مما تنفرد به الشريعة الإسلامية وعملت به الحضارة الإسلامية المساواة بين أصحاب الدين الواحد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت المساواة مفقودة بين قبائل اليهود.
الميزة التاسعة: أنها حضارة المساواة
المساواة المطلقة مستحيلة شرعا وعقلا، أما المساواة فيما يمكن فيه المساواة فحق والشرع هو الفيصل بينهما.
ونحن الآن نعيش في عالم تنعدم فيه المساواة، فقد كان الناس فيما مضى ثلاث طبقات: الأغنياء، والطبقة الوسطى، والفقراء، فأصبحوا اليوم طبقتين غالبا، طبقة فاحشة الثراء، وطبقة شديدة الفقر، وانعدمت الطبقة الوسطى أو كادت.
المساواة في الميزان: بين الاستحالة المطلقة والعدالة النسبية
وقد ألف أيضا في ذلك الغربيون أنفسهم اعتمادا على إحصاءات الأمم المتحدة، أو الإحصاءات الحكومية الرسمية (انظر مثلا كتاب عالم بلا مساواة، أوضاع العالم ٢٠١٦).
والمساواة قيمة تفتقر إليها البشرية اليوم، فانظر مثلا كيف يعامل الأمريكيون البيض الأمريكيين السود والملونين، وكيف قال “نتنياهو” أن بعض الأسرى لدى حركة حماس من يهود الحبشة، الأمر الذي فجر مظاهرات عنيفة في تل أبيب وغيرها، وذلك عكس ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع بلال الحبشي الذي علت درجته فوق أبي سفيان المنافي القرشي زعيم المشركين في الجاهلية، وعكس إذنه صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا في مسجده الشريف وأن تزفن فيه نساؤهم.
النموذج الإسلامي: المساواة في القيمة والتفاضل بالتقوى
وقد علمنا تبارك وتعالى أصل المساواة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات ١٣].
وقد كان عطاء أسود نوبيا، وكان ممطور أبو سلام حبشيا، وقال زين العابدين رضي الله عنه: “إن الله كتب الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا، وكتب النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا”.
وقال تعالى عن المسجد الحرام وبيته المعظم: (وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِی جَعَلۡنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَاۤءً ٱلۡعَـٰكِفُ فِیهِ وَٱلۡبَادِۚ) [الحج :٢5].
المقارنة التطبيقية: مساواة الإسلام مقابل عنصرية الغرب
وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم لآدم وآدم من تراب). وقال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) فقارن ذلك بعنصرية “ترامب” وما سجله عمر كتنا الأمريكي في رواية “الجذور”، وما كتبه :ألبرت إ.كان” في “مصرع الديمقراطية”، وما كتبته “هاربيت ستو” في “كوخ العم توم”، وما ذكره الرئيس كارتر من تأصل العنصرية في المجتمع الأمريكي، وهب أن “ترامب” الأصولي العنصري أخفق في الانتخابات ولم يصوت له إلا ٤٠% من الأمريكيين أليس ذلك كثيرا؟
وبالمساواة الإسلامية بين العروق المختلفة واعتبار التقوى هي سبب الامتياز الوحيد أصبح سلمان الفارسي وبلال الحبشي أعلى درجة من أبي سفيان وسهيل بن عمرو وأمثالهما ممن كانوا سادة معظمين في الجاهلية، وأصبحت القومية دعوى جاهلية، وأصبح التفاخر بالأنساب من أمور الجاهلية.
ولما جاء رجل إلى النبي الله وسأله عن أبيه فقال: (في النار)، تألم الرجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبي وأبوك في النار).
ولما استأذن بعض كبار قريش للدخول على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان فيهم سهيل بن عمرو، وأمر عمر مولاه “يرفا” أن يقدم عليهم السابقين الأولين الذين عُذبوا في الله، قال سهيل لأصحابه إن هؤلاء سبقوا وتأخرتم، فما أرى لكم إلا أن تجاهدوا، وأقسم عمر على صهيب أن يكشف عن ظهره ليرى الناس آثار التعذيب عليه.
وهكذا جعل الإسلام التقوى هي ميزان التفاضل بين الناس، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قبض قبضة من الأرض فخلق منها الناس فكان منهم الأبيض والأحمر والأسود بحسب تلك الطينة.
الممارسات العنصرية في الغرب والتعامل مع العرقيات
فإذا تساوت الفرص ظهرت الفروق الحقيقية بين البشر، تقول الاحصائيات في أمريكا إن الطلبة الزنوج أكثر تفوقا من زملائهم البيض.
فلا عرق أبيض آري متحضر يكون منه “واسب” ولا أفارقه سود ولا مكسيكيين ملونين لاتين، وإنما أهل الحق في الإسلام سواء، ومن حق أن اليهودي أن يقاضي أمير المؤمنين ويجلس معه في مجلس الحكم، والعامل اليماني في ديترويت خير من العاطل الأبيض في واشنطن دي سي، ويحق للبروتستانتي الأسود في الإسلام أن يكون قسيسا في كنيسة بروتستانتية بيضاء، وإذا كان كاثوليكيا فإنه من حقه أن يكون قسيسا لكنيسة كاثوليكية بيضاء، والمساواة في الحقوق لا تعني المساواة في الأرزاق كما يقول الشيوعيون، ولا يلزم منها سلب الملكية الفردية قهرا وإنما المساواة عمل مشكور يثاب فاعله لوجه الله.
المساواة بين أصحاب الدين الواحد
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا جمعوا متاعهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بالسوية، أولئك مني وأنا منهم).
ومما تنفرد به الشريعة الإسلامية وعملت به الحضارة الإسلامية المساواة بين أصحاب الدين الواحد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت المساواة مفقودة بين قبائل اليهود.
وكان بنو النضير قد قهروا بني قريظة في الجاهلية، وجعلوا دية القرظي خمسين وسقا، بينما دية النضيري مئة وسق، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديتهما سواء، والغرب حتى اليوم لا يعرف المساواة بين البشر، فـ”بلير” اعتذر لقتل بعض الجنود البريطانيين، ولم يعتذر لمقتل الألوف من العراقيين، فالقتيل الغربي الواحد، كما حدث في قصة “ريجيني” الإيطالي، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها لأجله، ويسكتون عن آلاف المصريين الذين أحرقهم السيسي في رابعة والنهضة أو حكم عليهم بالإعدام أو عذبهم سرا أو اختطفوا قسرا، والأمريكي الأسود لا يكون قسيسا لكنيسة بيضاء، وإن كان مثلهم في الدين.
ازدواجية المعايير: قدسية الحياة الغربية مقابل حياة الآخرين
ويذهب الغربيون وفودا إلى غزة لمقابلة قادة حماس من أجل إطلاق أسير يهودي واحد، ولا يذكرون آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولكن وفد حماس في المفاوضات كان أذكى منهم، لا سيما حين قال: إن “شاليط” أسلم، فصدم الغربيون صدمة شديدة.
وفي مقابل المعاملة الحسنة التي اعترف بما “شاليط”، تجد المعاملة السيئة للأسرى في سجون الاحتلال، الأمر الذي يضطر الأسرى للإضراب عن الطعام مددا تفوق المدة التي أضر بها أحد المناضلين الإيرلنديين، وملأوا الدنيا ضجيجا لأجله.
وأصبح الاهتمام بالغربي كأنه – عرف دولي سائد- حتى أن الخطوط السعودية حملت بعض السواح الألمان مجانا لما تعطلت بهم السفينة في البحر الأحمر، ولو كانوا آسيويين أو أفارقة ما نظرت إليهم، بل إن هيئة كبار العلماء في السعودية تستنكر ما يقوم به المسلمون في سينما باريس ولا تستنكر حصار غزة واعتداءات اليهود المتكررة على المسجد الأقصى، ولا زيارة المدعو “أنور عشقي” لإسرائيل، ومقابلته لوزراء فيها، وقبله كان إياد مدني قد زارها ومر الأمر بسلام. وفي أيام الفاروق رضي الله عنه لطم أحد ملوك غسان أعرابيا فاشتكي إلى عمر، فقال عمر للغساني: القصاص، فهرب إلى ملك الروم، وقال: كيف يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟
ونحن نأسف لمقارنة المسلمين بالكفار والمساجد بالمسارح، ولكن هذا هو واقعنا اليوم!
المصدر
كتاب: “المسلمون والحضارة الغربية” للشيخ سفر الحوالي ص 187 – 190.
اقرأ أيضا
من خصائص الحضارة الإسلامية: القيم الخاصة والمعايير المستقلة
