الإسلام هو هوية المسلم، وهوية الأمة. ومن أخطر الدعوات المهددة لوجود الإسلام نفسه التعصب القومي والوطني؛ فهي منتنة مفرّقة، ولم يُجنَ منها غير الخراب مع حرمتهما الشرعية.
مقدمة
في فترة مضت كان هناك سيطرة غالبة لراية “الإسلام” و”الإسلامية”، وكانت الرايات الجاهلية في ضعف في واقعنا المحلي، وقد لاحظت مؤخراً أن هناك زحفاً للرايات الجاهلية بدأت تزاحم به راية الإسلام والإسلامية، وأكثر ما يؤلم دخول بعض المنتسبين للدعوة في هذا الأمر، وأهم هذه الرايات المزاحمة رايتي: “الإنسانية” و”الوطنية”.
سأناقش هاهنا بشكل موجز هذه الإشكالية.
ماهي الراية؟
“الراية” هي التي تنظم المقصد وأولويات العلاقة، وهي ما يكون عليه الولاء والبراء، والموالاة والمعاداة، وما يكون معقد الانتماء الأساس.
ويتبين ذلك في آثاره ونتائجه، ولنضرب على ذلك أمثلة:
إذا أثّرت الراية في ترتيب أولويات العلاقة بين المسلم وغير المسلم، أو بين السني والمبتدع؛ فهي راية جاهلية، فإذا قدّم غيرَ المسلم الذي يشاركه رايته على المسلم الذي لا يشاركه رايته؛ فهي راية جاهلية.
وإذا قدّم المبتدعَ الذي يشاركه رايته على السنّي الذي لا يشاركه رايته؛ فهي راية جاهلية.
وإذا قدّم الرجلَ الفاسق الذي يشاركه رايته، على التقي الصالح الذي لا يشاركه رايته؛ فهي راية جاهلية.
فأنت تلاحظ في كل الأمثلة الثلاثة السابقة كيف تدخلت الراية الجاهلية وقلبت الموازين الشرعية.
ولذلك تلاحظ بعض أصحاب الرايات الجاهلية يقدم ويوالي من يستغيث بالحسين على المسلم الموحّد، لأن الأول مواطن معه في بلده، والثاني أجنبي غير مواطن يعيش في أفريقيا..! وفي مثل هذه التطبيقات يتضح فعلاً ضلال الرايات الجاهلية ومعارضتها لأصول الإسلام.
الراية ليست مسألة شكلية
مسألة “الراية” ليست مسألة هامشية أو نظرية بحتة، أو شكلية، بل لها بُعدٌ موضوعي عميق، فالراية في حقيقة الأمر هي المظهر المعبّر عن المقصد والغاية، والقصد والغاية تدور عليها أحكام الإسلام، ولذلك كان أهل العلم يقولون عن حديث “إنما الأعمال بالنيات” أنه يدور عليه الإسلام، كما قال الشافعي: «هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه». (1[المجموع، للنووي، 1/ 36، طبعة إحياء التراث])
فالنية والقصد والغاية هي مدار الإسلام، والراية هي المظهر الخارجي للغاية والمقصد.
وقد نبّه النبي، صلى الله عليه وسلم، تنبيهاً خاصاً لمسألة الراية، كما روى مسلم في صحيحه من حديث جندب البجلي وأبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «من قاتل تحت راية عميّة؛ يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلة جاهلية». (2[مسلم، 4892])
أجمل مافي هذا الحديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نفسه شرح معنى «الراية العميّة» وهي أن تغضب لعصبة، أو تدعوا لعصبة، أو تنصر عصبة، فجمع المشاعر والانتماء العاطفي «الغضب»، والعمل الحركي «يدعو»، والنصرة وهي الدخول طرفاً في الصراعات «ينصر». وجعل كل هذه الأعمال في سبيل العصبة إنما هي «راية جاهلية».
ونبّه الإمام ابن تيمية في شرحه لحديث الراية هذا إلى أن “العصبية” هاهنا قد تكون عصبية لـ (قوم)، أو عصبية لـ (وطن)، كما يقول ابن تيمية:
“ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه، أو أهل بلده، ونحو ذلك؛ وسمى الراية عميّة”. (3[ابن تيمية، اقتضاء الصراط، 1/ 222، ت العقل])
وفي هذا الحديث السابق جعل النبي، صلى الله عليه وسلم، الراية “جاهلية”، وفي حديث آخر في صحيح مسلم نفسه جعل النبي فاعل هذا العمل خارج أمته، كما يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «ومن قتل تحت راية عميّة، يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة؛ فليس من أمتى». (4[مسلم، 4894])
وهاهنا تناسب واضح في العقوبة والفعل، فمن ناضل تحت راية غير إسلامية، فيعاقب بأن يخرج من راية الأمة الإسلامية نفسها.
ولذلك تلاحظ في من يرفع دوماً “راية” يشترك فيها مع غير المسلمين، ويرضى أن تكون هذه رايته التي يعمل في حياته من أجلها؛ أن هذا التشابه في الظاهر يورث تشابهاً مع غير المسلم في الباطن، كما نبّه الإمام ابن تيمية في مسألة التشبه، حيث يقول:
“المشاركة في الهَدْي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين؛ يقود إلى موافقةٍ ما في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا لذلك، إلا أن يمنعه مانع”. (5[ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 80، ت العقل])
بل هناك ما هو أخطر من ذلك، وهو تسرب الحب والموالاة لغير المسلمين؛ كما يقول ابن تيمية:
“المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحسّ والتجربة”. (6[ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 488])
فإذا كانت هذه آثار المشابهة في اللباس والهَدْي الظاهر، فكيف بالمشابهة في الراية..؟!
وقد استخلص الإمام ابن تيمية من مجموع النصوص القرآنية والنبوية الواردة في موضوع “الراية” قاعدة كلية رائعة؛ حيث يقول:
“وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب، أو بلد، أو جنس، أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية”. (7ابن تيمية، الفتاوى، 28/ 328])
راية الإنسانية
أحد هذه الرايات الجاهلية التي بدأت تزحف إلى واقعنا راية “الإنسانية”؛ فتجد البعض صار يقول: أنا لست مفكرا إسلاميا بل مفكر إنساني. والبعض يقول: نحن لسنا حركة إسلامية، بل حركة إنسانية. والبعض يقول لا تسمينا (متطوعين إسلاميين) بل نحن أصحاب أفُق أوسع نحن (متطوعون إنسانيون)، والبعض يصف المساعدات التي يقدمها المسلمون لإخوانهم على أنها (مساعدات إنسانية) وليست مساعدات على أساس العقيدة..! وآخرون يقولون: يجب أن نُقصي اعتقاداتنا الشخصية، ونجتمع مع العالَم على أساس الإنسانية!
ومن التنبيهات اللطيفة لراية الإنسانية، التقاط جميل للشيخ ابن عثيمين ـ عليه رحمات الله ـ يقول فيه:
“أما هؤلاء، أي اليهود والنصارى، فليسوا إخوة لنا، فإذا قال قائل “إنهم إخوة لنا في الإنسانية” قلنا: لكن هؤلاء كفروا بالإنسانية، ولو كان عندهم إنسانية لكان أول من يعظمون خالقهم”. (8[ابن عثيمين، الشرح الممتع، 14/ 415، طبعة ابن الجوزي])
راية الوطنية
ومن الرايات العميّة الجاهلية (راية الوطنية)، وهي أشد تفشياً، وخصوصاً بعد أحداث العنف، ومن أخطر الدعوات على أساس هذه الراية، قول من يقول: ليتخل كل منا عن الدعوة لعقيدته، ولنجتمع على القضايا المادية للوطن! هذه الدعوة يرددها البعض اليوم بصيغة شبه صريحة..!
وقد نبه الشيخ ابن باز ـ عليه رحمات الله ـ على هذه الراية الوطنية مبكراً؛ فيقول:
“الواجب أن يكرّسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى تحكيمه؛ بدلا من الدعوة إلى قومية أو وطنية”. (9[ابن باز، نقد القومية العربية على ضوء الإسلام، ص30])
وفي موضع آخر تحدث الشيخ ابن باز حول حضور هذه الراية الوطنية في الحروب:
“وعلِّقوا النصر بأسبابه التي علقه الله بها، لا بالعروبة، ولا بالوطنية، ولا بالقومية، ولا بأشباه ذلك من الألفاظ والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان”. (10[ابن باز، مجموع فتاواه])
وأما سيد قطب ـ عليه شآبيب الرحمة ـ فقد شحن كتبه بالتحذير من هذه الرايات الجاهلية، حيث يقول مثلاً رحمه الله:
“وقد حارب الإسلامُ هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية، ولا راية القومية، ولا راية البيت، ولا راية الجنس؛ فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام”. (11[سيد قطب، ظلال القرآن، 6/ 3348])
وله من مثل هذه الإلماحات شواهد لا تنتهي.
وهكذا تحدث عن هذه الرايات “المودودي” و”ابوالحسن الندوي” وغيرهم، ولا نطيل بذكر الاقتباسات.
ومن المثير للاستغراب أن البعض يقر لك بأن (القومية) راية غير شرعية، ومع ذلك تجده يتغنى بالراية (الوطنية) برغم أنها أضيق منها..! فالقومية العربية على الأقل يدخل فيها مسلمون أكثر! لا أدري ما الفرق بين الوطنية والقومية..؟! إما أن يكونا كلاهما مشروعين، أو كلاهما باطليْن، فكلاهما رايتان على غير أساس العقيدة.
الخطر الأكبر من الرايات الجاهلية
أكبر ضرر من هذه الرايات الجاهلية هو “ضياع الأجر والثواب” على هذا العامل، فمن كان يعمل لله سبحانه وتعالى، فسيجد الثواب من الله جل وعلا، أما من عمل لهذه الرايات الجاهلية فإن الله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، كما قال الله في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه» (12[صحيح مسلم، 7666])
فمن يرى الوطنية والإنسانية ونحوهما من الرايات الجاهلية تتفشى في الشباب ثم لا ينصح لهم، فهو أناني لا تعنيه إلا نفسه، فغاية حب الخير للناس أن تسعى لتصحيح أعمالهم وإخلاصهم ومقاصدهم كي ينالوا الأجر من الله.
التمييز بين الوصف والراية
ومن المهم هاهنا التمييز بين “الوصف الشرعي الصحيح” و”الراية الباطلة”.
ومن أهم أمثلة ذلك وصف “المهاجرين” و”الأنصار” فهي أوصاف شرعية صحيحة، لكن لمّا استعملت في سياق عصبية لغير الحق، سماها النبي “دعوى الجاهلية..!” كما في صحيح مسلم عن جابر قال: «كنا مع النبى، صلى الله عليه وسلم، فى غزاة، فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصارن فقال الأنصاري “يا للأنصار”، وقال المهاجري “يا للمهاجرين”. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما بال دعوى الجاهلية»..؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار؛ فقال صلى الله عليه وسلم «دعوها فإنها منتنة». (13[صحيح مسلم، 6748])
فإذا كان هذا في وصف شرعي صحيح سمّاهم القرآن به كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة، 100] ومع ذلك لمّا صار راية عصبية لغير الحق سماه النبي «دعوى الجاهلية»..! فكيف بالله عليكم في راية “الإنسانية” وراية “الوطنية” التي يراد تذويب الحواجز العقدية فيها، ومساواة المسلم بالكافر، ومساواة السُنّي بالمبتدع؛ في كافة الحقوق، ومنها حق الدعوة والنشر، فالمسلم والكافر، والسني المبتدع؛ كلهم لهم الحق في نشر ما يشاؤون، فأي مساواة بين الحق والباطل أفظع من هذا..؟!
ولهذا نبه الشارع على مسألة “الراية” وبيّن خطورتها، ولهذا تفطّن أهل العلم والدعوة لخطر هذه الرايات العميّة الجاهلية..!
خاتمة
ومن تطبيقات هذه القاعدة، أعني التمييز بين الوصف والراية؛ أن استعمال “الوطن” أو “الإنسانية” في سياق الوصف الصحيح مشروع، كقولنا: «حب الوطن فطري»، أو قولنا: «الشريعة جاءت بتكميل إنسانية الإنسان»؛ فهذا كله استعمال لها في سياق الوصف الصحيح، ولا غبار عليه؛ وإنما الخلل في تحويلها إلى “رايات” تجعل هي المقصد والغاية، وتُجعَل هي أساس الولاء، وتُقلَب فيها الموازين الشرعية.
……………………………
الهوامش:
- [المجموع، للنووي، 1/ 36، طبعة إحياء التراث].
- [مسلم، 4892].
- [ابن تيمية، اقتضاء الصراط، 1/ 222، ت العقل].
- [مسلم، 4894].
- [ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 80، ت العقل].
- [ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 488].
- [ابن تيمية، الفتاوى، 28/ 328].
- [ابن عثيمين، الشرح الممتع، 14/415، طبعة ابن الجوزي].
- [ابن باز، نقد القومية العربية على ضوء الإسلام، ص30].
- [ابن باز، مجموع فتاواه].
- [سيد قطب، ظلال القرآن، 6/ 3348].
- [صحيح مسلم، 7666].
- [صحيح مسلم، 6748].
المصدر:
- الشيخ إبراهيم السكران