الولاء الاسلامي
وللقوميين هنا شبهة: وهي أنهم يقولون: إن التكتل حول القومية العربية بدون تفرقة بين المسلم والكافر يجعل العرب وحدة قوية، وبناء شامخاً، يهابهم عدوهم ويحترم حقوقهم. وإذا انفصل المسلمون عن غيرهم من العرب، ضعفوا وطمع فيهم العدو.
وشبهة أخرى وهي أنهم يقولون: إن العرب إذا اعتصموا بالإِسلام، وتجمعوا حول رايته، حقد عليهم أعداء الإِسلام، ولم يعطوهم حقوقهم، وتربصوا بهم الدوائر، خوفاً من أن يثيروها حروباً إسلامية، ليستعيدوا بها مجدهم السالف، وهذا يضرنّا ويؤخر حقوقنا ومصالحنا المتعلقة بأعدائنا، ويثير غضبهم عليها.
جواب الشبهتين
والجواب أن يقال:
إن اجتماع المسلمين حول الإِسلام، واعتصامهم بحبل الله، وتحكيمهم لشريعته، وانفصالهم من أعدائهم والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، هو سبب نصر الله لهم وحمايتهم من كيد أعدائهم..
وهو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم ويعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين؛ فقد كان بين أظهرهم من اليهود والنصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم ولم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، واستعانوا به وحده، فحماهم وأيدهم ونصرهم على عدوهم..
والقرآن والسنة شاهدان بذلك، والتاريخ الإِسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم والكافر.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين، وفي المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، والمسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، وحاجتهم إلى الأنصار والأعوان شديدة، ومع ذلك فلم يستعن نبي الله والمسلمون باليهود، لا يوم بدر ولا يوم أُحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، ولاسيما يوم أحد.
وفي ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، ولا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، ولما في مخالطتهم من الفساد الكبير، وتغيير أخلاق المسلمين، وإلقاء الشبهة، وأسباب الشحناء والعداوة بينهم.
ومن لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين، فلا وسع الله عليه.
وأما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإِسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين ويوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، ونصر دينه والحماية لشرعه. ولن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم واتبعوا ملة أعدائهم، وصاروا في حزبهم، وذلك هو الضلال البعيد والكفر الصريح، وسبب العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة..
كما قال سبحانه: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البَقـَـرَة: 120)، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ (البَقـَـرَة: 120)، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البَقـَـرَة: 217).
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (الجـَـاثيـَـة:18-19).
فأبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البيّنات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتّبع ملتهم، وندع شريعتنا، وإنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
وأخبر أنه متى أطعناهم واتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأسباب انتقامه.
[اضغط للتعرف على: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]
استلزام القومية رد الشرائع أو إسقاطها
الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يُفضِي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن..
لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام.
وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف.
وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة؛ كما قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النّـِسـَـاء:65).
وقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المـَـائدة:50) ، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المـَـائدة، من الآية: 44)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المـَـائدة، من الآية: 45)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (المـَـائدة، من الآية: 47).
[اقرأ : الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة]
وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإِسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكّم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها..
كما قال عز وجل: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (المـُمتَحنـَـة: 4).
………………………….
هوامش:
- مجموع الفتاوى (28/328، 329)، باختلاف يسير.
- مسلم (1817).
- الترمذي (2950، 2951) وقال في الموضع الأول: حسن صحيح، وفي الموضع الثاني: حديث حسن، والنسائي في الكبرى (8084، 8085)، وأحمد في المسند (1/233، 269، 327).
المصدر:
- موقع فتاوي علماء البلد الحرام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
اقرأ أيضا: