تتحكم العلمانية في بلادنا، توهن العقائد وتزحزح القيم وتغير الأخلاق وتهدم التاريخ وتهدر المقدرات وترسخ التبعية والتغريب. والجميع عاجز عن المواجهة لغياب الوضوح العقدي للواقع.
اللافتات الخادعة
“كان من ثمره اليأس من الإسلام أن عدل أعداؤه عن مواجهته وجها لوجه، إلي طريق أخبث، وحبائل أمكر.. فلجأوا إلي إلي إقامة أنظمه وأوضاع في أرض الإسلام تتزيا بزيّ الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جمله.. ثم تنفذ تحت هذا الستار الخادع كل المشروعات التي عجز أعداء الإسلام عن تنفيذها كلها في المدى الطويل” (1)
وبينما كان الاستعمار القديم يستعين بقواته العسكرية الغازية لقهر شعوب المستعمرات، لم يعد الاستعمار الجديد في حاجة إلي استخدامه القوات العسكرية بعد أن أفلح في اختيار عملائه وصنائعه من “النخبات الوطنية” التي أشربت في قلوبها ثقافة الاستعمار، وتربت علي يديه، ونشأت في كنفه ورعايته.
بل لقد حقق الاستعمار الجديد كسباً بسحبه لقوات الاحتلال، هو الاختفاء وراء “واجهة” الحكم الوطنية، و”لافتة” الإسلام التي ترفعها تلك الحكومات!! ذلك أن هذه اللافته الخادعة تكون مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة الجاهلية القابعة وراءها!! والعملاء المتسترين بها..!!
لقد بذل أعداء الإسلام القناطير المقنطرة من التلبيس والدجل السياسي “ولُعبت ألاعيب صوِّروا فيها هؤلاء العملاء الذين يقدمون دولهم للافتراس، في صورة “الأبطال” المحررين الذين هبطوا من السماء لإنقاذ بلادهم من الرجعية والتخلف وما شاكل ذلك، وكانت حقيقة دورهم قتل الحركات الإسلامية في بلادهم، باسم محاربه الرجعية” (2)، وتقديم بلادهم للأعداء يقهرون شعوبها وينهبون ثرواتها. وهكذا..
قًلِّد هؤلاء العملاء إمارة المسلمين، وهم لإمارة اليهود أقرب:
“وفرضت علي الأمة أنظمه القهر والاستبداد، واستُعملت خبرة الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقة بطبقة، وظلم بظلم أشد، وبقي المظلومون والمستضعفون علي حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.
ولم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا، ولم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادّعوا، ولم تحقَق وحدة الأمة كما طبّلوا وزمّروا، بل زادوها أوصالاً وتقطيعاً..” (3)
الشعوب ضحية
لقد كانت الضحية الوحيدة لهذه النظم العلمانية هي الإسلام بحقائقه وحضارته وأمته.. وسلّمت هذه الأنظمة العلمانية بلاد المسلمين إلي اليهودية العالمية بسبق إصرار في الخيانة!!
وبينما يحدث كل هذا تُضَلَّل جماهير الأمة في كل مواجهة بين الحركات الإسلامية وهذه الأنظمة العلمانية العملية، ويُقَال لها إن المواجهة ما هي إلا بين “الأنظمة”، و”حركات” لها عمالة أجنبية تخطط للاحاطة بالنظام، وحرمان الأمة من “بركاته” “ومزاياه”، والسير بالأمة نحو التخلف والرجعية وعصر الانغلاق والبداوة ..!!
وهكذا تُوهِم الأنظمة العلمانية جماهير الأمة أنها هي صاحبة “الشرعية”، وأن الحركات الإسلامية هي الخارجة علي “الشرعية”.. ويتيح لها ذلك أن تستفرد بهذه الحركات الإسلامية فتذبحها تذبيحاً وهي آمنة، وتضيع قضية “الشرعية”، وقضية الحق والباطل، وتصبح القضية “ضارب ومضروب”، و”غالب ومغلوب”.
وتتغبش في حس الناس قضية الدعوة الأولي التي ينبني عليها البناء كله، ويقوم من أجلها الجهاد كله؛ وهي قضية (لا إله إلا الله)”. (4)
وهكذا يستمر مسلسل التضليل للأمة، وهي في معزل عن معرفة الحقيقة، وأن المواجهة لم تكن ـ ولن تكون ـ إلا بين الأنظمة العلمانية، ودين هذه الأمة “وأن هؤلاء الطغاة إنما يعملون عداءً للإسلام ذاته ـ لا رداً علي عمل بعينه ـ وولاءً لأعداء الإسلام الذين يحاربون الإسلام في كل الأرض”. (5)
وتبقى الأمة في واقع الالتباس وعدم التمايز، تُصَدّق دعاوي هؤلاء الطغاه. وهذا هو أشق ما تعانيه حركات الإحياء الإسلامي التي تتناثر اليوم علي وجه الأرض كلها.. “أشق ما تعانيه هو اختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق”. (6)
واجب رفع الالتباس، وأداته العقدية
ومن هنا فإن “الواجب الأول للدعاة إلي هذا الدين في الأرض، أن يُنزلوا اللافتات الخادعة المرفوعة علي الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً..
ونقطة البدء في أي حركة إسلامية هي تعرية “الجاهلية” من ردائها الزائف، وإظهارها علي حقيقتها.. شركاً وكفراً”. (7) وكشف أصنام هذا العصر من أفكار وزعماء وأحزاب..
ليتميز حزب الله وأولياؤه، عن حزب الشيطان وأتباعه، ويمكن للأمة أن تتخذ موقف العداء الصحيح للأنظمة “العلمانية الجاهلية، والرغبة عن شرع الله إلي غيره، وإباحة المحرمات، واتخاذ الولّي من دون الله”..
وكل هذا من الكفر والشرك الذي يتنافي مع الإسلام..
ومن ثم فلابد من رفض هذه الأنظمة العلمانية لأنها تقوم علي محادّة أحكام الله، ومراغمة شرائعه، والتحاكم ابتداء إلي غير الكتاب والسنة، ولأن القبول بهذه الأنظمة هو إعراض عن تحكيم الشريعة، وهذا يعني الكفر والردة عن الإسلام.
لا بد أن تتبين الأمة هذا الواقع، بهذا الوضوح، لتدرك أن حركات الإحياء الإسلامي إنما تريد “أن تردّ ديار الإسلام للإسلام، لا لشخص بعينه .. وللحكم الإسلامي، لا لأي حكم.
ومن ثم ينتقي عن الأمة شبهة الدافع الحزبي أو الشخصي، وتصير القضية خالصة للإسلام” (8)
فالقضية ليست قضية حاكم يراد استبداله بآخر؛ بل قضية خلاف بين عقيدة “التوحيد” التي ترى أن أولي مهماتها العمل علي تحطيم مبدأ “الصنمية” في أي شكل من أشكاله، وبين عقيدة “الشرك” التي ترى في فكرة التوحيد، فكرة تستهدف القضاء عليها وتسفيه أحلامها وعقائدها، ومن هنا تحاربها بكل ما تملك من قوة..
هوة الخلاف بين الإسلام والعلمانية
فالخلاف بين الإسلام والعلمانية في مستوى الالتقاء ولا يمكن أن يعيش الاتجاهان في سلام، ولا يمكن أن تقام بينهما قنطرة اتصال، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد !!
لابد أن تتبين الأمة أيضاً أن هذه “الأنظمة العلمانية” التي تقوم علي مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية، والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلي غير ما أنزل الله..
هذه الأنظمة باطلة، ولا تجوز طاعتها، لأنها تمثل حالات “خروج” عن “الشرعية” و”اغتصاب” للسلطة الشرعية من المسلمين. وهذا وضع يستلزم أن يقوم المسلمون بتصحيحه، وإعادة “الشرعية” إلي هذه الأمة المسلمة. (9)
افتقاد المشروع الحضاري
لا بد أن تتبين الأمة أن هذه “الأنظمة العلمانية” تفتقد “المشروع الحضاري”، لأنها تنحّي الإسلام عن الحياة، وترضى بالتبعية الذليلة لأعدائنا؛ في صورة الرضا بمكاننا من “السلم الحضاري” ضمن “النظام الدولي”! وهذا يجعلنا في حالة “احتياج” دائمة، وهذا الاحتياج يولّد “التبعية” مره أخري، وتبقى “الأمة” في هذه الحلقة المفرغة التي لا خلاص منها إلا برفض هذه الأنظمة العلمانية.
لابد أن تتبين الأمة أن حقيقة هذه “الأنظمة العلمانية” أنها سلسلة من “التآمر” قسمت أدوارها في الخفاء لتجرّ الأمة إلي التنازل عن قيمها وأصالتها وهويتها، وتلحق بالغرب الكافر جوهراً وحقيقة، وأن حقيقة الحكام القائمين علي هذه الأنظمة أنهم “عملاء” ليس لهم غاية إلا كرسيّ الحكم والعض عليه بالنواجذ، ولو أدى ذلك إلي تدمير الأمة، وتقديمها لأعدائها ليقوموا بافتراسها!!
فإذا تبينت الأمة كل هذا، وتحقق في حسها “الفرقان”، وتميزت أمام أعينها الرايات، واتضحت الصفوف؛ كانت الانطلاقة القوية للإحياء الإسلامي، وذلك لأن “قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه علي الحق، ولكن كذلك من شعوره أن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل”. (10)
و”كلما ظهر فساد الباطل وبطلانه، أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه “. (11)
إن الرحلة الطويلة لإعادة العالم الإسلامي إلي الإسلام، وإعادة الإسلام إلي العالم الإسلامي، وإلي كل أرجاء الأرض؛ إنما تبدأ من هنا.. من “إسقاط اللافتات الكاذبة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفي وراءها العلمانية الكافرة ـ بأفكارها وأفرادها وتجمعاتها ـ لتبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة، وتلبّس علي العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل تحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الواعين بحقيقة هذا الصراع المنبّهين إلي خطره الداهم علي الدين وأهله “. (12)
إن “الفرقان” بين الإسلام والعلمانية، لابد أن يكون من القوة والتحديد حتى وكأنه “سيف بتار” لا يُثنيه ثانٍ، ولا تنزع “العقبات” نصله وتحوله إلي سيف من خشب!!
وعندها ستكون المواجهة الصحيحة للعلمانية الجاهلية “من حيث تقف هذه الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم.. والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيده جداً”. (13)
كلمة خاتمة
لقد غابت راية الإسلام عن أرض الإسلام، وحكَمتها نظم علمانية لا دينية تُعلي أحكام الجاهلية، وتتستر بلافتة الإسلام؛ ومن ثَم وجب علي كل من يضطلع بمهمة إحياء الأمة الإسلامية، أن يُسقط هذه اللافتة الكاذبة عن العلمانية لتظهر علي حقيقتها.. “كفراً وشركاً” يناقض التوحيد والإسلام، وليس له أدني “شرعية” في أن يحكم ديار الإسلام.. وليس لحكامه “العملاء” أدني حق في السمع والطاعة من الأمة..
وليكون هذا “الفرقان” بين الإسلام والعلمانية هو نقطة البدء في إسقاط العلمانية وقطْع الطريق علي عودتها في المستقبل.
الهوامش:
- في ظلال القرآن – سيد قطب جـ2 ص 1106 بتصرف.
- الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 87.
- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري –د. محسن عبد الحميد ص 33،32.
- الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 44ز
- واقعنا المعاصر – محمد قطب .475
- في ظلال القرآن –سيد قطب جـ2 ص 01106.
- طريق الدعوة في ظلال القرآن –أحمد فائز ص 107.
- الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 47.
- انظر إن شئت كتاب “لماذا نرفض العلمانية”للمؤلف ص 96-132.
- في ظلال القرآن – سيد قطب جـ2 ص 1105.
- طريق الهجرتين – ابن القيم ص 140.
- معالم الإنطلاقه الكبرى – محمد المصري ص 194-197.
- المصدر السابق ص 194.
المصدر:
- مختارات من كتاب “الأمة الإسلامية من الريادة الى التبعية” – الدكتور محمد محمد بدري.