يظن الواهمون أن البُعد “الديني” غير حاضر في علاقة الغرب بالمسلمين، وفي الحقيقة فهو بعد أساسي وأصل في العلاقة؛ يلحقه غيره ولا يلغيه..!

مقدمة

لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ لهذا القرآن؛ أو لصحّة رساله محمد، صلى الله عليه وسلم، وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله.

تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم، عندما كانوا يقفون من النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء (وكان هذا غالباً في المدينة) أو في مواجهة المشركين من العرب؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية؛ يعرفون هذا القرآن، ويعرفون صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أنه وحْيٌ أوْحَى به ربّه إليه كما أوْحى إلى الرسل من قبله.

وهذا الآية ـ كما رجحنا ـ مكية. وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو ـ إذن ـ يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم، فهم لا يؤمنون.

مدى معرفة أهل الكتاب بهذا الدين

وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقاً؛ أو على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رسولٌ من عند الله حقاً، يوحَى إليه بهذا القرآن.

وهذا جانب من مدلول النص فعلاً، ولكنا نلمح ـ باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذا الدين فيه ـ أن هناك جانباً آخر من مدلول النص؛ لعل الله ـ سبحانه ـ أراد أن يعلّمه للجماعة المسلمة، ليستقر في وعيها على مدار التاريخ، وهي تواجه أهل الكتاب بهذا الدين.

إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله، ويعرفون ـ من ثَم ـ ما فيه من سلطان وقوة، ومن خير وصلاح، ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها؛ وبالأخلاق التي تنبثق منها، وبالنظام الذي يقوم عليها، ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله، ويعلمون جيدًا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين..!

إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل.

ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين، أو يبقي عليها.. وأنها ـ من ثَمّ ـ معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض، ويستعلي هذا الدين، ويكون الدين كله لله؛ أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله، وأن يطارَد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها، وبذلك وحده يكون الدين كله لله.

إن أهل الكتاب يعلمون جيدًا هذه الحقيقة في هذا الدين، ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم، وهم ـ جيلًا بعد جيل ـ يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة، وينقبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها.

عن ماذا يبحثون..؟

إنهم يبحثون بجد:

كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجِّهة في هذا الدين؟

كيف يلقون بالريَب والشكوك في قلوب أهله؟

كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟

كيف يصدّون أهله عن العلم الحقيقي به؟

كيف يحوّلونه من حركة دافعة تحطِّم الباطل والجاهلية وتستردّ سلطان الله في الأرض، وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله لله.. إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ..؟

كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصوّرات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة..؟!

كيف في النهاية يملئون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى؛ ليجْهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة..؟!

إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة، لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة ـ كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين..! ـ ولا ليُنصفوا هذا الدين وأهله ـ كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافًا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين..! ـ كلا!

إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة، لأنهم يبحثون عن “مقتل” لهذا الدين..! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدّوها أو يميعوها..! لأنهم يبحثون عن أسرار قوّته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس، ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها!

وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم..!

ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك، وأن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا..!

إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنًا ينطق بحقيقة واحدة. هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾.

جلاء حقيقة معرفتهم اليوم ، وخبث خطابهم

ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة.

إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع، بلغة من اللغات الأجنبية، وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوّته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه!

ومعظمهم ـ بطبيعة الحال ـ لا يُفصح عن نيّته هذه، فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة، وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين ـ الممثل في الاستعمار ـ ولو في الصورة الفكرية ـ سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة..!

لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث؛ يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوِّم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه؛ ثم يضع السُم في الكأس ويقدمها مترعة؛ هذا الدين نعم عظيم، ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته، ليجاري الحضارة (الإنسانية) الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق! وينبغي ـ في النهاية ـ أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدَعَ الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة (الإنسانية) الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب؛ وبذلك يظل دينًا عظيمًا!

وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين ـ وهي ظاهريًّا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر ـ يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب، لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوّته، ويسير أمام الأجهزة المدمِّرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف، وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم!

خاتمة

إن أسرار هذا القرآن ستظل تنكشف لأصحابه، جديدة دائمًا، كلما عاشوا في ظلاله، وهم يخوضون معركة العقيدة، ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ، ويطالعون بوعي أحداث الحاضر، ويرون بنور الله الذي يكشف الحق، وينير الطريق.

…………………………………………………

المصدر:

  • سيد قطب، في ظلال القرآن، تفسير سورة الأنعام

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة