إن هؤلاء العصاة والكافرين متبعون للشيطان لا للرحمن، منقادون للشيطان وتعاليمه، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون. إن الشيطان هو الذي أمرهم بالفواحش والمعاصي والكفر والضلال، فلماذا يُسندون هذا الأمر إلى الله الذي لا يأمر بالفحشاء؟.
واجب التصدي للمفاهيم المغلوطة لبعض آيات القرآن
لقد ساءنا تحريف المحرِّفين لمعاني كلام رب العالمين، وللنتائج الخاطئة التي خرجوا بها منها، والأحكام الباطلة التي بنوها عليها، كما أزعجنا ازدياد نسبة هذه التحريفات في هذا الزمان، وشمولها لآيات ذات أبعاد شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية.
وقد قرأنا عن مفاهيم لبعضهم زعموها قرآنية مستمدة من القرآن، كما سمعنا كلاماً كثيراً أورد فيه أصحابه مفاهيم ومعاني زعموها قرآنية، مستمدَّة من آيات معينة، وقَبِل بعض الناس بهذا التحريف، وهذه النتائج والمفاهيم.
وحرصاً منّا على بقاء مفاهيم القرآن كما هي في كتاب الله، وعلى الفهم الصحيح لآيات القرآن، وقياماً منّا بواجب الحراسة على حسن الفهم للقرآن، وواجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، وواجب تقديم العلم الذي نراه نافعاً للآخرين، فإننا سنورد نماذج حرَّفوها، واستنبطوا منها أحكاماً ومفاهيم زعموها قرآنية.
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ).
الفهم المغلوط للآية
تسجل هذه الآية حجة العصاة والمذنبين في الدفاع عن أنفسهم وهم يرتكبون الفواحش، وتبرير ارتكابهم لها.
إذا فعلوا فاحشةً قالوا: وجدنا عليها آباءنا، أي أن هؤلاء مقلِّدين للآباء والأجداد، أسرى للعادات والتقاليد، مقيَّدين بالواقع الذي وجدوه وعاشوه، فكلما وجدوه أمامهم فهو مقبول، أليس آباؤهم الذين يقدِّرونهم فعلوه؟.
وهذا التحريف المفضوح والتبرير المرذول، يهون أمام ما يقولونه بعد ذلك: “وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا! “.
الله أمرنا بهذه المعصية وهذه الفاحشة، الله قدَّرها علينا، والله كتبها علينا، والله طلبها منا، وأرادها منّا. أليس الله على كل شيءٍ قدير؟ فإذا كان لا يريد هذه المعصية، فلماذا لم يَحُل بيننا وبين فعلها؟ ولماذا لم يمنعنا منها؟ أليس كل ما نفعله بقدر، والله الخالق لكل شيء؟ إذن الله هو الذي قدَّر فعل الفاحشة علينا. أليس كل ما يحدث في الكون إنما هو بإذن الله وإرادته ومشيئته؟ ووفق أمره؟ إذن الله هو الذي أمرنا بفعل هذه المعاصي والفواحش، أمرنا بالكفر والشرك والضلال!
وقد أشار القرآن في موطنٍ آخر إلى كلام الكافرين والمشركين، في تبرير ذلك منهم، وإحالة ذلك على إرادة الله ورضاه وأمره وقدره: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ).
هذه هي سمة المشركين والكافرين وطبيعتهم، إنهم يُسندون كفرهم وشركهم وضلالهم إلى أمر الله ورضاه ومشيئته، في أي زمان ومكان، حتى لو كانوا في القرن العشرين.
وهذه هي سمة العصاة والمذنبين وطبيعتهم، إنهم يُسندون الإذن بالمعاصي والفواحش إلى الله، ويزعمون أنه هو الذي أمرهم بها، وطلبها منهم، ورضيها لهم.
والعصاة والمذنبون في هذا الزمان يقومون بهذا الزعم والمغالطة والتحريف والتبرير. وإن الإنسان المسلم البصير ليتساءل بعجب واستغراب: ما بال الكافرين ورب العالمين؟ وطالما أنهم كفروا بالله، فلماذا يتحجّجون بإرادته وقدره ومشيئته؟ ..
وإن هذا المسلم البصير يتساءل بعجب واستغراب: ما بال العصاة ورب العالمين؟ ولماذا يلجأ هؤلاء في تبرير معاصيهم وفواحشهم وانحلالهم إلى مشيئة الله وقدَره ورضاه؟ أليسوا قد تجرَّأوا على الله واستهانوا بأوامره وأحكامه؟ أليسوا قد ارتكبوا ما نهاهم عنه؟ وأي تعظيمٍ لله بقي عندهم؟ وأي شعور بخشية الله والحياء منه بقي في قلوبهم -إن كانت لهم قلوب-؟
وهل يريد هؤلاء أن يضيفوا إلى هذه الفواحش والذنوب والكبائر، ذنوباً وفواحش وكبائر جديدة -لعلّها أشدّ فُحشاً من تلك-؟ هل يريدون أن يضيفوا إلى قلّة الحياء وموت القلوب، الافتراء على الله والتحريف لكلامه؟ أم أن الأمرين متلازمان؟ فكل من تجرّأ على مقام ربه استهان بكلامه وافترى عليه؟؟.
المهم أن نلجأ نحن إلى القرآن، في ردّه على تحريف هؤلاء لكلام الله، وافترائهم على الله، وإسنادهم ارتكابهم المعاصي إلى رضى الله!.
قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف:28-30].
الفهم الصحيح للآية
وبإمعان النظر في الآيات، واستخلاص طريقتها في إبطال مزاعم العصاة، نجد ما يلي:
1 – إن الله لا يأمر بالفحشاء. إن زَعْمَ هؤلاء كذبٌ على الله وافتراء عليه، وإنه لا يتفق مع صفات الله وأسمائه، ولا مع فعله وأمره.
2 – إنهم كاذبون على الله، مفترون عليه، لأن الله قد أبطل كلامهم ورده، وأكذبهم فيه.
3 – إنهم لا يتصفون بعلم، فهم يقولون على الله ما لا يعلمون.
وكلامهم السابق يصنَّف ضمن هذا، إنه ناتج عن عدم علمهم باللهِ وصفاته وأفعاله، ولذلك فهو جهلٌ محضٌ، وخطأٌ ظاهر، لا يملكون حجةً ولا برهاناً ولا دليلاً.
4 – فإذا كان قد أكذبهم، وأبطل زعمهم، وبيَّن أنه لا يأمر بالفحشاء أبداً. فما هو الذي يأمر الله به ويريده، ويطلبه من المخلوقين؟
إنه القسط والعدل والحق والصواب، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْط).
إنها العبادة والطاعة والإخلاص والتضرع إلى الله (وَأَقيموا وَجوهَكُمْ عِنْدَ كُلً مَسْجِد وَادْعوُه مُخْلِصينَ لَهُ الدّين).
5 – إن هؤلاء العصاة والكافرين متبعون للشيطان لا للرحمن، منقادون للشيطان وتعاليمه، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون. إن الشيطان هو الذي أمرهم بالفواحش والمعاصي والكفر والضلال، فلماذا يُسندون هذا الأمر إلى الله الذي لا يأمر بالفحشاء؟.
كيف عرفوا أن الله أمرهم بالفحشاء؟
هل اطَّلعوا على الغيب؟ هل قرأوا ما في علم الله وقدره ومشيئته؟ هل وقفوا على ما قدَره الله عليهم في اللوح المحفوظ؟ إن هذا كله مستحيل. وقد أبطل القرآن مزاعم هؤلاء في موضع آخر:
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام:148-149].
1 – إنهم كاذبون في هذا القول.
2 – إنهم تابعون للكاذبين من قبلهم. فالذين من قبلهم من الكافرين زعموا هذا الزعم، وافتروا هذا الافتراء.
3 – إن الله ما أراد منهم الكفر، ولا رضي لهم الشرك، لا هم ولا الذين من قبلهم.
4 – والدليل على أن الله ما رضي لهم ولا لمن قبلهم الكفر والشرك، أن الله قد عذّب السابقين الكافرين، وأوقع بهم بأسه وانتقامه، وحصل لهم بسبب كفرهم وشركهم التدمير والهلاك. وأنَّ الله سبحانه عادلٌ في أفعاله وقضائه، فلو رضي منهم الكفر وأراد لهم الشرك، لما عذّبهم ودمّرهم. وطالما علمنا علم اليقين أنهم قد عُذِّبوا ودُمَّروا وأهلكوا، وعلمنا علم اليقين أنه بسبب كفرهم وشركهم وضلالهم، علمنا علم اليقين أن الله ما رضي منهم الكفر والشرك والضلال، ولا طلبه منهم، ولا أمرهم به.
5 – إنهم في كلامهم السابق لا يصدرون عن علم، ولا يملكون عليه حجةً ولا دليلاً ولا برهاناً، فإذا كان كذلك فكيف يقبلون هذا الكلام؟ ويصدِّقون أنفسهم فيه؟.
6 – إنهم في هذا الزعم الباطل متبعون للظن الخادع، والتخريص الواهمٍ، والحدس المضلّل، والتخمين المشكّك، فكيف يجعلون هذا علماً وحجة، ويزعمون بها النجاة يوم القيامة.
الإِنسان هو الفاعل لما يختار
قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الزمر:7].
وهذه الآية هي بيانٌ لما يرضاه الله وما يأمر به. وتقريرٌ لما يليق به سبحانه في هذا الموضوع -ارتكاب المحرمات والمعاصي والذنوب-.
إن الإِنسان هو الفاعل لما يختار. فهو الذي قد يقوم بالكفر والمعصية والفاحشة -ونلاحظ الفاعل في فعل ” تكفروا “- فإذا فعل ذلك، فإنه لن يضر الله بجريمته، لأن الله غنيٌّ عنه، وسبحان من لا تضرّه معصية!.
ثم إن الله لا يقبل من هذا كفره وفجوره ومعصيته، ولا يرضاه -ونلاحظ الفاعل في فعل ” لا يرضى لعباده “- فالإنسان هو الذي يختار الكفر، والله هو الذي لا يرضاه له.
أما إذا اختار الإنسان الإيمان والطاعة، وقام بالشكر لربه -فهو فاعل ” تشكروا “- فإنه ينال بذلك رضوان الله، لأن الله هو الذي يرتب عليه الرضى -فهو فاعل ” يرضه ” والمفعول به هو الشكر- ويحقق له القبول، ويفيض على عبده الشاكر ما يفيض من رضوانه وتوفيقه وإنعامه.
إن الله خلق الإنسان مزدوج الاستعداد، عنده استعدادٌ للسير في طريق الخير، واستعدادٌ للسير في طريق الشر. (إِنّا هَدَيْناهُ السبيل إِمّا شاكِراً وَإِمْا كَفوراً)، وإن الله جعل فيه القدرة على اختيار أي الطريقين، ومتابعة السير فيها. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10] -وَنَدعو إلى إمعان النظر في الأفعال الستة، وملاحظة الفاعل في كل فعل منها، وتوظيف هذا في استخلاص لفتات إيمانية عقيدية في موضوع الهدى والضلال-.
وما تشاءون إلا أن يشاء الله
وهذا الإنسان في اختياره لجانب الهدى أو الضلال، لن يخرج عن مشيئة الله سبحانه وعلمه، فإن الله هو الذي شاء له ذلك، وعلم ما سيقوم به:
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإنسان:29-31].
إنه لن يخرج عن مشيئة الله، لأنه لا يقع في الكون شيء إلا بعلم الله ومشيئته سبحانه -وإلا ما كان إلهاً- فهو الخالق لكل شيء: (إِنّا كل شَيْء خَلَقْناه بِقَدَر).
ولهذا: فهو شاء كُفْر هؤلاء وشركهم، بمعنى أنهم لم يفعلوه رغماً عنه -سبحانه- ولا أنه لم يكن عالماً بما سيختارونه – سبحانه -: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) .
كل شيء يحدث -ومنه كفر الكافرين ومعصية العصاة- فبمشيئة الله سبحانه الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولكن مشيئة الله لها مظهران وجانبان:
1 – مشيئة العلم: بمعنى علم الله بما سيكون، وما سيفعله هذا الإِنسان من خير أو شرّ، قبل أن يفعله هذا الإِنسان، وكون هذا الفعل في مشيئة الله وعلمه وتقديره قبل أن يخلق الكون وما فيه ومن فيه. وعلى هذا نحمل هذه النصوص:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
2 – مشيئة الرضا: بمعنى رضى الله عن ما يفعله الإنسان وقبوله له، وأمره به وطلبه منه، فهذه لا تكون للكافرين والعصاة وأصحاب الذنوب والفواحش، بل تكون للمؤمنين الشاكرين العابدين (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).
المصدر
” تصويبات في فهم بعض الآيات” للشيخ صلاح الخالدي، ص154-161.
اقرأ أيضا
تصويبات في فهم بعض الآيات: (ادع إلى سبيل ربك)