الإسلام يقوم على العدل وليس على الفلسفة (البراجماتية) التي تجعل المصلحة فوق المبدأ كما قال اليهود: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة:41]، والمسلمون يعدلون بين الحضارات والفلسفات والنظريات والبحوث والأفراد والجماعات والفرق، ولا يحكمون على أحد من خلال كلام خصمه، ولا يبهتون أحدا أو يقولونه ما لم يقل، أو يقتطعون من كلامه أو يحرفونه.
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها حضارة عدل مطلق
والعدل من القيم المطلقة في الإسلام، وبه قامت السموات والأرض، ولم يحد عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون أو صحابته الكرام أو أحد من السلف قيد شعرة، واستنباطا من القرآن والسنة وسير السلف قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “العدل واجب على كل أحد لكل أحد في كل حال”.
وقال ابن القيم: “أي طريق استخرج بها العدل والقسط، فهي من الدين وليست مخالفة له”.
وقال عن الشريعة: “عدل كلها”.
ومما ينافي العدل الظلم والاستبداد، فليس في الإسلام استبداد كما قد يظنون.
والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى العدل، يشهد بذلك المؤمن والكافر سواء.
من أهم مميزات العدل في الإسلام
وكثرة الظلم في عالمنا اليوم هو أحد الأسباب الموجبة للإطالة فيه أكثر من غيره من الميزات، ونوضح ذلك في عدة نقاط:
1- أنه في الإسلام عدل شامل في الأقوال والأفعال والمعتقدات، ويذكرنا به خطباء الجمعة جزاهم الله خيرا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90].
ومن الوصايا العشر في سورة الأنعام (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام:152].
2- أن ذلك العدل مع العدو والصديق قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) [المائدة:8]، وأعدى أعداء الله هم اليهود، ومع ذلك قال فيهم الله: (مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ) [الأعراف: 168]، والصالحون هم من آمن بموسى عليه السلام ثم بعيسى عليه السلام ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
3- أنه أيضا مع القريب والبعيد (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) [الأنعام: ١٥٢]، وقال: (وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء: 125].
4- أن العدل واجب حتى مع المشركين الذين يصدون أهل الإيمان عن بيت الله الحرام قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) [المائدة:2].
وحتى مع الكفار من المشركين وأهل الكتاب، (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15]، (لَيْسُوا سَوَاءً) [آل عمران: 113].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “جماع كل خير العدل وجماع كل شر الظلم”.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية عن دعوة الرسل:
وكذلك نقطع أنهم جاءوا بعد ل الله بين طوائف الإنسان
وأعدل الخلق هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك أوصاه ربه: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] .
ونهاه أن يجادل عن الذين يختانون أنفسهم، وأمره بالعدل إن عاقب على أن الصبر خير: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) [النحل : ۱۲6].
ولما قال له أصل الخوارج: اعدل يا محمد. قال: (ويحك، ومن يعدل إن لم أعدل).
وأعظم العدل إنما يكون بالحكم بين الناس وفق كتاب الله قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة ٢١٣].
وليس التحاكم إلى عبارات فضفاضة أو شعارات مطاطة مثل القانون الطبيعي، الحقوق الإنسانية، الحرية … الخ.
تحريم الظلم على الناس كافة
ومن شدة كراهية الظلم حرمه الله على نفسه فقال في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا).
ومن كان ناصحا فليحذر من الظلم كل من يرتكبه ولو كان ملكا، أو شركة أو أمة أو جماعة. وليس من العدل أن يتهم النصارى، أحط خلق الله وأكثرهم مكرا – أعني اليهود – بأنهم سبب ما يسمى “الوباء الأسود”، أو اتهام هتلر بإبادة الشعوب وإهمال ما فعله “ستالين” و”روزفلت” و”تشرشل” و”ماوتسي تونغ”، لا سيما وقد قتل “ستالين” من المسلمين أكثر مما قتل “هتلر” من اليهود.
وليس من العدل إنشاء محاكمات “نورمبرغ” لمحاكمة النازيين دون إنشاء محاكم أخرى لمحاكمة الشيوعيين والرأسماليين.
العدل ميزان الله في أرضه
والعدل هو القسط الذي أمر الله به، والميزان الذي لا يحيف قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: ٢٥].
وقال: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن: ٧-٩] قال مجاهد وقتادة: الميزان هو العدل.
حقوق الإنسان والكيل بمكيالين
وازدواجية المعاير أو الكيل بمكيالين كما يفعله الغرب اليوم هو ما فعله قوم شعيب عليه السلام (أهل مدين) الذين كان من جرائمهم كما ذكر الله، تطفيف الكيل والوزن، وبخس الناس أشياءهم، وتوعد الله تعالى المطففين في كل زمان ومكان بالنار فقال: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: ١-٣] الآيات.
وأكبر المطففين في عالمنا المعاصر هم الأمريكان الذين يكيلون للفلسطينيين بمكيال ولليهود بمكيال آخر، ويشترون برميل النفط برخص ويصنعون منه أنواعا لا حصر لها يبيعونها على الدول النفطية نفسها بأضعاف مضاعفة.
وهكذا دأبت شركاتهم الاقتصادية على هذا التطفيف، ولكن في صورة عصرية. فأين هذا من الإسلام الذي يزن الأمور بالعدل مع الموافق والمخالف.
الإسلام عدل وتسامح مع غير المسلمين
ومن عدل أهل السنة أنهم يعاملون أهل الذمة بمقتضى عقدهم، كما عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسار على ذلك السلف والمتأخرون من أتباعهم، وخذ مثالا لذلك من واقع شيخ الإسلام ابن تيمية حين كتب لملك قبرص يحثه على إطلاق أهل الذمة مع المسلمين، وحين أفتى بأن رافضة كسروان لا يقتلون بل يفرقون بين أهل الإسلام ويُعلمون الدين.
وهكذا جاء المسلمون بالعدل بعد أن كانت الجاهلية تراه ضعفا وهوانا.
قال شاعرهم:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسانا
وقال الآخر في معرض الذم:
قبيلة لا ينفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فأين هؤلاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعذاب منه) .
بل قوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال :٥٨]
ليس من العدل في شيء ما تفعله أمريكا بالعالم الإسلامي
وليس من العدل في شيء أن تدمر أمريكا الشعب الأفغاني بتهمة أنه يؤوي تنظيم القاعدة المتهم بأنه نفذ أحداث ۹/۱۱ دون أن يحاكم الأمريكان أحداً، أو يتيحوا للملا عمر رحمه الله أن يقول كلمته، وكذلك أن تعتدي أمريكا على العراق وتحتله لاحتمال وجود أسلحة دمار شامل فيه.
وليس منه استخدام الأمريكان في الاحتلال الأسلحة المحرمة دوليا، والأسلحة النووية التكتيكية كما يقولون، والأسلحة الذكية والحرب البيولوجية واليورانيوم المنضب.
وليس من العدل ما فعله الأمريكان من إزهاق أرواح الملايين وقتل المواليد في أرحام أمهاتهم ودفن النفايات النووية، ونشر السرطان في المنطقة كلها وليس في العراق وحده، ولا يكفي لتبرير ذلك اعتراف “بوش” بأن المخابرات ضللته، ومن الذي أنشأ وحدة التضليل غيره؟ وهل حاكم المخابرات على هذا التضليل أم أن دماء المسلمين رخيصة إلى هذا الحد؟
من نماذج العدل في التاريخ الإسلامي
قارن ذلك بعتاب الله تعالى لنبيه الكريم حين ظن أن قائل الشعر الباطل هو فلان اليهودي، وليس فلانا المنافق مع أن كلا منهما كافر، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم دفع ديات بني جذيمة لما قالوا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا.
وكيف أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حكم لأهل سمرقند لما علم أن قتيبة بن مسلم الباهلي دخل مدينتهم غدرا.
وأنكر عمرو بن عبسة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن يهاجم الروم قبل أن ينبذ إليهم.
وأنكر أبو عبيدة أن يقام أهل الذمة في الشمس.
وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة وأحداث التاريخ الإسلامي.
ومن عدل هذه الأمة أنها تجعل المخالف أقساما ودرجات وذلك ليس في تاريخ غيرها قط، فالناس درجات منهم الكافر والمعاهد، ومن هو للكفر أقرب منه للإيمان ومنهم ضعيف الإيمان ومنهم صاحب الهوى ومنهم المبتدع الداعي وغير الداعي ومنهم المكابر والجاهل.. وهكذا.
بالعدل تستقر الأمور ويأمن الناس
وفي التاريخ أن الحجاج المشهور بظلمه لما جاء إلى المدينة وكان أميرها عمر بن عبدالعزيز سأل أهلها: (كيف أدبه؟ قالوا ربما ضرب السوط أو السوطين، قال: كيف محبته عندكم؟ قالوا: هو أحب إلينا من أبنائنا، قال كيف هيبته فيكم؟ قالوا: لا نستطيع أن نملاً عيوننا منه هيبة له، فقال الحجاج: هذا أدبه وهذه محبته وهذه هيبته، هذا أمر من السماء).
واستأذن أحد عمال عمر بن عبدالعزيز أن يستخدم القوة وقال: إن بلاد كذا لا يصلحها إلا السيف والسوط فكتب عمر: كذبت وإنما يصلح الناس بالعدل.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد دراسة مستقصية لأحوال المجتمعات: “إن الله فطر النفوس كلها على محبة العدل وكراهية الظلم”، ولذلك ينبهر بعض المسلمين إذا سافر من بلاد ديكتاتورية في الشرق إلى بلاد ديمقراطية في الغرب.
صور من العدل
ومن العدل الأمانة العلمية وصحة النقل، ونسبة القول إلى قائله، ومعرفة سياق القول، واعتبار لازم المذهب ليس بمذهب.
ومن العدل أداء الحقوق التي أمر الله بأدائها كحق الوالدين وحق الأزواج وحق الإمام العادل وحق اليتيم وحق الضعيف وحق الأسير وحق الضعيف، وحق الحيوان وحق المملوك وحق العالم وحق الكبير وحق المريض وحق الميت وحق الطريق… الخ.
ومن العدل المساواة بين الرجلين في الانتعال، والمساواة بين أجزاء الجسم في الاستظلال من الشمس.
والله تعالى من صفاته أنه الحكم العدل، وقد وصف أهل الكتاب بأنهم (لَيْسُوا سَوَاءً) [آل عمران ۱۱۳]، وقال عن اليهود: (مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ) [الأعراف : ١6٨]، وذكر أن (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) [آل عمران: ٧٥]، وجعل اليهود أشد عداوة من النصاري.
ومن العدل أن نأخذ حكمنا على بني أمية وبني العباس وآل عثمان من مصادره الموثوقة وكلام العلماء الأثبات، ولا نأخذه من كلام أعدائهم كأبي الفرج الأصبهاني الرافضي أو القوميين العرب.
ومن العدل حسن الخلق مع الناس كافة، (حتى اليهود لما دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: السام عليك يا محمد أي الموت فهمت ذلك الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت بل عليكم السام واللعنة، لكنه قال لها: يا عائشة : إن الله يكره الفحش والتفحش).
ومن عدل هذه الشريعة الغراء أنها تقطع يد السارق لسرقته، لكنها تعطيه لحاجته إذا كان فقيرا كما قال ابن تيمية، وأنها تقتل المسلم إذا كان محارباً، وتترك الكافر إذا كان معاهدا.
ومن العدل أن ننظر إلى كمال النهاية لا إلى نقص البداية فقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ونشأ الشافعي محبا للأدب والشعر، ونشأ الشيخ حسن البنا على الطريقة الحفصية، كما نشأ الفضيل بن عياض قاطع طريق، ونشأ أبو الحسن الأشعري معتزليا، ونشأ إبراهيم بن أدهم مترفا، ونشأ صلاح الدين مقاتلا في جيش نور الدين، ونشأ ابن مسعود راعي غنم، ونشأ عثمان جد العثمانيين شيخا لعشيرة تركية في أواسط آسيا،وهكذا.
ومن العدل أن نرد الكلام المجمل أو الغامض أو المشتبه، إلى الكلام المفصل الواضح المحكم، ثم نحكم على أي قائل أو كاتب وإنما العبرة بالمنهج.
ومن العدل معرفة الظرف الذي قال فيه القائل ما قال، أهو ظرف إكراه أم ظرف اختيار، أم ظرف تربية لفرد بعينه أو منهج عام مع كل فرد.
العدل واتباع الهوى ورغبات النفس
وليس للعدل علاقة برغبات النفس وما فيها من حب وبغض، فلما أراد يهود خيبر أن يرشوا عبدالله بن رواحة رضي الله عنه قال: “لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأنتم والله أبغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير، وما كنت لأحابيه وأظلمكم، قالوا: لهذا قامت السموات والأرض”.
وابن القيم على حبه لشيخ الإسلام الهروي قال في “مدارج السالكين”. “شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب منه”.
ونهى الله عن اتباع هوى النفس بترك العدل فقال: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا) [النساء: ١٣٥]، وقال لعبده داود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].
فالإسلام يقوم على العدل وليس على الفلسفة (البراجماتية) التي تجعل المصلحة فوق المبدأ كما قال اليهود: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة:41]، والمسلمون يعدلون بين الحضارات والفلسفات والنظريات والبحوث والأفراد والجماعات والفرق، ولا يحكمون على أحد من خلال كلام خصمه، ولا يبهتون أحدا أو يقولونه ما لم يقل، أو يقتطعون من كلامه أو يحرفونه.
ويقبلون الحق ولو قاله الطرف الآخر، ذكر ابن رجب في كتابه “الفرق بين النصيحة والتعيير” أن بعض السلف الصالح ما ناظر أحدا إلا ألجمه وقطعه، فقيل له لم يحصل لك ذلك؟ قال: “ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه”.
وقال الربيع تلميذ الشافعي عنه: “ما ناظرت أحدا وأوردت عليه الحق فقبله إلا هبته، ولا كابري أحد ورد الحق إلا سقط من عيني”.
المسؤولية عن العدل مشتركة بين كل المسلمين
جاء أحد الشرط إلى بعض أئمة السلف – قيل إنه الإمام أحمد وقيل سفيان الثوري – فسأله: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام: بل أنت من الظلمة أنفسهم، أعوان الظلمة: الخباز والبقال والخياط وأمثالهم.
وقال المفسرون من السلف والخلف في قوله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: ٢2]، أي أشباههم وأمثالهم، ويشهد لذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص:8] .
ولا عذر للأتباع في ترك الحق ولا ينفعهم أن يقولوا للسادة الكبراء يوم القيامة: (إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات: ۲۸]، قال ابن عباس معناه كنتم تقهروننا. فلو أن أحدا استقال أو أنكر المنكر بقدر استطاعته ما أرغموه.
وقولهم هذا إقرار منهم بشرك الطاعة الذي ذكره شيخ الإسلام، وبطاعتهم فيما نهى الله عنه يكونون قد اتخذوهم طواغيت كما ذكر ابن القيم وابن جرير، إلا إن كانوا لا يعلمون مخالفتهم لأمر الله.
وحب الأتباع للدنيا وتعلقهم بها هو الذي يدفعهم للعبودية، وإلا فإن أرض الله واسعة ورزقه مكتوب.
أحكام الله تعالى في الدنيا والآخرة تدور بين العدل والعفو
والله تعالى من عدله يحكم حتى بين البهائم: وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنزين تنتطحان فقال لمن كان معه: (أتدرون فيم تنتطحان؟ قالوا لا. قال: ولكن الله يعلم وسيقضي بينهما).
وهو تعالى كما يقضي بين البهائم وينصف الشاة الجماء من الشاة القرناء ينصف الأمم المستضعفة من الأمم المستكبرة، فأحكامه تعالى في الدنيا والآخرة تدور بين العدل والعفو، وذلك من كمال عدله وتنزهه عن الظلم، وليس ذلك راجعا إلى محض المشيئة كما يقول المتكلمون، نعم له تعالى المشيئة المطلقة بحيث لو عذب أهل الأرض لعذبهم غير ظالم لهم، ولكن له تعالى مع ذلك الحكمة فيما يفعل ويختص بكمال الحكمة وكمال القدرة.
ومن عدل الله في خلقه أن جعل العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس، وعاتب أحد أنبيائه لما قرصته نملة فانتقم من قرية النمل كلها، وأوحى إليه فهلا نملة واحدة! ومن العدل التفريق بين وحدة الوجود ووحدة الشهود.
من العدل أن يعطى كل إنسان حقه وإن أخطأ
وأكثر الناس بدعة اليوم وانتشارا في صفوف المسلمين هم أهل التصوف، فلا ينسينا أن ليس في إحياء علوم الدين كلام عن الجهاد ما فيه من المحاسن لاسيما في ربع المهلكات.
ولا ينسينا كون ابن عطاء الله السكندري مثلا شاذليا، ما في الحكم من الحق.
وقد ضرب ابن القيم المثل في العدل مع الصوفية، في أول شرح “منازل السائرين” للهروي الذي شرحه ابن القيم “بمدارج السالكين” المعروف.
وإذا جاهد رجال الطريقة النقشبندية في العراق كان ذلك عملا حسنا لا نجحده، بل نحن نؤمن بالميزان وتؤمن بأن الشهيد يغفر الله له عند أول قطرة من دمه.
والنقشبندية وإن كنا نحذر منها هي أقل شرا من المولوية والبكتاشية وشر منها العلمانية التي نادى بها أتاتورك وبموجبها ألغى الحروف العربية حتى إنه منع الأذان بالعربية، وأمر الناس بالجلوس على الكراسي في المساجد كما يفعل النصارى في كنائسهم، وأجبر الناس على الكفر.
ولا ريب أن خيرا من ذلك كله اتباع السلف الصالح، وما كان أبو حنيفة وتلاميذه أبو يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل إلا دعاة لتحكيم النص، وكذا سائر الأئمة الأربعة وفقهاء أهل العراق، كإبراهيم وعلقمة ومسروق، وكل من أخذ عن ابن مسعود أو علي رضي الله عن الجميع، وإلى هذا ندعو الأتراك وأنفسنا وكل المسلمين.
والذين سوف يفتحون روما هم كل المسلمين وليس فرقة منهم فقط، وبالمسلمين جميعا يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية كما رواه أحمد والحاكم، والتاريخ علو وهبوط، نصر مؤزر يوم بدر وقرح شديد يوم أحد، وهكذا الناس يردون موردا واحدا ولكنهم يصدرون مصادر شتى.
وليس من العدل أن نكلف يوسف عليه السلام أن يكون كمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا أن نكلف النجاشي أن يكون كأبي بكر الصديق، أو أن نكلف مؤمن آل فرعون أن يكون كصهيب.
ومن العدل أن نفرق بين المعاملة الحسنة والاستشارة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بکمال شفقته ورأفته، نزع قميصه الشريف ليكون كفنا لعبد الله ابن أبي بن سلول، ومع ذلك لم يكن يستشيره ويستوزره، وإنما كان وزراؤه أبا بكر وعمر، ولم يول أحدا من المنافقين على إقليم أو جيش أو جباية. فهذه سيرته الطاهرة بين أيدينا، حيث الجمع بين كمال الرحمة والشفقة، وكمال الحذر والاحتراس.
العدل هو مفخرة كل الأمم في كل عصر
فلا يزال المسلمون يفخرون بعدل عمر بن الخطاب ولا يزال الفرس يفخرون بعدل “أنوشروان” ولا يزال الأمريكان يفخرون بعدل “بنيامين فرانكلين”، كما أن الفرنسيين يفخرون بما حققته الثورة الفرنسية من العدل.
أما الظلم فينفر منه الناس مؤمنهم وكافرهم سنيهم وبدعيهم، لكن على المسلم إرغام نفسه على العدل ولو كان مع الكفار وأهل البدع، فالألمان مثلا هم أقرب الشعوب للفطرة الإيمانية مع ما في بلادهم من الكفر وما في حكومتهم من الظلم.
وقد كان منهم أعظم عباقرة الغرب ومنظريهم، مثل “لوثر” و”هيجل” و”كانت” و”لايبنتز” و”بلانك و”جوته” و “آينشتاين” و”ماركس” و”ياسبرز” و”بيت هوفن” و”فيورباخ” و “شوبنهور” و”شبنجلز” و”نيتشه” و”كبلر”.
ولم يستعمر الألمان أي بلد إسلامي، وزار الامبراطور الألماني “ويليم الثاني” القدس وإسطنبول أيام السلطان عبد الحميد الثاني، ووقفت الدولة العثمانية مع الألمان في الحرب الأولى ولا يزال كثير من الأتراك في ألمانيا.
وبعض الأمريكيين يقولون إن أكثرهم مهاجرون من ألمانيا، وليس من إنجلترا.
ومن المجلات الألمانية المشهورة في أمريكا مجلة “أي أي أر”، وهم يكرهون اليهود وإن كانت حكومتهم تدفع تعويضات لإسرائيل، ويضغطون على بقية دول الاتحاد الأوربي لاستقبال اللاجئين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا).
هكذا نعدل مع الكفار، وأما أهل البدع فلا نساوي بعضهم ببعض ولا نظلمهم في شيء، فالزيدية مثلا خير من الإثني عشرية، والأشعرية خير من المعتزلة، والمعتزلة خير من الفلاسفة وهكذا.
والحق مقبول وإن كان قائله من أهل الكلام أو البدعة، قال شيخ الإسلام في “منهاج السنة”: “والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق ولا نقول عليه بلا علم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي ما فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا ترد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق”.
فرحم الله شيخ الإسلام على عدله، فهل نتخلى عنه ونطيع تركي الحمد الذي قال يجب أن نتخلى عنه!
العدل هو أساس الملك
كما أوضح الوزير نظام الملك في “سياست نامه” أو “سير الملوك”، وأقره على ذلك شيخ الإسلام، وبين ما ينبغي للحاكم في كتابه “السياسة الشرعية”، وبه أعلى الله شأن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود زنكي.
وقاضي القسطنطينية حكم على فاتحها محمد الفاتح الوارد الثناء عليه في الحديث لصالح رجل من العامة.
وقس هذا العدل الرباني بما يفعله الجاهليون في أمريكا اليوم من الظلم، وكيف أن موجة “الإسلاموفوبيا” لا تستثني مسلما ولو كان طفلا، فقد قبضت المباحث الأمريكية المسماة مكتب التحقيق الفدرالي “إف بي آي” على طفل مسلم رسم طائرة، وقالوا إنه إرهابي يريد أن يرسم بروفه، (أي نموذجا) لاختراق الأبراج الأمريكية بالطائرات!
وفي إحدى المحاكم الأمريكية قبض أحد الشهود على الشاهد الآخر، وقال هذا هو الخصم. وداخل أحد المحاكم الغربية قتلوا أحد أطراف القضية لأنه مسلم.
وبالعدل الرباني كانت المجتمعات الإسلامية أقل المجتمعات غشا وسرقة وتزويرا، أما المجتمعات الغربية فهم لحرصهم على المادة بأي وسيلة لا يتورعون عن شيء، وقد وصل بهم الحال إلى تزوير الآثار، ويقولون لك: هذه آثار فرعونية وهذه آثار بابلية، وهذا من مخطوطات “ليوناردو دافنشي”، وهذا من لوحات فلان وفلانة.
على أن النفوس المريضة تكره العدل إلا إذا وافق هواها، وقد حذر ابن الوردي ابنه من تولي القضاء قائلا:
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
والمسلمون بالعدل لهم موقفهم المتميز فلا يتبعون الدعاية النازية ولا دعاية الحلفاء بل يقومون بالعدل مع هذه وتلك، أما الأمريكان فيريدون منا أن نعد هتلر شيطانا رجيما وروزفلت ملكا رحيما، ولو كانت محاكمات “نورمبرغ” إسلامية لاختلفت أحكامها !
وعلى كل من رضي تولي عمل له علاقة بالظلم أن يوطن نفسه على الاتهام بالظلم، كمن يعمل في القضاء أو في السجون أو في الشرطة وما أشبه ذلك بأن يتقي الله ويراعي وجهه.
وليعلم الإنسان أن العدل قد يتركه بلا أصدقاء، قال بعض السلف “إن قول الحق لم يدع لي صديقا”.
المصدر
كتاب: “المسلمون والحضارة الغربية” للشيخ سفر الحوالي ص 168 – 183.
اقرأ أيضا
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها تقوم على الحجة والبرهان
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها حضارة توحيدية