68 – مفهوم 8: بدعة التفويض والرد عليها
يلجأ الأشاعرة إلى تأويل الصفات -كما أسلفنا- بدعوى تنزيه الله عزّ وجلّ عن أن يشبه شيئًا من مخلوقاته، فإذا عجزوا عن تأويل الصفة لجأوا إلى التفويض؛ وهو أن يقولوا نفوض الأمر في المقصود بهذا الوصف إلى الله تعالى؛ فهو أعلم بمراده بذلك، ويفعلون ذلك أيضًا بدعوى التنزيه؛ يقول صاحب كتاب «الجوهرة» -وهو أشعري المذهب-:
وكلُ نصٍّ أوْهَمَ التشبيهَ * * أوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيها
ويزعمون أن التفويض هو عقيدة السلف، وأنه الأولى في حق من لم يقدر على التأويل وآثر السلامة؛ ولهذا يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقد وقعوا بقولهم هذا في ضلالتين كبيرتين:
1 – أساؤوا الظن بالسلف، وجعلوا أنفسهم أعلم منهم وأحكم؛ وهل يكون من تلوَّث فكره وفهمه بأقوال الفلاسفة والمناطقة أعلم وأحكم ممن عاصر تنزيل الكتاب الكريم وتلقَّى معانيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن رب العالمين؟!
2 – هذا التفويض -المنسوب زورًا إلى السلف- هو في حقيقته عيٌّ وعجز، وفيه سوء ظن بالله عزّ وجلّ الحكيم الخبير، واتهام له سبحانه بالعبث مع خلقه ومخـاطبتهم بكلام عسير لا يفهمونه ولا يمكنهم تدبره وعقل معانيه؛ والله عزّ وجلّ يقول: (وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ) [القمر:17]، وتيسير القرآن للذكر يشمل: تيسير ألفاظه للحفظ، وتيسير معانيه للفهم، لا مخاطبة الناس بما يقتضي العجز والتفويض، وتيسير أوامره ونواهيه للامتثال [ينظر: الصواعق المرسلة لابن القيم، تحقيق علي الدخيل الله (1/232)]، ومن أراد من المخاطب ألا يفهم كلامه، أو يفهمه بما يدل على خلافه بالتأويل المزعوم فقد عامله بأشد التعسير ولم يكن مُيَسِّرًا.
ويقول الله عزّ وجلّ أيضًا: (كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ) [ص:29]، ويقول: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ) [محمد:24]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك القول في عقل الكلام؛ فالله عزّ وجلّ يقول: (إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) [يوسف:2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه.
أمَّا إعجاز القرآن الكريم فليس المقصود به عدم فهمه وعدم عقل معانيه، بل المراد به إفحام الفصحاء، وإعجاز البلغاء عن أن يأتوا بمثله رغم كونه جاريًا على أساليب كلام العرب، مُيَسَّرًا للفهم والإدراك والتدبر.
المصدر: كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة – إعداد نخبة من طلبة العلم – 1445