القرآن برهان من الله لعباده، أقام به الحجة عليهم، وأظهر من خلاله أوضح الدلالات وأقواها، على موضوعاته ومعانيه وحقائقه، في العقيدة والحياة .
التعرف على طبيعة هذا القرآن ومهمته ودوره ورسالته
وردت في القرآن الكريم صفات وسمات لكتاب الله، وسجلت آياته أوصافا وخصائص واضحة لهذا الكتاب المعجز، ولاحظت آثاره المباركة الخيرة على الأفراد والجماعات، وأبرزت مظاهر النقلة البعيدة التي ينتقل إليها المؤمنون الأحياء المبصرون، من خلال تفاعلهم الحى مع القرآن، وحياتهم الطاهرة في ظلاله ..
ويجب علينا- ونحن نتلو القرآن ونتدبره- أن نلاحظ هذه الصفات والسمات، وأن نقف طويلا أمام الآيات التي تعرضها، وأن نعيشها بكامل كياننا وكافة مشاعرنا ودقائق حياتنا ..
إن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا بكلامه العظيم في كتابه الكريم، وأن نلاحظ الحياة المباركة فيه، وأن نعيش هذه الحياة في ظلاله .. ولذلك عرض لنا طائفة من أسماء القرآن وصفاته وخصائصه وسماته .. فلنقبل عليها بوعي وتدبر وتفاعل، لنعرف طبيعة هذا القرآن ومهمته ودوره ورسالته .. لأنه لا أحد أعلم بكلام الله من الله سبحانه .. وإنّ تفضّل الله علينا بتعريفنا على كتابه لهو نعمة سابغة، ورحمة باهرة، علينا أن نقابلها بالتوجه إلى الله سبحانه بالحمد والشكر، والإخلاص، والحب، والإقبال على كتابه الكريم بالتدبر والتذوق والالتزام والتطبيق، لنعرف طعم الحياة، ونتذوق ألوانها ومظاهرها.
طائفة من أسماء القرآن وخصائصه، وسماته وصفاته، وفضائله وآثاره
في المقال السابق [حديث القرآن عن القرآن: أسماؤه وسماته (1)] ذكرنا اسمين من أسماء القرآن، وفي هذا المقال نكمل باقي هذه الأسماء.
3 – الذكر
قال تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص: 1]، وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
وفى القرآن الذكر المجيد لهذه الأمة، فقد كانت قبل هذا القرآن نكرة من النكرات، تعيش وتموت ولا يحس بها أحد إن عاشت أو ماتت .. ثم أعلى القرآن ذكرها، وبوأها مكانتها، وأسلمها قيادة البشرية، وجعلها قائدة ورائدة، وفى مركز الأستاذية والوصاية والرعاية .. ولا ذكر لهذه الأمة إلّا بالتزام الذكر الرباني، والانطلاق به والظهور من خلاله. هذا أو العودة إلى زوايا النسيان وعالم النكرات، وذيل القافلة وسقط المتاع .. قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]، وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف: 44].
وهذا الذكر المبارك لا يستفيد منه إلّا من كان صاحب قلب حي متفاعل، فيمتزج الذكر الرباني مع القلب الإيماني، وتسرى الحياة مع القرآن إلى القلب فتحييه .. وتظهر سمات الحياة القرآنية على الجوارح، وتلحظ على السلوك، وتكون ثمارا يانعة خيرة في الواقع المعاش .. قال تعالى: (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [يس: 69 – 70].
4 – الروح
قال تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]. ونأخذ هذه الآية على حقيقتها، ونأخذ هذه السمة القرآنية على ظاهرها، فإنه روح وإنه حي وإنه حياة، والإنسان يكون ميتا بين الأموات، يكون ميت القلب
والإحساس والشعور، ثم يتفاعل مع الروح
القرآني المحيي، ويفتح لهذه الروح قلبه وأحاسيسه وكيانه فتدب فى هذا القلب الحياة، وتنعكس على الظاهر فى الحياة .. وصدق الله القائل: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
5 – النور
القرآن نور يشرق في قلب المؤمن فيزهر بالإيمان، ويشرق فى حياته فينيرها له، ويشرق في سماء الأمة فيكون ضياء وسعادة وهدى وخيرا، ويشرق في البشرية فتعرف مواقعها وتهتدى إلى طريقها- إن أرادت سواء السبيل- قال تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 – 16]، وقال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [التغابن: 8].
6 – الفرقان
به يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين النور والظلمات، ففيه وحده الحق والهدى والنور، ونقيضه وضده هو باطل وضلال وظلام .. قال تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ) .. [آل عمران: 3 – 4]، وقال: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان: 1].
7 – البرهان
فهو برهان من الله لعباده، أقام به الحجة عليهم، وأظهر من خلاله أوضح الدلالات وأقواها، على موضوعاته ومعانيه وحقائقه، في العقيدة والحياة .. وكل من تعامل مع أدلة القرآن في يسرها ووضوحها وتفاعل القلب والعقل معها، وقارنها بالأدلة والبراهين والأقيسة التي أوجدتها العقول البشرية وقررتها وبينتها، كل من فعل ذلك يدرك طرفا من البرهان القرآني ويسره ووضوحه .. قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء: 174 – 175].
8 – والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين
قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].
إنه موعظة من الله، وهل هناك أبلغ من الموعظة الربانية؟ وأيسر منها؟
وأكثر منها نفاذا إلى القلب والضمير؟ .. إن مواعظ البشر مهما سمت في البلاغة والتأثير، عاجزة عن أن تقارب الموعظة القرآنية أو تدانيها، ولو أقبل الدعاة والوعاظ على الموعظة القرآنية وخاطبوا المسلمين بها، لتغلغل الكلام في قلوبهم، وتأثرت به أعمالهم، وصلحت به حياتهم .. وأي قلب لم تنفعه الموعظة القرآنية فهو ميت لا ينفعه شيء آخر ..
والموعظة القرآنية تولد الشفاء للصدور، والقضاء على ما في هذه الصدور من أمراض وأدناس وأرجاس، ليعود لها نورها، وتعمل فيها فطرتها المؤمنة التي فطر الله الناس عليها، والقرآن قادر بإذن الله على أن يشفى الصدور والقلوب من مختلف أمراضها المادية والنفسية، أمراض الشبهات والشهوات، وأمراض الهوى والانحراف، وأمراض الشك والشرك، وأمراض القلوب والنفوس والجوارح والحواس، وأمراض السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع والحياة والحضارة .. بهذا المفهوم الموسع الشامل يجب أن ننظر للشفاء القرآني، وأن نتناوله بهذه السعة والإحاطة، لا أن نقصره على آلام الرأس والسن والبطن، أو نحوله إلى تعاويذ وتمائم ورقى وحجب، فنمسخه ونقزمه ونفرغه من هذا المعنى الشامل الواسع، وصدق الله (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82].
ومما يلفت النظر في الآية أنها جعلت الموعظة القرآنية والشفاء القرآني للناس جميعا، بينما خصصت الهدى والرحمة بالمؤمنين، وقصرتهما عليهم، مما يجعل الإيمان شرطا للهدى والرحمة.
9 – والقرآن بصائر تهدي
قال تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام: 104]، وقال تعالى: (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (203) [الأعراف: 203] وقال تعالى: (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية: 20]. وهذه البصائر القرآنية الربانية الهادية موجهة للناس جميعا، ولكن هذه البصائر لا تدركها إلّا القلوب الحية، حيث تعيها وتتفاعل معها وترشد بها، وتهتدى على أساسها. إن الأجسام لها العيون التي تبصر بها، وإن القلوب لها البصائر التي تهتدى بها، فالأبصار للأجساد والبصائر للقلوب، وإذا ما تعطلت أبصار الأبدان فقد يعيش الإنسان بدونها، ولكن إذا تعطلت بصائر القلوب فإنها تموت، ولا يبقى فيها نفع أو خير، وصدق الله القائل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].
وهذه البصائر القرآنية الهادية، تستقبلها القلوب المؤمنة، وتفتح لها منافذها وأصداءها، فتزداد أيمانا وهدى واستقامة ويقينا، بينما القلوب القاسية الكافرة الغليظة توصد منافذها أمام هذه البصائر، وتحكم إقفالها دونها، وتبالغ في وضع الأقفال عليها، وأنى لها أن تهتدى بها، إنها تزيد هذه القلوب الكافرة كفرا ورجسا وظلاما وعمى. قال تعالى: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة: 124 – 125].
طبيعة القرآن والحياة الناتجة عنه
ونختم هذه السمات والأسماء والأوصاف والآثار والنتائج بهذه الآيات التي توضح طبيعة القرآن أولا، والحياة الناتجة عنه ثانيا، وتفاعل المؤمنين به عند ما يسمعونه، وانفعال قلوبهم المؤمنة المبصرة الهينة اللينة به، والآثار المترتبة على ذلك، والتي تبرز على الجوارح والجلود، ثم النتيجة لهذا كله وهى الهدى الرباني، الذى يعتبر ثمرة مباركة يانعة للشجرة القرآنية الخالدة. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر:21 – 23].
المصدر
كتاب: “مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د/ صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص31-36.
اقرأ أيضا
حديث القرآن عن القرآن: أسماؤه وسماته (1)
علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”