لشريعة الله خصائص نابعة من ربانية المصدر، تفهم من استقراء أحكامها وعللها، والمصالح التي قُصد الى تحقيقها، فمن تأملها وجد العدل والصدق، كما وجد من عصمتها وارتباطها ما يحقق لزومها الى يوم القيامة.
مقدمة .. عن ثبات الشريعة
إن قول الله سبحانه وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هما الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، وقد ختم الله سبحانه شرائعه بهذه الشريعة التي أرسل بها نبيه عليه الصلاة والسلام؛ فأحكمها سبحانه؛ فهي موصفة بصفة الثبات والبقاء”. (1أحكام القرآن 2/ 3 – 4 لأبي بكر الجصاص – الطبعة الناشر)
فما جاء به الوحي من عند الله سواء باللفظ أو المعنى دون اللفظ وانقطع الوحي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو لم يُنسخ فهو ثابت، مُحْكَم، له صفة البقاء والدوام لا تغيير له ولا تبديل، وهو كذلك أبداً إلى يوم القيامة، وإليك الأدلة في المطالب الآتية.
الصدق والعدل في الشريعة
قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام: 115).
قال الإِمام ابن كثير، رَحِمَهُ اللهُ، مبيناً معنى هذه الآية:
“صدقاً فيما قال وعدلاً فيما حكم، يقول: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلّا عن مفسدة، كما قال تعالى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (الأعراف: 157). إلى آخر الآية.
﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي ليس أحدٌ يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الأخرة، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوال عباده ﴿الْعَلِيمُ﴾ بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله”. (2تفسير ابن كثير 2/ 168 – 169، وانظر جامع البيان للطبري 8/ 9 – 10)
وهذا الحق والصدق والعدل الثابت التام الذي لا مبدّل له والذي تمثله هذه “الشريعة الربانية” يقابله الضلال والظنون والباطل الذي تحمله شرائع البشر وأهواؤهم؛ فبعد أن قرر الله سبحانه أن كتابه هو الحق الثابت الذي لا مبدّل له. بيّن سبحانه أن أكثر أهل الأرض لا يتبعون إلّا الظن والأوهام والباطل والضلال؛ فقال ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116).
وهذا الظن والوهم باطل وضلال لا قرار له ولا ثبات.
وترجم الأستاذ سيد قطب هذا المعنى في تفسيره فقال:
“لقد تمت كلمة الله سبحانه صدقاً فيما قال وقرر، وعدلاً فيما شرع وحكم فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان ولم يبق قول لقائل في شريعة أو حكم أو عادة أو تقليد..
إنه ليس “المجتمع” هو الذي يُصْدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة..
ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية فتتغير قيمه وأحكامه؛ حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي، وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البرجوازي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي؛ ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات..!
الإِسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره.. الإِسلام يعيّن قيماً ذاتية له يقررها الله، سبحانه. وهذه القيم تثبت مع تغيّر “أشكال” المجتمعات”. (3في ظلال القرآن 3/ 1195 – 1196، وانظر تفسير ابن القيم لمعنى التثبيت فيما سبق ص 85)
هذا هو الأصل الذي يقرره القرآن، وهذه هي العقيدة التي يتميز بها الإِسلام عن سائر المذاهب البشرية، وتتميّز به شريعته كذلك عن سائر القوانين البشرية..
إن البشر وهم يضعون الأحكام لا يدركون طبيعتهم ولا حقيقة الفطرة ولا حقيقة الإِنسان ولا حقيقة الكون؛ ومن ثَم تحملهم الظنون والأوهام فيضعون الأحكام التي تحكم الإِنسان والمجتمع على غير علم ولا بصيرة، ويلجؤون أمام هذا الوهم والظن والجهل إلى تغيير هذه الأحكام وتبديلها حسب تغيّر نظرتهم للإِنسان وفطرته، وُيصرّون على أن يدركوا حقيقة الفطرة وحقيقة الكون والحياة وهم لا يملكون القدرة على ذلك؛ فلا يزالون يخرجون من قانون إلى قانون ومن فكرة إلى فكرة ومن مذهب إلى مذهب؛ يتخبطون وتتخبط معهم مجتمعاتهم وتضطرب أفئدتهم ونفوسهم؛ فلا يزالون منحرفين تلعب بهم رياح المذاهب المختلفة المتناقضة المضطربة المتبدلة المتغيّرة؛ لا تأوي بهم إلى قرار ولا تخرجهم من حيرة ولا تمنعهم من شقوة.
والله العليم الخبير الحكيم الرحيم يدعوهم ـ وهو العليم بهم وبما حولهم من خلق السماوات والأرض ـ يدعوهم إلى الكلمة الثابتة والمنهج المستقر التام الذي شرعه الله لنفوسهم وعقولهم وأرواحهم وأبدانهم ومجتمعاتهم يكفل لهم ولفطَرهم ولهذه الحياة والأحياء العدل والصدق في العقيدة والشريعة؛ فلا ظنون ولا أوهام ولا جهل ولا ضلال ولا ضياع ولا تغيير ولا تبديل.. ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
الشريعة لتحقيق مصالح العباد
استقرأ الإِمام الشاطبي الشريعة من أكثر من موضع، فوجد أن تفاصيل العلل للأحكام قد انتشرت في القرآن والسنة، وأن ذلك يفيد أنها شرعت لمصالح العباد، وهذا الاستقراء ـ كما يقول رَحِمَهُ اللهُ ـ لا يستطيع أن ينازع فيه أحد. (4الموافقات 2/ 3 – 4)
وردت آيات كثيرة في القرآن تفيد بأن الأحكام شرعت لمصالح العباد، ومن هذه الآيات:
1 – بعثة الرسل
ما ورد في بعثة الرسل الذين بلغوا الشرائع وهم الأصل ومن ذلك قوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 165).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
فالرسل بُعثوا رحمة للعباد، والرحمة بهم هي حفظ مصالحهم فشرائع الرسل جاءت إذاً بمصالح العباد العاجلة والآجلة.
2 – ما ورد في أصل الخلقة
فقد امتن الله على عباده بأنه إنّما خلقهم لعبادته ووعدهم على ذلك الحياة الطيبة في الدنيا والثواب المقيم في الآخرة، وهذا معنى أن هذه الشرائع التي جاءت تحمل تكاليف العباد إنّما جاءت لمصالحهم.
ومن هذه الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (هود: 7). ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 2).
3 – تعليل تفاصيل الأحكام
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، منها:
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ (المائدة: 6). والآية جاءت بعد آية الوضوء.
وقال في الصيام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
وفي الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45).
وفي الجهاد: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39).
وفي القصاص: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 179).
عصمة الشريعة
إن العصمة ثابتة لهذه الشريعة ولرسولها، صلى الله عليه وسلم، ولهذه الأمة فيما اجتمعت عليه؛ وهذا يؤكد معنى ثبات الشريعة، فهي معصومة أبداً من الخطأ والزلل والعبث، ومنزَّهة عن كل عيب، فكما أن الله سبحانه الذي أنزلها منزه عن كل نقص موصوف بكل كمال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى: 11).
فكذلك هذه الشريعة منزهة عن الخلل والاختلاف ومبرئة من كل نقص وموصوفة بكل كمال.
فمن آمن بأن الله منزه عن الظهير والشريك والند والمثيل وجب عليه أن يؤمن بأن شريعته هي الحق وما خالفها هو الباطل.
وإذا انتفى النقص والخلل في الشريعة انتفى التعقيب عليها، فهي إذن شريعة ربانية موصوفة بكل كمال، فلا يسوى بها غيرها أو يقدم عليها.
ويؤكد ملازمة هذا الوصف لها أن الله ختمها وأخبرنا بحفظها وجعل نبيها معصوماً، وأمته فيما اجتمعت عليه معصومة.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)؛ فقد حفظ الله هذا القرآن من أن يزاد فيه أو ينقص منه ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: 42). ومَنْعُ القرآن من الخلل والفساد وحفظه واتقانه كل ذلك من معنى الإِحكام الوارد في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ (هود: 1).
فالإحكام الاتقان والمنع من الفساد كما ورد في لسان العرب (5مادة حكم 2/ 143) وأحكَمَ الله آياته أي منعها من الفساد والخلل والدخل والباطل. وهو تفسير قتادة واختيار الطبري، وقال عنه القرطبي وهو أحسن ما قيل في تفسير الآية. (6جامع البيان 11/ 180، الجامع لأحكام القرآن 4/ 10، 9/ 2)
ولقد تحقق حفظ هذه الشريعة من التغيير والتبديل وذلك بما يسره الله سبحانه وتعالى حيث قيّض لها من يحفظُها، فجعل الأمة بمجموعها حافظة للشرع، فالعصمة في الحفظ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع، وهذا واقع مشهود تَحققَ به وعد الله سبحانه الذي تكفل بحفظ هذه الشريعة:
1 – فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه.
2 – والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه.
3 – والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال في الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم.. (7منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 3/ 271 لشيخ الإِسلام ابن تيمية – طبعة بيروت – دار الكتب العلمية. وقد ذكر هذا في مقام الرد على مذهب الشيعة)
خاتمة
تلك بعض من خصائص شريعة رب العالمين التي تلزمنا اليوم والى قيام الساعة. وقبل أن يتكلم امرؤ في اختلاف الزمان وتطوره فليعلم أولا مصدره الرباني وما يستلزمه ذلك من خصائص، ولينظر فيها كذلك بعين الاستقراء وتتبع عللها المنوطة بأحكامها علم برهان ذلك الى قيام الساعة فلا يعمى عنها إلا محروم قد أضل الله قلبه.
………………………….
الهوامش:
- أحكام القرآن 2/ 3 – 4 لأبي بكر الجصاص – الطبعة الناشر.
- تفسير ابن كثير 2/ 168 – 169، وانظر جامع البيان للطبري 8/ 9 – 10.
- في ظلال القرآن 3/ 1195 – 1196، وانظر تفسير ابن القيم لمعنى التثبيت فيما سبق ص 85.
- الموافقات 2/ 3 – 4.
- مادة حكم 2/ 143.
- جامع البيان 11/ 180، الجامع لأحكام القرآن 4/ 10، 9/ 2.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 3/ 271 لشيخ الإِسلام ابن تيمية – طبعة بيروت – دار الكتب العلمية. وقد ذكر هذا في مقام الرد على مذهب الشيعة.
المصدر:
- الدكتور عابد بن محمد السفياني، “الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية”، ص109-121.