النصر في القرآن

إن مفهوم النصر في القرآن يتمثل في إعانة الله لعباده المؤمنين بنشر فكرتهم، ورفع رايتهم، وإظهار حجتهم، وثبات أقدامهم، وإفشال مخططات أعدائهم، والشهادة في سبيل دينهم، أو التمكين لهم في الأرض، وهلاك الأعداء، أو النجاة يوم العرض على رب الأرض والسماء.

النصر في القرآن: تحرير العقول من الصورة النمطية

عَرَضَ القرآنُ مفهومَ النصرِ بمنهجيةٍ مختلفةٍ عن تلك الصورة الماثلة في أذهان أغلب الناس، وكان فهمُ معاني النصر في القرآن حِصناً للنفوس من اليأس والقنوط، وتحفيزاً لجمهور المسلمين على اختلاف إمكاناتهم وأماكنهم، وأنتجَ أمةً فاعلةً متحركةً متحررة تتوق إلى النصر، وتنجح في تحقيقه بصورة يومية في ميادينه المختلفة.

لأن النصر بمعناه: القضاء على العدو بإزاحته أو بهلاكه والقضاء عليه، ليس إلا صورة واحدة من صور متعددة، بل هو نتيجة لتحقق أنواع من النصر في درجات متفاوتة.

لذا، فلم تكن هناك مساحة لطرح سؤال: هل انتصر المسلمون في المعركة الفلانية أم انهزموا؟ فمعيار النصر كان غاية في الوضوح.

لذا، كان ينبغي لنا أن نعيد النظر في مفهوم النصر في القرآن، لنعيد مراجعة مواقفنا، ونحدد اتجاهاتنا، ونُحسن إدارة معاركنا على الوجه الصحيح.

معيار النصر الحقيقي: إخلاص القصد وبذل الجهد

وبداية نقول: إن مفهوم النصر في القرآن يتمثل في إعانة الله لعباده المؤمنين بنشر فكرتهم، ورفع رايتهم، وإظهار حجتهم، وثبات أقدامهم، وإفشال مخططات أعدائهم، والشهادة في سبيل دينهم، أو التمكين لهم في الأرض، وهلاك الأعداء، أو النجاة يوم العرض على رب الأرض والسماء.

فالنصرُ القرآنيّ ليس غلبةَ سُلطانٍ فحسب، بل هو تحقيقُ غاية الرسالة الكبرى، وثباتُ القيم الإيمانية في ساحة القلوب قبل أن تنعكس على جبهة الواقع، إنه نصرُ اليقين والصدق، يبدأُ بالثبات على المبدأ، ليُتوَّجَ بغلبة الحق على كل باطل، ولو بعد حين.

فالنصر بداية هو أن تنتصر على كل عقباتك، وتتخلص من كل قيودك، فتنهض للقيام بما أوجبه الله عليك وفق إمكاناتك وحسب طاقاتك، فالعبرة بالنصر أن تنجح أنت في تحقيق النصر بالفلاح في أمرين اثنين لا ثالث لهما: أن تُخلص قصدك، وأن تبذل جهدك، فإن نجحت في هذا الاختبار الشخصي جداً فقد حققت أعلى درجات الانتصار، وإن لم يحدث تغير مباشر في عالم الواقع المنظور، وإن لم تنجح في إخلاص القصد فما ينفعك تحقيق الفتوحات العسكرية، وذيوع الصيت، والتفاف الجماهير، حتى ولو هلك الطغاة.

وإن لم تبذل جهدك المتاح في مجالاته المختلفة التي مكنك الله فيها فلا فائدة من تحقيق نصر مادي أو معنوي أياً كانت ضخامته وصورته، فنصرك أنت لم يتحقق؛ لأن الله تعالى وضع معياراً للمحاسبة يتمثل في أحد قوانين القرآن: حيث قال الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) (النجم: 39)؛ فما لم تبذله لا يعود إليك، وما لم تفعله لا تنتفع بنتيجته عند ربك؛ قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38).

ومن هنا، فمن لم ينتصر على نفسه في هذين المجالين بعد تحقق الإيمان فلن يتحقق له نصر مهما أنجز، ومن نجح في القيام بهما فقد حقق عين النصر وإن لم يرَ الناس مظاهر هذا النصر حال حياتهم.

فالنصر في القرآن قانون إلهي لا يتخلف، ولكن الأمة إذا غابت عنها مقوماته تأخر عنها وعده؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

فالهزيمة ليست هزيمة السلاح، بل هزيمة الوعي والإرادة والإيمان؛ قال سيد قطب رحمه الله: إننا لا نُهزم حين تُكسر سيوفنا، بل حين تُكسر قلوبنا عن الصبر والثقة بوعد الله.

النصر الحقيقي: خلود الفكرة وانتشار الرسالة

والنصر ثانياً هو بقاء الدعوة والفكرة والرسالة، كما في قصة غلام الأخدود، وكما بقي فكر سيد قطب وانتشر بعد استشهاده في الوقت الذي اندثر فيه ذكر وفكر من سجنوه وقتلوه، وكذا غابت أسماء وأفكار من احتلوا ليبيا، وبقي عمر المختار منارة للسالكين، وحينما أراد المحتل الصهيوني مسح اسم المقاومة وإزالة وجودها، ومعه العالم بأسره، جعلها الله تعالى الخبر الأول في كل أخبار العالم بكل اللغات، وجعل قضيتهم وهيئاتهم وأخلاقهم ورموزهم هي الأبرز على وجه الأرض، ولعمري إذا لم يكن هذا التجذر في الأرض لقضيتهم ومنهجهم ورايتهم هو النصر فماذا يكون النصر؟

فالنصر الحقيقي يتحقق حينما يفتح الله للأجيال فتتشرب الرسالة وتتمثل الهداية وتحمل الراية؛ لذا لما أثنى الله تعالى على إبراهيم عليه السلام ذكر أبرز معالم نجاحه فقال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28).

النصر هو الثبات في الخندق.. حتى الشهادة

النصر ثالثاً يتحقق يوم أن يثبت أهل الحق في خندق الإيمان لا تتزعزع عقيدتهم، ولا يفرطون في ثوابتهم، ولا تنحرف أفكارهم، ولا تنجرف قيمهم، فيموتوا على الحق مهما اشتدت العواصف، أو يفوزوا بالشهادة في سبيل ما كلفهم الله به سبحانه، يقول الله تعالى لرسوله ولكل السالكين من بعده: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (الرعد: 40).

فقد بلَّغ الشهداء رسالة ربهم، وبلَّغ العلماء المخلصون كلمة الإسلام، وبلَّغ الأنبياء الذين قتلهم بنو إسرائيل كلمة الله تعالى، فكان موتهم شهادة، وقتلهم اصطفاء، وخاتمتهم نصراً ورشاداً.

وإن الشهادة في سبيل الله لمن أروع صور النصر؛ حيث يموت المرءُ ثابتاً على مبدئه، حاملاً لرايته، صابراً في خندقه، فالشهادة ليست مُصاباً يستحق العزاء، ولا كارثةً تُستوجب الرثاء، بل هي عين الاصطفاء والاجتباء؛ فهي انتقالٌ كريم من ميدان الصراع الدنيوي إلى ساحات التكريم عند رب العالمين.

انتصار الحجة: إزالة الغشاوة وكشف زيف الشعارات الباطلة

والنصر رابعاً يتمثل في إزالة الغشاوة عن العقول؛ لأن تصحيح المفاهيم وسقوط دعاوى المجرمين من نفوس الناس أدهى وأبقى من النصر الذي يكتفي بكسر السيف؛ فتأييد الله يتحقق حينما تُكشف رداءةُ الكفر، ويُهدم بنيانُه الفكري، وتتساقط دعاواه الفاسدة أمام البصر والبصيرة، فذلك الانتصار الذي يضمن خفوت الأفكار وانقطاع الأثر، هو انتصار يضمن الاقتلاع من الجذور، ويفوق مجرد الزوال العسكري.

لذا، حدثني إن أردت عن جمعيات حقوق الإنسان من قضية أرض الرباط: أين دُفنت دعاواها الكاذبة؟ وعن مؤسسات حقوق المرأة: في أي وادٍ نُبذت شعاراتها وأكاذيبها؟ وعن مؤسسات حقوق الطفل: كيف كشف الله قبح وجوههم؟ أما عن دعاة الديمقراطية فلا تسل عن تحطم صنمٍ طالما طافوا به يبشرون الناس بعظيم نفعه، حتى فاجأتهم المقاومة الباسلة فجعلته جذاذاً لعلهم يرجعون، فكشفت حجم الأضاليل والأكاذيب والشعارات الزائفة، وفضحت كهنة المعبد من المنتفعين والمدلسين والطغاة المجرمين!

النصر المادي: هلاك الطغاة وسنة الله في زوال الجبروت

والنصر خامساً يتمثل في إنعام الله تعالى على الأمة بهلاكِ الطغاة الظالمين وزوال مُلْكِهم؛ فليست عاقبةُ الطغيانِ إلا سُوء المُنقلَب، كما قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) (العنكبوت: 40)، وتذكرةُ التاريخِ تشهدُ بعاقبةِ الجبروتِ المُدانة، من عادٍ التي سَطَّرَ القرآنُ مَصِيرَها، إلى كلِّ طاغيةٍ وملكٍ تجبَّرَ، فنبذَتْهُ يدُ القَدَرِ في اليَمِّ، أو في مزبلةِ التاريخِ؛ ليَبْقى زوالُهم آيةً للمؤمنين ونُصْرَةً للمجاهدين.

ذروة النصر: الفوز بالرضوان والنجاة من النار

والنصر سادساً أن يفوز السالك بالرضوان يوم العرض على الملك الديان، فالنصرَ الدنيويَّ ليس إلا مَشهدًا عابراً، تَعتريه سُنَّةُ المداولةِ؛ (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)؛ فلا تُبقي فرحةً على حال، ولا تُديمُ قوة على مر العصور والأزمان، ولا تترك ظالماً إلا قسمته، ولا مترفاً إلا سلبته.

أما النصرُ الأعظمُ والمُطلقُ، فهو الذي تُعلَنُ نتائجُه يومَ لقاءِ الرحمن؛ إنه نصرُ الفوز بالرِضوانِ الأكبرِ، والنجاةُ التي لا يُدانيها نجاة، هنالك، حيثُ لا تضلُّ حجةٌ ولا تغيبُ عاقبة، يكونُ الميزانُ الحقُّ الذي وضعه الملكُ العلاّمُ: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) (آل عمران: 185).

فالخسارةُ الحقيقيةُ ليست فيما فاتَ من عرض الدنيا، بل ما خسرَهُ المرءُ من نفسه وأهله في ذلك اليوم العظيم قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ) (الشورى: 45).

إنها غايةُ السَّبق، وذروةُ الفلاحِ، وبها تكتملُ دورةُ النصرِ الإلهيِّ من نُصرةٍ في الدنيا إلى إكمالٍ في جنان الخلود؛ قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).

فلا تبحثوا عن النصر هنا وهناك، ولكن ابحثوا عن أقدامكم أين تقف؛ هل هي في ميادين البذل والعطاء، أم في ميادين الدعة والحرمان والادعاء.

المصدر

صفحة الدكتور جمال عبد الستار، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

حقيقة النصر في قصة أصحاب الأخدود

آيات النصر بعظيم الصبر (1/2)

ألا إن نصر الله قريب… ولكن..

بشائر النصر

التعليقات غير متاحة