منذ سنوات عديدة ؛ يتحدث كثيرون – وأنا أحدهم – عن ضرورة السعي لإطلاق ( تيار إسلامي عام ) يحوي جهود عامة أهل الإسلام لخدمة الدين، دون تقيد بآفات الانتماءات القطرية والحسابات الرسمية ، والحزازات الحزبية، ويطوي بين جنباته في الوقت ذاته الآثار والثمار الإيجابية لكافة التجمعات والكيانات المنتمية إجمالا لمعتقد أهل السنة والجماعة، وعلى أن يأتي ذاك التيار أو بالأحرى (الصف) العام؛ تطويرا – لا بديلا – عن التجمعات والاتجاهات العاملة، غير المبدلة ولا المغيرة ، وقد طال انتظار تحقيق هذا المسعى الهام عاما بعد عام.
الدعوة إلى إنشاء هيئة دعوية علمية عالمية مستقلة
وكنت قد دعوت منذ مدة للسعي في وضع إطار لهذا التيار بمقال لي في (مجلة البيان) اللندنية ، عدد ١٨٨، شهر ربيع الآخر لعام ١٤٢٤ الموافق لعام ٢٠٠٣ في أعقاب كارثة غزو العراق، وكان عنوانه: (تغيير الخطط.. لمواجهة خطط التغيير). وكان ذلك المقال في الأساس دعوة لإنشاء ما أسميته حينها (رابطة الدعاة) وكان المقصود وقتها إنشاء هيئة دعوية علمية عالمية مستقلة، من خاصة أهل العلم و الفكر والدعوة، من ذوي النهج الصحيح من كافة الاتجاهات والتخصصات الملتزمة إجمالا بمحكمات أهل السنة، على أن تتخلى هذه الرابطة الدعوية عن الارتباط بثلاثية الفشل المدمر لأي كيان دعوي جاد على مستوى الأمة؛ وهي : (الرسمية والحزبية والقطرية)..
وكان الطموح أن تمثل تلك الرابطة عقلا جماعيا للأمة، في مقاربة لما اصطلح أهل العلم على تسميته بـ(أهل الحل والعقد) على أن تفرز تلك الرابطة “الدعوية” فيما بعد؛ رابطة “علمية” بذات الشروط، فتكون تمثيلا لولاية الأمر العلمية المأمور شرعا بطاعتها حتى قبل ولاية الأمر الشرعية السياسية، وذلك في قول الله تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ } [النساء:٥٩].
إنشاء الرابطة تمهيد لإنشاء التيار الإسلامي العام
وكان المأمول أن تسهم كلا الرابطتين (الدعوية) و(العلمية) في مرحلة لاحقة في إنشاء ذلك ( التيار الإسلامي العام ) لذلك قلت في نص ذاك المقال:
(إن “رابطة الدعاة” بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تمهد لوجود [ تيار إسلامي عام ] يجعل الانتماء للإسلام فوق الانتماء للافتات واليافطات والجماعات والأمكنة، وينهي بشكل طبيعي مرحلة التجمعات الجزئية التي استنفد الكثير منها الغرضَ من إنشائها.
_ و إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تخاطب بلا قيود ولا حساسيات الشريحة الأكبر من قطاع المتدينين، وهي شريحة غير المنتمين)1(1) https://shamela.ws/book/1541/4611.
نشوء الكيانات والجماعات الإسلامية
في هذا العام (٢٠٢٤) يكون قد مر على غياب الخلافة العثمانية قرن كامل، فبعد إسقاطها عام ١٩٢٤؛ ذهب كيان المسلمين القوي العالمي، فتتابع نشوء الكيانات والجماعات الإسلامية بأنواعها لأجل السير في طريق العودة إليه، فأصابت تلك الجماعات أهدافا في ذلك وأخفقت في أخرى.
نجاحات وإيجابيات الكيانات الإسلامية خلال قرن مضى؛ أكثر من أن تحصى، وأكثرها من ثمرات السنة الإلهية الماضية القاضية بتجديد الدين على رأس كل قرن هجري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا2(2) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، وذكره الألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599)..
إلا أن هذه الجماعات كان لها أيضا إخفاقات وسلبيات، نشأت عن قلة التوظيف العملي لما أنتجه التجديد العلمي من ثمرات ، وأبرز هذه الإخفاقات ثلاثة:
_ أولها : غياب المرجعية العلمية والفكرية الجامعة المؤثرة والقادرة على التوجيه العام على مستوى الأمة.
_ ثانيها : الإخفاق في إرساء منهاج فكري عام قويم قابل للاجتماع عليه من جمهور المتدينين، منتمين وغير منتمين.
_ ثالثها : قلة الجهد المبذول في جمع القلوب والعقول على هذا المنهاج القويم المستمد من المحكمات والأصول، لتكوين التيار العام من أهل الإسلام.
إن التيار الإسلامي العام؛ بمرجعيته الجامعة، ومنهجيته الراشدة ؛ صار من أهم الضرورات، وإن كنت أفضل أن يعدل التعبير من (التيار) الإسلامي العام؛ إلى (الصف) الإسلامي العام، لأننا _ أهل الإسلام _ لسنا في الحقيقة تيارا ؛ بل نحن أمة.. بل خير أمة، وقد آن لنا أن نتحرك باعتبارنا أمة، فقد تداعت علينا الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، بما لم يسبق في التاريخ.
نداءات القرآن تدعو إلى لزوم جماعة المسلمين العامة
التحديات التي تجتمع على أمتنا اليوم ؛ لم يعد يصلح لمواجهتها إلا مجموع صلحاء الأمة، فهي التي ناداها ربها منذ نزل القرآن بنداء جماعة الإيمان: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا …}.
وهي التي دعاها للجماعة والائتلاف ونهاها عن الفرقة والاختلاف، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[ آل عمران:١٠٣].
_ ولما أمر الله عباده المؤمنين بالصلاة؛ كلفهم بأن يقوموا لها في جماعة متراصين: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨].
_ وعندما فرض عليهم جهاد أعدائهم أحب أن يكونوا في ذلك مجتمعين مصفوفين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ }[الصف:4] .
_ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمرا صريحا بالجماعة ونهاهم عن الفرقة فقال: (عليكم بالجَماعةِ، وإيَّاكم والفُرْقةَ، أيُّها النَّاسُ، عليكم بالجَماعةِ، وإيَّاكم والفُرْقةَ، ثلاثَ مِرارٍ)3(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الشيخ الأرناؤوط برقم ( ٢٣١٤٥)..
_ ولزوم جماعة المسلمين العامة فرض على الخاصة والعامة، وبخاصة عند وجود الولاية الشرعية العامة، كما جاء في الحديث (فالزمَ جماعَةَ المسلمينَ وإمامَهم)4(4) صحيح الجامع (٢٩٩٤)..
التحزب المحمود والمقصود بالنصر الموعود
ومع أن أمتنا بمجموعها خير أمة، فإن خاصتها وخلاصتها وصفوا وسموا بـ (أهل السنة والجماعة) لأن من شأنهم الاجتماع على طريق النبي ونهج السنة، لذلك فإن أي تحزب أو تعصب؛ لا ينبغي أن يخرج عن مظلة هذه الطائفة المنصورة. لأنها في الحقيقة تمثل جماعة الأمة، المعبرة عن أمة الجماعة، ومن حق وواجب الموالين والمنتمين لهذه الطائفة أن يتحزبوا لها ويجتمعوا حولها وبها ومعها، فهذا وحده هو التحزب المحمود والمقصود بالنصر الموعود : {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥٦].
الخطوات العملية لإنشاء التيار الإسلامي العام لتحقيق التمكين
وإذا كان تأخير التمكين في عصرنا قد سببته ثلاثية الإخفاق السابق ذكرها لدى غالب الجماعات والكيانات طوال قرن مضى؛ وهي: (قلة تأثير الهيئات العلمية) و(نقص التأصيلات المنهجية) و(ضعف جهود الاعتصام بين الاتجاهات الإسلامية) .. إذا كان ذلك كذلك؛ فإنه لا حل إلا بتحويل هذه السلبيات الثلاث إلى إيجابيات ثلاث .. وهي :
أولا : تقريب المرجعيات العلمية والدعوية والفكرية الحرة المستقلة، في رابطة واحدة، أو هيئة تنسيق بين الهيئات المتعددة، لتمثل قيادة ريادية، أو ريادة قيادية، تمثل (ولاية الأمر العلمية) المأمور بطاعتها شرعا، والمكونة من سائر الاتجاهات لتخاطب في الأزمات والملمات جميع الانتماءات بصوت واحد وخطاب متقارب. كما أرشد القرآن: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:٨٣].
ثانيا: تعاون هذه الكفاءات العلمية والفكرية على وضع منهجية منضبطة لعموم الجماهير الإسلامية، مستمدة من أسس القرآن والسنة المحمدية، بحيث تقرب مجموع المقبلين على الدين علما وعملا ؛ من الوحدة والائتلاف وتباعدهم عن الفرقة والاختلاف، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم علاج كل اختلاف فقال: ( إنه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)5(5) رواه أحمد برقم ( ١٧١٤٤). وأخرجه الترمذي، وصححه الألباني برقم (٢٦٧٦)..
ثالثا : الانطلاق بالجميع باتجاه الصف العام لأمة الإسلام، بعد توحيد كلمتها من خلال تقارب مرجعيتها، واستقامة منهجيتها، تحت راية الانتماء العام للإسلام، والالتزام الخاص بمنهاج السنة الذي كان عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهو المعبرعن الفهم الصحيح السليم، بعيدا عن فوضى الفكر واختلاط المفاهيم، كما جاء في الحديث (عليكم بالجماعةِ وإياكم والتَّلوُّنُ في دِينِ اللهِ)6(6) حديث حسن. ذكره ابن حجرالعسقلاني في (موافقة الخبر الخبر) (١/١١٥)..
وعندما تتحقق هذه الأمور الثلاثة .. يمكننا أن نضع الأقدام بثبات على أول طريق المشروع الإسلامي الجامع لأهل السنة والجماعة، حيث إنهم وحدهم الذين ليس لهم للآن مشروعهم الشامل الجامع، في معترك الصراع المحتدم بين المشاريع المتعددة المعادية لأمتنا، والمتداعية على قصعتنا..
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه الطائعون، ويعافى فيه العاصون و يذل فيه المعادون المعاندون .
الهوامش
(1) https://shamela.ws/book/1541/4611
(2) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، وذكره الألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599).
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الشيخ الأرناؤوط برقم ( ٢٣١٤٥).
(4) صحيح الجامع (٢٩٩٤).
(5) رواه أحمد برقم ( ١٧١٤٤). وأخرجه الترمذي، وصححه الألباني برقم (٢٦٧٦).
(6) حديث حسن. ذكره ابن حجرالعسقلاني في (موافقة الخبر الخبر) (١/١١٥).
المصدر
الدكتور عبد العزيز كامل.
اقرأ أيضا
كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (2-3) أُطرٌ متعددة وهوية واحدة