رمضان شهر الجهاد والعباده. فما الواجب علينا فعله في هذا الشهر الفضيل؟
رمضان شهر الفتوحات
رمضان في العصر النبوي – وعامة التاريخ الإسلامي – شهر جهاډ وانتصارات وحركةٍ دؤوبة لنصرة الإسلام، ولم يكن شهر صيام وتنسّك فحسب..
لكن هذا -ولا شك لم يكن لعموم المسلمين غالباً؛ بل كان لطائفة المجاهدين ومن كان في حكمهم لكونهم في نحر العدو؛ يكفون عن المسلمين شرورهم.. وقد كانت أشهر المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام في رمضان كبدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وشقحب، وفتح الأندلس، وبلاط الشهداء..
والمقصود أن من كان متفرغا فوظيفته الأولى – خاصة في رمضان – هي العبادة كما أمر الله عز وجل نبيه بقوله : { فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ(7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} [سورة الشرح(7-8)]
قال الطبري رحمه الله تعالى: “… إن الله تعالى ذكره أمر نبيه أن يجعل فراغه من كل ما كان به مشتغلا من أمر دنياه وآخرته إلى النصب في عبادته، والاشتغال فيما قربه إليه، ومسألته حاجاته …”اه 1[انظر جامع البيان (24/467) ]
وروى الطبري بسند صحيح عن الحسن – وهو البصري- في قوله : { فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ} قال: أمره إذا فرغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة.
خير الناس المجاهد والعابد
ولذلك كان خير الناس هذين الاثنين: المجاهد والعابد المتفرغ للعبادة؛ عن أبي سعيد الخدري قال: جاءَ أعْرابِيٌّ إلى النبيِّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ النّاسِ خَيْرٌ؟ قالَ: رَجُلٌ جاهَدَ بنَفْسِهِ ومالِهِ، ورَجُلٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعابِ: يَعْبُدُ رَبَّهُ، ويَدَعُ النّاسَ مِن شَرِّهِ. ». 2[رواه البخاري (6494)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : مِنْ خَيْرِ مَعاشِ النّاسِ لهمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ، يَطِيرُ على مَتْنِهِ، كُلَّما سَمِعَ هَيْعَةً، أوْ فَزْعَةً طارَ عليه، يَبْتَغِي القَتْلَ والْمَوْتَ مَظانَّهُ، أوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأْسِ شَعَفَةٍ مِن هذِه الشَّعَفِ، أوْ بَطْنِ وادٍ مِن هذِه الأوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاةَ، ويُؤْتي الزَّكاةَ، ويَعْبُدُ رَبَّهُ حتّى يَأْتِيَهُ اليَقِينُ، ليسَ مِنَ النّاسِ إلّا في خَيْرٍ.» . 3[أخرجه مسلم (۱۸۸۹)]
فوائد الخلوة
والخلوة تجمع على العبد قلبه فيعينه ذلك على التفكر والتدبر ومعرفة الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته ومحاسبة النفس والاستعداد للقاء الله عز وجل … وكلها معاني لا بد للعبد منها، ويفرط العبد بقدر ما تضيع منه ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : “… ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه …”اه 4[مجموع الفتاوی (۱۰/ 426)].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : “… المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذکره کَهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه. وأخرج من بين البيوت لعلَّني … أُحدِّث عنك النَّفس بالسر خاليا …”اه 5الفوائد (ص 6۷).
ويقول – عن شيخ الإسلام -: وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانا إلى الصحراء يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه. فتبعته يوما فلما أصحر – أي دخل في الصحراء – تنفس الصعداء. ثم جعل يتم يقول الشاعر :
وأخرج من بين البيوت لعلني … أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وصاحب هذه الحال: إن لم يرده الله سبحانه إلى الخلق بتثبيت وقوة، وإلا فإنه لا صبر له على مخالطتهم . اه 6[مدارج السالكين (3/61)]
مقاصد الاعتكاف وزمانه ومكانه
و شهر رمضان هو أولى الشهور لخلوة المتعبدين بربهم عز وجل؛ سعيا لنيل ما له من فضائل عظيمة..
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وفي السنة التي توفي فيها اعتكف عشرين يوما من رمضان، فعن عائشة رضي الله عنها: «كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ، حتّى تَوَفّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْواجُهُ مِن بَعْدِهِ. »7 [رواه البخاري (۲۰۲6) ومسلم( 1172) ]
ومحل الاعتكاف المساجد التي تقام فيها الجماعات، والأفضل له الاعتكاف في المسجد الجامع، وإن لم يعتكف في المسجد الجامع صح اعتکافه، ويجب عليه الخروج لصلاة الجمعة في الجامع ثم العودة إلى مسجده الذي اعتكف فيه..
يقول ابن القيم رحمه الله في بيان غايات الاعتكاف ومقاصده: “وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فیستولى عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان” 8[زاد المعاد(2/87) ]
ما يجب علينا فعله في رمضان
وقد لا يتيسر لكل أحد مكانا يخلو فيه بنفسه، وحينئذ فمخالطة الناس لا مفر منها، وليبذل العبد جهده على ألا يعصي الله عز وجل؛ لا بلسانه ولا ببصره ولا بسمعه ولا بجوارحه..
وليحرص على عدم الاعتداء على الناس فإن أذاه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللہ صلی الله عليه وسلم قال: «الصِّيامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قاتَلَهُ أوْ شاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صائِمٌ مَرَّتَيْنِ ». 9[رواه البخاري (۱۸۹4) ومسلم (۱۱5۱)].
وليمسك لسانه فلا يخرج من فيه أي كلام فحش أو غيبة أو نميمة … ولا غيرها، ولا يرفع صوته وليتحلى بالسكينة والوقار
وليشغل عامة أوقاته بمدارسة القرآن الكريم؛ وقد كان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة في رمضان -حتى ينسلخ يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ.”.10 [رواه البخاري (6) ومسلم (۲۳۰۸)].
“… كانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ يَلْقاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضانَ، حتّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليه النبيُّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ القُرْآنَ…”11 [رواه البخاري (۱۹۰۲) ومسلم (۲۳۰۸) ]
وبالجملة: عليه أن يحرص على امتثال تعاليم الكتاب والسنة في كل شؤونه، قال الله تعالى : { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ } [سورة الأنفال/24]
قال القرطبي رحمه الله تعالى: “… وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجیبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي؛ ففيه الحياة الأبدية، والتعمة السرمدية …”اه 12[الجامع لأحكام القرآن (3/389) ]
وها هو رمضان قد فسح الله تعالى للسائرين في طريقه جل وعلا بموسم جديد منه؛ لينظروا فيما قصروا فيه مما مضى؛ فيستدركوا، ولينظروا فيما ينبغي عليهم عمله في مستقبل أيامهم.. فمن استشعر ذلك وعمل بموجبه وجاهد نفسه وبذل الجهد والنفس والنفيس يوشك أن يصل لرضا الله عز وجل ..
نسأل الله تبارك وتعالى أن يشملنا جميعا في رمضان وغيره – بفضله ورحمته وكرمه..
الهوامش:
- انظر جامع البيان (24/467).
- رواه البخاري (6494).
- أخرجه مسلم (۱۸۸۹).
- مجموع الفتاوی (۱۰/ 426).
- الفوائد (ص 6۷).
- مدارج السالكين (3/61).
- رواه البخاري (۲۰۲6) ومسلم( 1172).
- زاد المعاد(2/87).
- رواه البخاري (۱۸۹4) ومسلم (۱۱5۱).
- رواه البخاري (6) ومسلم (۲۳۰۸).
- رواه البخاري (۱۹۰۲) ومسلم (۲۳۰۸).
- الجامع لأحكام القرآن (3/389).