إن الناظر لمشاهد قسوة إسرائيل في تعاملها مع غزة وفلسطين، وفي محاصرة المنكوبين تحت وطأة الحرب المزرية دونما عون خارجي من دويلات الجوار. يطرح السؤال الآتي من أي رحم تمخضت هذه القسوة الاستكبارية حتى فرخت بيوض الاستبداد المقيتة في أمة الإسلام؟
تاريخهم دموي
يحصي التاريخ البشري أعدادا مهمة من مجرمي الحروب وحرب الإبادة الجماعية، لكن لم يصل أحدهم إلى الشناعة المروعة مثلما فعلت وتفعل اليوم الآلة الصهيونية لأطفال ورضع فلسطين وأكنافها. من قبل في قرية قانا جنوب لبنان وفي سيناء، بعد نكبة 1948 التي سلمت فلسطين للمحتل الغاصب انتهكت فيها مذابح بالجملة، ” استخدمت المجازر سلاحا لترهيب السكان الفلسطينيين وتهجيرهم من بيوتهم وقراهم، دمرت خلالها نحو 400 قرية وتم محوها بالكامل. وفي أبريل ارتكبت مجزرة قرية دير ياسين الواقعة غرب مدينة القدس، وراح ضحيتها حوالي 250 أغلبهم من كبار السن والأطفال والنساء”1[1] مقال “أبرز المجازر التي اتهمت إسرائيل بارتكابها في فلسطين والدول المجاورة.” يورونيوز نشر في 20 أكتوبر 2023. وبعدها كفر قاسم واللد التي تراكمت فيها الجثث في الشوارع وأهملت تحت الشمس. وخان يونس، والأقصى في تسعينيات القرن الماضي، وتبقى اللائحة طويلة مريرة.
ويتكرر مشهد المجازر في غزة في أكتوبر 2023 للميلاد، تسطرها لأجيال اليوم والغد معركة طوفان الأقصى حيث أثخنت قاصفات الصواريخ الجوية الصهيونية تقتيلا في المدنيين. ويستمر العنف الدموي في القطاع المحاصر من أبسط الضروريات يستأصل الإنسان، وكرامة وحق الإنسان في العيش الكريم، في أرضه ووطنه. كلما غضبت غضبتها اتجاه شموخ المقاومة المقدسية في غزة وفلسطين، تمعن في سفك دماء الأبرياء والأطفال، بل تمحو أسرا كاملة من السجل المدني يرتقون شهداء عند ربهم يرزقون.
الصهيونية الدينية المتطرفة وقود الحرب على غزة
لا ريب أن العلو المفسد قد رضع لبان القسوة من الصهيونية الدينية المتطرفة، التي عملت على تسريع مشاريع التهويد وحلم الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وتتزعم الاقتحامات ودعم الاستيطان، وتدعم جرائم الاحتلال مادام يخدم أجندة وهم بناء إسرائيل العظمى حسب الرواية التلمودية المزورة. لا غرو أنها تحمل جينات قسوة بني إسرائيل زمن الأنبياء وخاصة كليم الله موسى عليهم السلام. ذاك وصفهم في القرآن هم القاسية قلوبهم، فلا مندوحة أن ينشروا هذا الحقد الدفين لمسلمي فلسطين والعالم.
مجازر الأطفال والأشلاء الطرية تحرك ضمائر إنسانية الغرب
هبة واسعة انتشرت عبر العالم، يرى مجازر الأطفال والأشلاء الطرية يحملها الآباء والأمهات يجمعها المسعفون رجل من هنا ورأس مبتور وأنصاف أجساد في ريعان الطفولة. ارتعبت ضمائر إنسانية الغرب -الشعوب أقول وليس الأنظمة- إلا اليسير منها على حين غفلة، فالمشترك الإنساني يباد، وقتل المواليد والعزل والنساء لا مبرر له دوليا أو دينيا. كشف طوفان الأقصى عن نوايا الاستكبار العالمي حين صرح بمساندته المطلقة لوحشية الاحتلال وهو يعسف فوق الأشلاء ودماء المستضعفين من الولدان والنساء في غزة الأبية. قطع الإمدادات عنها تحت إمرة أمريكا التي تلعب دور شرطة العالم المعرقلة لمرور الإنسانية والعدالة والحرية. بل هي روح الصهيونية السياسية والاقتصادية المهيمنة، التي احتلت الكنائس البروتستانتية منذ أن حطت عتادها الاقتصادي عبر أغنى العائلات اليهودية الراعية للصهيونية. فكيف ستتحرك الإنسانية وتتيقظ الرحمة البشرية فيمن امتلك رقاب السوق والاستهلاك، والعروش والكراسي في الغرب الإسلامي والمشرق وكل الأصقاع؟
مشيمة القسوة
إن الناظر لمشاهد قسوة إسرائيل في تعاملها مع غزة وفلسطين، وفي محاصرة المنكوبين تحت وطأة الحرب المزرية دونما عون خارجي من دويلات الجوار. يطرح السؤال الآتي من أي رحم تمخضت هذه القسوة الاستكبارية حتى فرخت بيوض الاستبداد المقيتة في أمة الإسلام؟
لا بأس أن نصوب الرجعة إلى كلام الله عز وجل الفاضح لتركيبة اليهود في القرآن المهيمن على الكتب السماوية التي طالتها تحريفات وتدليس أحبارهم وعلمائهم. إنهم القاسية قلوبهم لا رحمة لهم اتجاه أنبياء من قومهم (بني إسرائيل) فكيف ترجى رحمة بعربي مسلم؟ إن جينات القسوة ظلت متوارثة عبر أجيال ترعرعت زمن الشتات والتيه بعد موسى عليه السلام، وفي الجلاء زمن النبوة الشريفة، ثم في مخابئ الجيتوهات في أوروبا منتصف القرن العشرين.
سورة البقرة تسرد سوء فعالهم، ومعاملتهم الله سبحانه ورسله الكرام تكذيبا ومكرا وخيانة
يقول الله عز وجل في سورة البقرة بعد أن سرد سوء فعالهم، ومعاملتهم الله سبحانه ورسله الكرام تكذيبا ومكرا وخيانة: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة:87]، وهذا التبرم عن الحق استمر حتى قيام الدعوة المحمدية في جزيرة العرب، “وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون حجة عليهم”2[2] تفسيرابن عاشور سورة البقرة 87، فلا نستغرب من معاداتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام وتأليب الكفار والمنافقين عليه، (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) [البقرة: 88] اعتراف بقسوة القلب والطبع عليه لسوء أفعالهم وإصرارهم وعنادهم للحق سبحانه.
صارت قلوبهم غير صالحة للأثر والتأثر بعد تراكم ذاك السوء الذي وصفه القرآن الكريم يقول سبحانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ) [البقرة: 74] “يورد الإمام الرازي في تفسيره أن القلب “صار صلبا غليظا قاسيا، فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير، إلا أن صفة الحجرية لما عرضت له صار غير قابل، وكذلك القلب لا يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر” تفسير الرازي. يستطرد الإمام رحمه الله: ” فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة وأصبح شبيها بالحجر” تفسيرالرازي. قسوة القلب صفة تحجب الرحمة والانصياع للحق والخوف من الله، وعكسها التشبث بالعتو والاستكبار والطغيان.
يصف القرآن قسوة بني إسرائيل بعد النقض المتتالي لعهود الله عز وجل وكتمان وتحريف كلامه. فهذه الصفة حلت تباعا وعطفا على تاريخ رصده القرآن من النقض والمكر بالمؤمنين وبالحق، فإن خانوا شريعة عيسى وموسى عليهما السلام فقد خانوا الله من قبل حين عتوا وتمردوا وقالوا لموسى عليه السلام: (أرنا الله جهرة) ثم خيانتهم له بعد ميعاد جبل الطور بعبادتهم العجل.
الجامع المشترك بين اليهود والكفار والمنافقين هو مرض القلب بالقسوة
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) يقول ابن عاشور رحمه الله: “زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة”3[3] التنوير والتحرير ابن عاشور. التي خصهم الله بها، (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). يحيلنا الإمام عبد السلام ياسين في كتابه سنة الله في تفصيله لقسوة القلب من التاريخ والوحي والواقع على تلك المجابهة بين أمة الإسلام وبين الصهيونية، وبين الجاهلية المتوحشة وبين أهل الإيمان القائمين بالحق، وكأنه يعيش أحداث طوفان الأقصى أن الجامع المشترك بين اليهود والكفار والمنافقين هو مرض القلب بالقسوة. يضيف رحمه الله أن: “قسوة القلب في سائر المواضع (في القرآن) خصت اليهود تفردوا عن طوائف الكافرين والمنافقين بذلك وبكون قلوبهم في أقسى درجات القسوة. واختص بنو إسرائيل من بين الأمم باجتماع الشر كله في قلوبهم. غلاف القلب ومرضها وقسوتها، زادوا على ذلك اللعنة والغضب”4[4]عبد السلام ياسين “سنة الله” 60. لقد نالوا استحقاق أن ينعتوا بـ “جرثومة الفساد في الأرض”5[5] عبد السلام ياسين “سنة الله” 60 الحاملة لجميع أوبئة الإفساد وأشرسها: وباء الاحتلال في فلسطين وسرطان التطبيع واختراق الأمة العربية والإسلامية.
يوقن المؤمن بسنة الله في مدافعة الحق للباطل، والرحمة الإنسانية لقسوة القلب وتحجره من قبل الصهاينة ومن والاهم من أهل النفاق. يرى مشاهد القسوة على الأجنة في بطون الأمهات الساحات وهي توأد قصفا وتنكيلا من مغتصب الأرض والهوية والدين، وتمعن كراسي المتفرجين من الأنظمة العربية التي استمرئت الخنوع للاستكبار كالقطيع السائم، يقدمون الولاء للعلو الصهيوني عبر منع المسيرات الشعبية المنددة أو ينزعون كوفية فلسطين من أكتاف الشباب المسلم العاشق لقضية فلسطين.
المسلمون أمة واحدة
يعيش المسلمون ألم قسوة المشاهد الدموية اليومية في شهر أكتوبر من عام 2023. يخففونها بالقنوت تارة وبالخروج للتنديد فييرغون ويزبدون هل من سامع يوصل الصوت، رغم الاضطهاد والمنع الذي يتعرضون له بين الفينة والأخرى. بين فترات وأخرى تبزغ بوارق النصر وأن الله موهن كيد الكافرين. تهديه المقاومة الفلسطينية الباسلة عبر شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعية لأحرار الأمة المهتمين بأقصاهم السليب.
نخلص إلى أن هذه القسوة تنبعث من جبن وحرص على البقاء بعد بزوغ فجر الزوال، أي نعم هي حافزهم للقتال “يستميتون فيه كما نشاهد في عصرنا، لكن الهلع الآتي من مرض القلب وخوائه من الإيمان تجعل الواحد منهم أشد الناس خوفا وأعجزهم عن المواجهة إلا إن كان في عصبة من قومه ووراء حصن من حجر كما كان في العهود السابقة”6[6] عبد السلام ياسين “سنة الله” 59..
الهوامش
[1] مقال “أبرز المجازر التي اتهمت إسرائيل بارتكابها في فلسطين والدول المجاورة.” يورونيوز نشر في 20 أكتوبر 2023
[2] تفسيرابن عاشور سورة البقرة 87
[3] التنوير والتحرير ابن عاشور.
[4]عبد السلام ياسين “سنة الله” 60
[5] عبد السلام ياسين “سنة الله” 60
[6] عبد السلام ياسين “سنة الله” 59.
المصدر
موقع منار الإسلام، بقلم: بشرى بوطيب.