حذّر الله ورسوله من الاختلاف والتفرق.. وأخبر الله تعالى أنه قد يصل الى التفرق المطلق والكفر بعد الإيمان وسواد الوجه يوم القيامة.. وأخبر رسول الله أنها الحالقة التي تحلق الدين، وهي فساد ذات البين.. وهذا المقال أحد المعالجات لهذه الآفة التي أضاعت قوة المسلمين ومجدهم.
إحراق الأمة لمصالح الطغاة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
إنَّ مِن أكثر ما يُضعِف هذه الأمَّة وينخر فيها هو الصِّراعات بين أفراد المجتمع الواحد؛ بل والتوجُّه الواحد، وهذا ظاهر بقوَّة في زماننا هذا، وفي عموم مجتمعاتنا الإسلامية..
وإن مما لا شكَّ فيه أنَّ ثمة أيادٍ خفيَّة تؤجِّج هذه الخلافات والصراعات لمصالح شيطانية لتيسير سبيل الطواغيت للتحكُّم في مصائر أمَّتنا وشعوبنا المغلوبة على أمرها..
ولكن ذلك لا يعفي المسلمين من الإثم إن هم استسلموا لنفث عدوِّهم بتأجيج هذه الصراعات بينهم؛ حيث تظاهرت النصوص وتكاثرت بالأمر بالوحدة، وعدم التفرُّق والاختلاف، بما يمكننا أن نقول: إنَّه من المعلوم من الدِّين بالضرورة..
صور حديثة للاختلاف والتفرق
وهذه الأيادي الخفيَّة ـ المذكورة ـ هي في حقيقة الأمر ظاهرة لمن أنصف وأحب أن يراها، وهي متلبِّسة بصورٍ مختلفة من صور القومية والحرص على الأمَّة والمجتمع والجماعة والقبيلة وعرض الرأي والحرية ونحوها، وصور أخرى كثيرة حصرها بعيد المنال..
ولا مانع عندهم أيضًا من لباس جلباب الإسلام للترويج لأهدافهم الخبيثة..
إنَّ مَن يعين الطواغيت على فجورهم وظلمهم وتعدّيهم وتفريق كلمة المسلمين يرتكب بذلك جريمة عظيمة في حقِّ نفسه أوَّلًا ثمَّ في حقِّ أمَّته..
وقد أخبر النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، عن هذا الصنف من الناس..
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء». قال: وما إمارة السفهاء؟
قال: «أمراء يكونون بعدي؛ لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنَّتي؛ فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منِّي ولست منهم ولا يردون عليَّ حوضي، ومن لم يصدِّقهم بكذبهم ولم يُعنْهم على ظلمهم فأولئك منِّي وأنا منهم وسيردون عليَّ حوضي».(1)، وبالمعنى نفسه جملة أحاديث عن النعمان بن بشير وحذيفة وخباب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم مرفوعة.
ومثله ـ أو قريب منه ـ حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من أعان ظالمًا بباطلٍ ليدحض بباطله حقًّا فقد برئت منه ذمَّةُ الله وذمَّةُ رسوله».(2)
وصور إعانة الظالمين كثيرة تكلّمنا عنها مرات من قبل، وما نحن بصدده هنا الكلام عن إعانة الطواغيت بتأجيج الصراعات بين الأمَّة الواحدة والشعب الواحد بعضه على بعض؛ مثل أولئك الإعلاميين الفجرة وكُتَّاب المواقع الإلكترونيَّة ونحوهم.
الخروج من اليأس والإحباط
إنَّ شدَّة الاختلاف الحاصل اليوم بين المسلمين قد تصيب البعض باليأس والإحباط؛ لرؤيتهم صعوبة الاجتماع ووحدة الكلمة..
لكنَّ الحلَّ موجود ـ ولله الحمد ـ أرشد له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو لزوم سنَّته والتمسك بها فهي طريق السلامة من الزلل والوقاية من الفتن في كل ِّحال..
عن الْعِرْبَاض، رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟
فقال «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».(3)
ولنا في أمَّة العرب في جاهليتها أعظم عبرة فقد كانت أمَّة مستباحة مستضعفة ـ من الفرس والروم خاصة ـ بسبب فرقتها؛ فلما جمعها الله تعالى بالإسلام وتوحدت كلمتها؛ سادت أمم الأرض، وارتفع شأنها.. ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل :41).
تحذير مشابهة المتفرقين قبلنا
وكذلك كان حال أهل الكتاب من الفرقة والاختلاف؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾. (البينة:4).
ففقدوا بسبب تفرقهم واختلافهم التفضيلَ على العالمين، وجرت بين طوائفهم المتفرقة في دينها حروبٌ طاحنة أفنت بشرًا كثيرًا..
وقد نهانا الله تعالى أن نسلك مسلكَ الفريقَين ـ المشركين وأهل الكتاب ـ في الفرقة؛ فقال عزَّ وجلَّ بشأن المشركين: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾. (الروم:31 – 32)
وبشأن أهل الكتاب: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾. (آل عمران:105)
وبرّأ اللهُ تعالى نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن فرَّقوا دينهم ؛ فصاروا شيعًا وأحزابًا متناحرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾. (الأنعام:159)
ثم بيَّن لنا الله تعالى عظيم منَّته على نبيِّه محمَّد، صلى الله عليه وسلم، بهدايته للشريعة القويمة بعد اختلاف وتفرق بني إسرائيل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. (الجاثية :16- 18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
“أخبر سبحانه أنَّه أنعم على بني إسرائيل بنِعَم الدين والدنيا، وأنَّهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض.
ثم جعل محمَّدًا، صلى الله عليه وسلم، على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾: كلُّ مَن خالف شريعته…”.اهـ(4)
فهذه الآيات ـ وغيرها كثير ـ ترشد إلى ترك التشبه بالكفَّار في اختلافهم وتنازعهم وأهوائهم، وأنَّ ذلك من المقاصد والغايات التي جاء بها القرآن الكريم. وكلُّ مَن خالف الشريعة الربانية فهو متوعَّدٌ بمثل ما حصل لأهل الكتاب.
والاختلاف سبب الهلاك والعياذ بالله؛ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «… ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهَلكوا».(5)
ولتعرفنهم في لحن القول
فعلى عموم المسلمين التمسُّك بما جاء في الكتاب والسنَّة والاعتصام بهما؛ ففيهما النجاة من كافَّة الشرور ـ الاختلاف وغيره ـ ومَن تغافلَ ذلك هلَكَ والعياذ بالله..
وليتنبَّه كلٌّ منَّا لِلُغَة المتحدِّثين؛ فمَن تكلَّم بدينٍ وعلمٍ بالشريعة فهو أجدر أن يُتَّبَع ما لم يخرج عن الإجماع أو يخالف طريقة أهل السنَّة والجماعة في فهم النصوص..
ومَن كانت لغتُه المصلحة الدنيوية والمنفعة الوقتيَّة بعيدًا عن الحدود الشرعيَّة فهو عدوٌ يجب ألَّا يُسمَع له..
جمع الله ـ عزَّ وجلَّ ـ كلمةَ المسلمين على الحقِّ المبين..
………………………………………………
هوامش:
- رواه أحمد (3/ 321) وغيره وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (2242).
- أخرجه الحاكم وغيره , وحسنه الألباني في صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة (1020).
- أخرجه أبو داود (4609) وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549).
- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1/85-86).
- رواه البخاري (3476).
اقرأ أيضا: