تربية الطفل يُرجى منها خير كثير في الدنيا والآخرة، وللثواب والعقاب أصول وضوابط، وقاعدته طلب صلاح الولد لا الانتقام؛ فالإسلام منهج تربوي شامل.
مقدمة
يعمل الإنسان عمره ليربّي من يخلُفه في عمارة الأرض، ويعمل المؤمن للهدف نفسه لكن لعمارة الأرض بمقتضى منهج الله؛ فكأن المسلم يعمل ليُبقي خلفه من يعبد الله، فيخلفه في عبادة الله ورفعة منهج الله.
والولد ـ ابنا كان او بنتا ـ هما الزرع الذي يسقيه عمره، ويحفظ فيه جهده، ليختطّ تحت عينه ملامح نفوسهم وقسَمات شخصياتهم.
وهما من أوجب الواجبات العينية عليه؛ إذ إنهم تحت عينه وولايته ولا يحول بينه وبينهم في التربية حائل ـ هكذا تُفترض الأمور.
كنز الحسنات
وإذا كان الله تعالى يكتب للعبد ما عمل من عمل وما ترك من أثر ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ﴾ (يس: 12)؛ فما علّمت من ولد أو بنت، فعلّم ولده عقيدته وقيمه وتعبده وصلاته وتسبيحه، فقد أبقى جيلا من بعده، والبنت كنز تعلّم أجيالا وتتسبب في إقامة أُسرٍ من ذريتها؛ فوجب البحث عن حسن التربية؛ فإنهم كنوزٌ تأتيك حسناتهم وآثار عملك فيهم وأنت في قبرك؛ فحُق لك الاهتمام العظيم بالتربية.
وهنا ننظر في ملامح مهمة في طريقة أو “فن” الثواب والعقاب للطفل أثناء تربيته، واعتبار اختلافهم شخصياتهم واختلاف أخطائهم وما هو الأفضل في حقهم.
ملامح في الثواب والعقاب
إن إثابة المحسن على إحسانه، وعقاب المسيء على إساءته مبدأ إسلامي أصيل لقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]، وقوله جل من قائل: ﴿وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: 40].
أنواع الثواب
عندما نحاول أن نغرس العادات الطيبة لابد من مكافأة الطفل على إحسانه للقيام بعمل بما يثبّت في نفسه جانباً من الارتياح الوجداني.
وقد قدّر السلف أهمية ترغيب الأبناء وثوابهم عند حسن استجابتهم.
ومن ذلك ما رواه النضر بن الحارث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول، قال لي أبي:
“يا بني اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا”.
والثواب قد يكون مادياً ملموساً كإعطاء الطفل لعبة، أو حلوى أو نقوداً أو، وقد يكون معنوياً يفرح له كالمدْح والابتسام، والاعتزاز بالطفل لعمله الطيب أمام الناس؛ إلا أن عدم الغلوّ في المدح أدب إسلامي، فلا يُكثر المربِّي من عبارات الاستحسان حتى لا يدخل الغرور في نفس الطفل.
كما أنه لا يجعل الثواب المادّي هو الأساس، لما لذلك من أثر سيئ على نفسية الطفل مستقبلاً، وإنما يوازي بين الثواب المادي والثواب المعنوي.
العقاب وأنواعه
إن التربية لا تعني الشدة والضرب والتحقير ـ كما يظن الكثير ـ وإنما هي مساعدة الناشئ للوصول إلى أقصى كمال ممكن.
هذا وإن ديننا الحنيف رفع التكليف عن الصغار، ووجَّه إلى العقاب كوسيلة مساعِدة للمربي ليعالج حالة معينة قد لا تصلح إلا بالعقاب المناسب الرادع، وذلك بعد سن التمييز كما يبدو من الحديث النبوي الشريف: «مُروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر».
ونستشف من هذا الحديث الشريف أن الضرب من أجل تعويد الطفل الصلاة لا يصح قبل سن العاشرة، ويحسُن أن يكون التأديب بغير الضرب قبل هذه السن.
مدى شدة العقاب
وأما نوعية العقاب فليس من الضروري إحداث الألم فيه، فالتوبيخ العادي الخفيف، ولهجة الصوت القاسية مثلاً يحُدثان عند الطفل حسنَ التربية؛ نفس التأثير الذي يحدثه العقاب الجسمي الشديد عند من عوِّد على ذلك.
وكلما ازداد العقاب قل تأثيره على الطفل، بل ربما يؤدي إلى العصيان وعدم الاستقرار؛ فالعقاب يجب أن يتناسب مع العمر، إذ ليس من العدل عقاب الطفل في السنة الأولى أو الثانية من عمره، فتقطيب الوجه يكفي مع هذه السن، إذ أن الطفل لا يدرك معنى العقاب بعد، وفي السنة الثالثة قد تؤخذ بعض ألعاب الطفل لقاء ما أتى من عمل شاذ.
ولا يصح بحال أن يكون العقاب سخرية وتشهيراً أو تنابزاً بالألقاب، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] [الحجرات: 11].
أين هذا التأديب الرباني ممن ينادون أبناءهم: “يا أعور”، “يا أعرج”؛ فيمتهنون كرامتهم.. أو يعيّرونهم فيجرئونهم على الباطل بندائهم: “يا كذاب”، “يا لصّ”.
حدود ضرب المربين للصبيان
وفي ضرب المربّين للصبيان حدد فقهاؤنا حدوداً لا يجوز للمربِي تجاوزها.
إذ يلزمه أن يتقي في ضربه “الوجهَ” و”مكان المقاتل”.
لما ورد في صحيح مسلم أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه».
وينبغي أن يكون الضرب مفرَقاً لا مجموعاً في محل واحد، والمهم أن يكون ثباتاً في المبدأ ومساواة بين الأولاد وعدلاً بينهم، لأن العقوبة الظالمة لا تجلب إلا الضرر.
كما وأن الخطأ الذي يحدث للمرة الأولى يحسُن أن يخفف فيه العقاب، إلا إن كان الخطأ فادحاً فلا مانع من استخدام العقاب الأشدّ حتى لا يستهين الطفل بالذنب.
وإذا وقع العقاب من أحد الأبوين، فالواجب أن يوافقه الآخر، وإلا فلا فائدة من العقاب، مع إشعار الطفل بأن العقاب ليس للتشفّي وإنما لمصلحته، وإن شعور الطفل بخلاف ذلك قد يحدث انحرافاً معيناً في نفسه، وهو أن يتعمد إثارة والديه، ليستمتع بمنظر هياجهما وثورتهما عليه..! ويحسّ بالارتياح الداخلي، لأنه وهو الصغير استطاع أن يثير أولئك الكبار ويزعجهم؛ وعندئذ تكون الخسارة مزدوجة فالعقوبة لم تؤدّ غرضها في الإصلاح، وزاد في نفس الطفل انحراف جديد هو تحقيق الذات عن طريقٍ غيرِ سوي.
ونود أن نؤكد على أن العقاب يجب أن يتلو الذنب مباشرة، وألا يكون من “الخفة” بحيث لا يُجدي، أو من “الشدة” بحيث يشعر بالظلم أو يجرح الكبرياء. ويتضح أن الأطفال “المنبسطين” يضاعِفون جهودهم عقب اللوم في حين أن “المنطوين” يضطرب إنتاجهم عقب اللوم. و”مطّرِد التعلم” ـ أي النبيه المجتهِد ـ يحفّزه الثناء أكثر من النقد.
والمربي بحسن حكمته يضع الأمر في نصابه عادةَ.
أيهما أفضل الثواب أم العقاب؟
إن نتائج التجريب على “الحيوان” توضح أن كلاً من الثواب والعقاب يؤدي إلى زيادة في التعليم؛ ولكن الدراسات الإنسانية توصِي بضرورة الاهتمام بقضية “الثواب” و”الاستحسان”، وتركز على الثواب لعدة أسباب. منها:
“الأثر الانفعالي السيئ” الذي يصاحب العقاب، أما “الاستحسان” ففيه توجيه بنّاء لطبيعة السلوك المرغوب فيه أكثر من مجرد معلومات سلبية عن الأشياء التي يجب أن يتجنبها.
وقد ندّد “ابن خلدون” في استعمال الشدة في التربية فقال:
“من كان مَرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به إلى القهر، وضيَّق كل النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمله إلى الكذب خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة”. (1مقدمة ابن خلدون، ص538-539)
ومن كلام “سحنون” الفقيه في وصيةٍ لمعلم ابنه:
“لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، وليس هو ممن يؤدَّب بالضرب أو التعنيف”. (2محمد بن سحنون، آداب المعلمين، ملحقة في كتاب التربية في الإسلام، أحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف دت، 354)
ولعل أجْدى الطرق التي ينبغي اتباعها مع الصغار هي ما ذهب إليه “ابن مسكويه” في الموازنة بين الثواب والعقاب يقول في ذلك:
“ليُمدح الطفل بكل ما يُظهر من خلقٍ جميل وفعل حسن ويُكرَم عليه، وإن خالف في بعض الأوقات لا يوبَّخ ولا يكاشَف بل يتغافل عنه المربي، ولا سيما إن ستر الصبيُّ مخالفته؛ فإن عاد فليوبَخ سراً، ويعظَّم عنده ما أتاه ويُحذَر من معاودته؛ فإنك إن عودته “التوبيخ” و”المكاشفة” حملته على “الوقاحة” “. (3تربية الإطفال بين الثواب و العقاب/ عمر السبع)
فالعقاب ليس الوسيلة المجدية؛ إنه قد يؤدّي إلى كفّ الطفل عن العمل “المَعيب”؛ لكن لن يؤدِّي إلى حبه للخير المطلوب؛ ومن ثم سيعاود الطفل ما منعه عن إثبات ذاته، وإغضاب الآخرين، فضلاً عن أنه يعوّده البَلادة والوقاحة. فالترغيب عموماً أفضل من الترهيب، والاعتدال هو الميزان.
خاتمة
فيما سبق يتضح معنى في غاية الأهمية؛ وهو أن “الثواب والعقاب” ليس قائما على التشفي الشخصي؛ فيخرج الناس أضغانهم وأمراضهم النفسية وكبتهم الداخلي وضغوط الحياة في الانتقام من طفلٍ؛ متمثل في خطأ ارتكبه.
بل بالثواب والعقاب قائم على قصد إصلاح هذا المخلوق، وحُسن تربيته، والنصح في شأنه وتأدية الأمانة في حقه، وتوفية ما أمر الله به من واجبات نحوه. ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان: 74)
فحسن القصد يجب أن يرافق حسن العمل؛ والله تعالى هو الهادي الى صراط مستقيم.
…………………………………
الهوامش:
- مقدمة ابن خلدون، ص538-539.
- محمد بن سحنون، آداب المعلمين، ملحقة في كتاب التربية في الإسلام، أحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف دت، 354.
- تربية الإطفال بين الثواب و العقاب/ عمر السبع.
المصدر:
- محمد الناصر، مجلة البيان،جمادى الأولى – 1411هـ،ديسمبر – 1990م، (السنة: 5).