الخلل في فقه ترتيب الأولويات

انشغالُ العلماء عن دورهم الذي أُخذ عليهم فيه الميثاق، أدّى إلى ضَعْف المسلمين وتَسَلُّط أعدائهم وعملاء أعدائهم عليهم، وإلى غزو الكَفَرة بُلدانَهم، ومصادرةِ قراراتِهم، واستلابِ أموالِهم، حتى صار حُكّامُهم – بسكوت العلماء عنهم – يأخذُ منهم الكَفَرةُ الذين يُبيدون إخوانَهم في فلسطين الجِزية عَنْوَة عَنْ يَدٍ وهُم صاغرون!

جروح نازفة: الخلل الجهادي والدعوي في موازين الأولويات

قضايا الأمة في الولاء والبراء وقضاياها الجهادية والدعوية وما يتعلق بها من إعزاز الدين ونُصرة المسلمين وفضح المنافقين مُثْقَلَةٌ بالأسقام، ومُثخَنَةٌ بالجراح، بسبب الخلل في فقه وترتيب الأولويات في حياة المسلم.

وهذا الخللُ مع أنه ناجم عن قِلة تَفَقُّه في الدين وتَبَصُّر، هو مَظْهرُ تَخَلُّف وتَأَخُّر في حياة الأمم، خللٌ ينمو مع الأيام في حياة الناس ويتزايد، لِتَدني مُستوى حظوظهم مِنَ التعليم، وبُعدهم عن تعاليم الدين.

مسائلُ هذا الخللِ كثيرٌ مِنها مِنَ المُتَشابه الذي يَلْتبس حتى على طَلَبة العلم أحيانا، فضلا عَمّن هب ودب من الخائضين، فلا يُنزلون الكلام فيها – مِن مُحْكَمات الدين وقواطع الشرع – مَنازِلَه، فيحصل التشغيب.

كشف لأشهر تجليات الخلل في فقه وترتيب الأولويات

وفيما يلي تذكيرٌ ببعض ما هو شائع من هذا الخلل:

1- تقديمُ النوافل والمندوبات على الفرائض والواجبات

كمَن يَتغيب عن عمله أثناء الدوام في الدوائر ومعاهد العلم، الذي يَأْخُذ عليه أجرا، – ليعود المريض، أو يشهد العزاء، أو ليُجيب الدعوةَ لوليمة العُرس، حتى إنك لا تجد يوم الوليمة من الأسبوع أحدا في مَكْتَب!

ومَن يترك مركبته في الطريق كيفما اتفق لِلَّحاق بالجنازة في المقبرة، أو بصلاة الجماعة في المسجد، ويَحْبِس المارةَ الوقتَ الطويل، وفيهم العَجِل والمحتاج والمريض!

2- تأخير ما هو أعظمُ مِنَ الفرائض عما هو دونه، وتقديمُ ما هو مَوَسّع منها وأقلّ إلحاحا على ما هو مُضيّق وأشدّ إلحاحا

كمن يصوم ولا يصلي، والصلاةُ أعظم!

ومَن يسأل عن وقوع الطلاق عليه بِسبّ الدين أو وهو سكران، ولا يسأل عن الرِدّة بِسَبّ الدين، ولا عن شُرب الخمر أمّ الخبائث!

ومَن يحج بيت الله الحرام ويَترك جهادَ العدو الذي يغزو أرضَه، والجهادُ بالنفس والمال لِدَفع العدو مُقدّم في الشرع!

ومَن يُنفق الآلاف المُؤَلَّفَة على بناء مسجد إلى جنب آخر، غيرُ محتاج إليه، ودُورُ العلم تُقفَل أبوابُها لانقطاع الأوقاف الأهلية الراعية لها، وعدمِ وجود من يتولاها!

ووقفُ الأملاك على دُور العلم لتخريج العلماء وإعدادهم صاحبُه شريكٌ – في الأجر للعلماء الذين خَرَّجَهُم وأَهَّلَهُم – في كلّ الأعمال العظيمة التي انتفع الناسُ بها ودَعَوْهم إليها، ومنها بناء المساجد عند الحاجة إليها وتعميرها، والقيامُ برسالتها من إعزاز الدين وتعليم المسلمين أركان دينهم، وتحرير بلدانهم من الكفرة وأحلاف الشياطين.

3- التناقض فيما يَصْدُر عن المُكَلّف

فلا يكون موزونا بميزان الشرع، بل بميزان العادة والطبع، أو حتى بالطمع، ولا تكون المصالح والمفاسد المتعلقة بالشأن العام عنده مُقَدَّرةً بتقدير الشرع مِنْ أهل هذا الشأن، بل مُقَدّرة من الخائضين فيها بالمصالح والمكاسب الحياتية، فاختلت بذلك الموازين.

فموظف المصرف مثلا حين يُسلف العميل مِقدار مُرَتّبه المتأخر (على الأحمر) بفائدة، يَحْسِب أنه يُحسن صنعا ويعمل معروفا، ويَغفُل عَنْ أنّ آكِل الربا ومُوكِلَه ملعون مطرود مِن رحمة الله!

وترى مَن يتصدر للإصلاح والدعوة إلى الله، ويَؤُم الناسَ في المساجد، ثم هو يَتَكسّب مِن عمله في الدوائر القانونية، أو في المجالس التشريعية والبرلمانية، المُؤسَّسَة على غير تَقوى، يَحمي بعمله الاستبدادَ والفساد، ويُثَبّت حُكم الطُغاة والقَتَلة والمُجرمين، ويَشُد أركانهم، حالُه في هذا مع عمله الآخَر الصالح كحال مَن يأمرون بالبر ويَنسون أنفسهم، الذين قال الله في توبيخهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، ثم هو في هذه الدوائر القانونية، والمجالس البرلمانية المُؤسَّسَة على غير تقوى، يُحَلّل الحرام، ويُحَرّم الحلال، ولا يَلتفت إلى أن تحليل الحرام يَهدِم أعماله الأخرى الصالحةَ كُلَّها!

ومَن يُوالي الكفرةَ وأعوانَهم، ويَتّبِع سبيلَ غير المؤمنين، ثم يَنتسب إلى حزب أو جماعة تتسمى بالإسلام، وموالاةُ الكافرين مِن نواقض الإسلام لا تَجتمع مَع التَسَمّي باسمه!

ومَن يَتهاون في المَظالم والحُرمات، ويُلاحق العلماءَ والأبرياءَ، أو يَعمل سَجّانا أو جَلّادا، أو يُدير مُعتقلات التعذيب، أو صفقات نهب المال العام بالملايين، ثم هو يَتَصَدّق على الفقراء واليتامى، ويُوَزّع الأضاحي في الأعياد، ويُفطر الصائمين، ولا يُعرَف بَين الناس إلا بــ (الحاج) أو بــ (الشيخ)!

ورَفْعُ ظُلم عن مظلوم واحد، وفَكّ أَسْرِه خَيْرٌ مِن ذلك البِرّ والمَعروف كله، فإنّ مَن لَقِي اللهَ بحقوق عباده ذَهب عملُه أدراج الرياح، وكان ثوابُه لصالح مَن انتَهَك حُرماتِهم، أو سفك دماءَهم ونَهَب أموالَهم.

ومَن يعتمرون كُل عام، أو أكثر من مرة في العام، ويتزاحمون على أسواق الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية المُتَربّصة بهم قُبالة المسجد الحرام ومِن جوانبه، الداعمة للصهاينة – إن لم تكن كُلّها لهم – يُنفِق المُعتَمِرون فيها أموالَهم بأريحية وسخاء، والمرابطون في غزة حول الأقصى المُغتصَب مِن المسلمين يموتون جوعا!!!

ليس بعد هذا مِن قسوةٍ وغَفْلَةٍ وإن أُلبِسَ لباسَ الطاعة! فاليهود لا يُخفون أنّ أطماعهم لن تتوقف عند الأقصى ثالث الحرمين الشريفين.

4- انشغال العلماء بأمور غير مُلِحّة في وقتها، عن قضايا الأمة الكبرى المُلِحّة

إما عَن غَفلة وتفريط، وإما بإسكاتهم مِن حكام السوء لقاء ما يُلقونه إليهم مِن فُتات السلاطين، يَنتزعون به منهم أَعَزّ ما يَمْلكون، وهو قولُ الحقّ، وثمنُه الجَنّة! مقابل حُطامٍ رَخيصٍ لا يُكَلف الحكامَ شيئا.

وانشغالُ العلماء عن دورهم الذي أُخذ عليهم فيه الميثاق، أدّى إلى ضَعْف المسلمين وتَسَلُّط أعدائهم وعملاء أعدائهم عليهم، وإلى غزو الكَفَرة بُلدانَهم، ومصادرةِ قراراتِهم، واستلابِ أموالِهم، حتى صار حُكّامُهم – بسكوت العلماء عنهم – يأخذُ منهم الكَفَرةُ الذين يُبيدون إخوانَهم في فلسطين الجِزية عَنْوَة عَنْ يَدٍ وهُم صاغرون!

هذا ونحوُه من خللِ فقه الأولويات إن لم يُتدارك هو فادحُ الضرر، تَكْلُفَتُه باهظة على الأمة، وتبعاتُه جسيمة وإن استسهله الناسُ واستصغروه، لإلْفِهم إياه، وتعودهم عليه.

المصدر

دار الإفتاء الليبية، الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

اقرأ أيضا

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (4-7) أثر الخلل في العلم بفقه الموازنات

الصفات المهمة للعلماء والدعاة المؤثرين في الأمة

فقه المرحلة وفقه المواجهة

عشر قواعد في التعامل مع الأحداث والنوازل والحكم عليها

القواعد الشرعية للمسلم تجاه القضايا العامة .. خطورة الفتن وطُرق الهداية

التعليقات غير متاحة