في هذه السلسلة من المقالات تلخيص مكثف لمفهوم (السياسة الشرعية) الذي يتطلع إليه الإسلاميون، على شكل مفاتيح أساسية لفهم المشروع الإسلامي في الحكم..
الشورى معلمة أم ملزمة
قابلت كثيراً من المعنيين بالتغيير السياسي، وكنت إذا قلت لهم: (الشريعة قررت الشورى في اختيار ولي الأمر) قالوا لي فوراً: (ولكن الشورى عند الفقهاء فيها خلاف هل هي معلمة أم ملزمة؟ فما فائدة الشورى إذن؟).
ثم رأيت عدداً من الفضلاء يحاول إقناع المتطلعين السياسيين بالحماس والمبالغة في إثبات أن الشورى ملزمة، ويحاول أن ينتقص من قول الفقهاء الذين تبنوا أن الشورى معلمة لا ملزمة، إمعاناً في إثبات لزومية الشورى، ورغبة في استمالة الديمقراطيين.
والحقيقة المؤلمة أن كلا الفريقين لم يفهم موضع خلاف الفقهاء، ولا في أي دائرة يتحرك هؤلاء الفقهاء، ولا أخفي القارئ أنني أشعر بطرافة الموقف دوماً حين أرى الانفعال في مناقشة مسألة (الشورى معلمة أم ملزمة) برغم أن هذه المسألة لا صلة لها أصلاً بالمسألة التي تعنيهم.
شورى التولية: إجماع على الإلزام.. وسوء فهم للخلاف
وحقيقة الأمر أن الفقهاء يفرقون بين (شورى التولية) و (شورى التدبير)، فأما شورى التولية وهي التي يحصل فيها اختيار المسلمين ورضاهم لإمام بعينه، فهذه لم ينبس فقيه واحد بكونها معلمة، وليست هذه هي التي تكلموا فيها، بل إن الفقهاء يتغالون بتشديد التحريم في مخالفتها، بل ويعتبرون مخالفتها خروج ومعصية عن بيعة المسلمين ورضاهم، بل جاءت أحاديث ليس بتحريم مخالفة شورى التولية فقط، بل وصل الأمر إلى “قتل” من يخالف شورى التولية، ومن ذلك ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما)1(1) [مسلم:1854]..
وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)2(2) [مسلم:1844]..
فانظر إلى حزم الشريعة في (شورى التولية) فليس يحرم فقط مخالفتها، بل يصل الأمر لقتل من يخالف بيعة المسلمين ورضاهم واختيارهم، ولا يخالف في التشديد في ذلك أحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا أعرف فقيهاً، بل ولا نصف فقيه، قال أن شورى التولية معلمة لا ملزمة، هذا كله من تصورات بعض المعاصرين السطحية، فليس في شورى التولية خلاف، ولا حاجة للحماس لإثبات اللزوم في خلاف الفقهاء في الشورى، لأنهم لا يتحدثون عن (شورى التولية) أصلاً.
وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان)3(3) [مسلم:1852]..
وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه)4(4) [مسلم:1852]..
وهذه الصورة في غاية الوضوح في النصوص الشرعية، وهي احترام اختيار المسلمين بحسب الترتيب الزمني، ولذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (“سيكون خلفاء فيكثرون” قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “فوا ببيعة الأول فالأول”)5(5) [البخاري:3455]..
وقد تواطأ أهل العلم على نقل الإجماع على ذلك، فمن ذلك قول ابن حزم (وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته)6(6) [الفصل:4/127]..
هذا هو المستوى الأول للشورى، وهو (شورى التولية) الذي لم يختلف الفقهاء في التغليظ في شأنه، وجاءت النصوص بالأمر بقتل من يشق اختيار المسلمين وشوراهم ورضاهم، وجعلت الأولوية للترتيب الزمني في ثبوت الاختيار والرضا.
شورى التدبير: ساحة الخلاف الفقهي بين الإلزام والإرشاد
وأما المستوى الثاني للشورى فهو (شورى التدبير) وهو أنه إذا ثبتت الإمامة واستقرت واختار المسلمون إماماً لهم، فهل يلزم هذا الإمام المختار، في تدبيره لشؤون الولاية؛ أن يأخذ بحصيلة مشاورة الناس، أم يشاور الناس ويختار من آرائهم؟ هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فاختار بعض الفقهاء أن شورى التدبير (ملزمة) ونقل أقوالهم القرطبي في تفسير آل عمران (آية159) واحتجوا بعمومات نصوص الأمر بالشورى، وذهب الفريق الثاني، وهم جمهور أهل العلم أن شورى التدبير (معلمة)، واحتجوا بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- خالف رأي الأكثرية يوم الحديبية، وأن أبابكر خالف رأي الأكثرية في إنفاذ جيش أسامة، وأن عمر خالف رأي الجيش في تقسيم أرض السواد.
موقف ابن تيمية التوسطي: الجمع بين الشورى والرد إلى الله والرسول
وحاول شيخ الإسلام ابن تيمية أن يتوسط بين القولين في شورى التدبير، ففرق بين ما ظهر فيه النص بعد الشورى، وما لم يظهر، فقال في كتابه السياسة الشرعية:
(وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك..، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”)7(7) [السياسة الشرعية:126]..
مع التنبيه طبعاً إلى أن الفقهاء يفرقون بين وجوب الشورى ولزومها، ويحتاج هذا تحرير أقوالهم، فبعضهم يرى الوجوب لا اللزوم، فنسب قوله بالوجوب إلى اللزوم، وهذا خطأ.
شورى التدبير: مسألة تعاقدية وليس حكمًا شرعيًا ثابتًا
والذي يظهر لي –والله تعالى أعلم- أن تحقيق القول في شورى التدبير هل هي معلمة أم ملزمة؟ أنها منوطة بالشروط الجعلية في الإمامة، لأن الإمامة عقد، وإعلام شورى التدبير وإلزامها مفوض للأمة، فإن اختارت الإمام وبايعته بيعة مطلقة ولم تقيد تصرفاته فالشورى معلمة لأنه اختيار الأمة، وإن قيدت تصرفاته فاشترطت عليه مثلاً أن يشاور الأمة، أو ممثليها، في قرارات الحرب والصلح وصفقات الاستيراد الكبرى ونحوها، فإن إمامته تتقيد بذلك، وتصبح الشورى هاهنا ملزمة، لأن عقد الإمامة تقيد بها، ولا يظهر لي أن الشارع حسم القول في الشورى هل هي ملزمة أم معلمة، بل وكل ذلك وفوضه لاختيار الأمة.
الالتباس الاصطلاحي: عندما يحمل المعاصرون خلاف “التدبير” على مسألة “التولية
على أية حال .. المهم هاهنا فرز صور المسائل، وكشف الالتباس الذي وقع فيه كثير من المعاصرين، حين حملوا الخلاف في الشورى (هل هي معلمة أم ملزمة) على شورى التولية، وحمّلوا الفقهاء آراء لم تخطر ببالهم، وسبب الخلل في ظني أن أهل العلم يقل استعمالهم لمصطلح الشورى إذا تعرضوا لموضوع التولية والإمامة، ويكثرون استعمال ألفاظ البيعة والاختيار والانعقاد ونحوها، بينما يكثرون من استعمال لفظ الشورى إذا تعرضوا لشورى التدبير، بينما المعاصرون فبمجرد أن يسمعوا كلمة الشورى فلا يخطر ببالهم إلا شورى التولية، بسبب كثرة استعمالها في هذا المقام الذي استجلبه المقارنة مع النظام الديمقراطي، فبسبب اختلاف الاستعمال، صار كثير من المعاصرين يحمل خلاف الفقهاء في شورى التدبير على شورى التولية، ولا يسبق لأذهانهم إلا شورى التولية التي يعرفونها ويتداولونها بكثرة.
الجرح النازف: إصلاح “شورى التولية” هو المدخل الحقيقي لإصلاح أنظمة الحكم في العالم الإسلامي
على أن مسألة شورى التدبير ليست ذات خطر كبير، لأن الجرح النازف في واقع المسلمين السياسي هو (شورى التولية)، وهو الذي إذا صلح صلح ما بعده بإذن الله، ومما هو لصيق الصلة بذلك أن الرئيس في النظم الرئاسية الديمقراطية المعاصرة يمتلك صلاحيات واسعة، ولا يلتزم بمشاورة مؤسسات الدولة في كثير من الأمور، بخلاف الرئيس في النظم البرلمانية فإن صلاحياته أكثر تقييداً.
الهوامش
(1) [مسلم:1854].
(2) [مسلم:1844].
(3) [مسلم:1852].
(4) [مسلم:1852].
(5) [البخاري:3455].
(6) [الفصل:4/127].
(7) [السياسة الشرعية:126].
المصدر
كتاب: “مفاتيح السياسة الشرعية”، الشيخ إبراهيم السكران.