إنً أنظمة الإسلام سواء ما كانت تنظم علاقة العبد بربه كالصلاة والصيام، أو ما ينظم علاقة العبد بغيره مثل البيوع والنكاح والسياسة، أو ما ينظم علاقة العبد بنفسه كنظام الأخلاق، جميع هذه الأحكام منبثقة من العقيدة موصولة بها، وهي خاصية لعقيدة التوحيد.
قيام الحياة على أساس التوحيد
يقول سيد قطب: ” على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها، وقيام الحياة على أساسها، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء. وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة. فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة”11 – انظر: قطب، في ظلال القرآن، (6/4004)..
ويقول في موضع آخر: ” وعبادة الله وحده منهج كامل للحياة، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس ومن ثم ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور، فيقوم منهج للحياة خاص. منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية، وإلى القيم التي يقررها الله للأحياء والأشياء”22 – المصدر السادس، (6/3771)، وانظر: ذات المصدر، (1/281، 5/2822، 6/3893)..
الإسلام: شريعته هي عقيدته
لقد لاحظ سيد قطب أن عرض الأحكام العملية في كتاب الله تُعرض موصولة دائما بالله تعالى وهو ربط بحقيقة العقيدة الكبرى الإيمان بالله.
يقول: ” إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة. بل إن شريعته هي عقيدته، إذ هي الترجمة الواقعية لها، كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني”33 – المصدر السابق، (3/1216)..
وعند الآيات الواردة في سورة البقرة التي تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة، والرضاعة والحضانة، يقول سيد قطب: ” هذه الأحكام لا تذكر مجردة – كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون – . . كلا! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية؛ وأصلاً كبيراً من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي. وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة. موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس، ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان”44 – انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (1/236)..
ارتباط المعاملات بالعقيدة
وعند قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 152]، قال: ” وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف، والسياق يربطها بالعقيدة؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله. ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة، وعلاقتها بكل جوانب الحياة…ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة، للدلالة على طبيعة هذا الدين، وتسويته بين العقيدة والشريعة، وبين العبادة والمعاملة، في أنها كلها من مقومات هذا الدين، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل”55 – المصدر السابق، (3/1233)..
الدين وحدة لا تتجزأ: تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية
ومن هذه الطبيعة لعرض الأحكام موصولة بالعقيدة في كتاب الله، يخلص سيد قطب الى نتيجة مفادها: ” هذا الدين، إنه وحدة لا تتجزأ . . تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية . . كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛ وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة: عبادة الله الواحد”66 – المصدر السابق، (1/164)..
وفي نفس المعنى يقول: ” ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية، عن الشعائر التعبدية، عن القيم الخلقية، عن الشرائع التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي. وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة؛ ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله”77 – المصدر السابق، (1/400)..
الاقتران الدائم بين الايمان والعمل الصالح
ثم يقف سيد على الاقتران الدائم بين الايمان والعمل الصالح عند ذكر العمل والجزاء في كتاب الله، وعدم قبول العمل إلا إذا صدر عن إيمان، وهو نوع من أنواع الأربطة الوثيقة القائمة بين الإيمان والعمل. فعند تفسير قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء : 94]، قال: “هذا هو قانون العمل والجزاء، لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الأيمان . . ولا بد من الأيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته … والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر . . والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق. ومن ثم يقرن القرآن دائماً بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان”88- انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (4/ 2397)..
وعند قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} ( البقرة: 82). قال: “فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح، وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان . . وما أحوجنا – نحن الذين نقول أنا مسلمون – أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح . فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض، وشريعته في الحياة، وأخلاقه في المجتمع، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني كأمانيّ اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان”99 – المصدر السابق، (1/86)..
شرط الإيمان وحدّ الإسلام
ويذهب سيد قطب الى آفاق أبعد من كون النظام منبثق من العقيدة، فهو يدلل على أن الارتباط بين العقيدة بالنظام كارتباط الشرط بالمشروط، أو بمعنى آخر يجعل الطاعة والتنفيذ– ومنها رد الأمر الى الله ورسوله عند النزاع والتحاكم اليهما – شرطاً للإيمان متى وجد الإيمان وجدت الطاعة، ومتى فقد الإيمان فقدت الطاعة1010- انظر: المصدر السابق، (2/687-697).، فيقف عند قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]، فيقول: “ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول. اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام…1111 – انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (2/696)..
وعند قول الله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، يقول سيد: “هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل . وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان. ولا يصاحبه الإيمان”1212- المصدر السابق، (2/762)..
وهذا الذي ذهب إليه سيد قطب هو مذهب علماء كثر، يقول ابن كثير في تفسير الآية السابقة: “شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذُكْرَانهم وإناثهم، بشرط الإيمان”1313 – ابن كثير، إسماعيل بن عمر، (ت: 774 هـ)، تفسير القرآن العظيم، المحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1420هـ -1999 م، 2/ 421.. وهو قول القرطبي1414 – انظر: القرطبي ، محمد، (ت: 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، المحقق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، بدون ذكر الطبعة، 1423 هـ/ 2003 م، 5/399. وابن عاشور1515 – انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/539، 4/62. وغيرهم الكثير.
لهذا نجد سيد يسجل اعتراضاً على الإمام محمد عبده1616 – انظر: محمد عبده، تفسير المنار، (5/ 86-87). والشيخ المراغي1717- انظر: المراغي، أحمد مصطفى، (ت: 1952م)، تفسير المراغي، دار النشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر، بدون ذكر السنة والطبعة، (30/220). في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ، 8]، فقالوا بعموم هذا النص فيشمل المسلم وغيره، ولم يلتفتوا إلى سائر النصوص التي تجعل الإيمان شرط قبول الاعمال1818 – قطب، في ظلال القرآن ، 2/762..
وحسبنا هذه الارتباطات في كتاب الله بين العقيدة والعمل كما بينها سيد حتى نحكم بهذه الخاصية للعقيدة الإسلامية، التي لا ترضى بالإيمان أن يبقى سجين الصدور، وإنما لا بد له من ترجمة واقعية في مجالات الحياة المختلفة، حتى يظهر أثره الإيجابي في سلوك المؤمنين وفي تحديد طبيعة مجتمعهم القائم على أساس التوحيد.
الهوامش
1 – انظر: قطب، في ظلال القرآن، (6/4004).
2 – المصدر السادس، (6/3771)، وانظر: ذات المصدر، (1/281، 5/2822، 6/3893).
3 – المصدر السابق، (3/1216).
4 – انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (1/236).
5 – المصدر السابق، (3/1233).
6 – المصدر السابق، (1/164).
7 – المصدر السابق، (1/400).
8- انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (4/ 2397).
9 – المصدر السابق، (1/86).
10- انظر: المصدر السابق، (2/687-697).
11 – انظر: قطب، في ظلال القرآن ، (2/696).
12- المصدر السابق، (2/762).
13 – ابن كثير، إسماعيل بن عمر، (ت: 774 هـ)، تفسير القرآن العظيم، المحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1420هـ -1999 م، 2/ 421.
14 – انظر: القرطبي ، محمد، (ت: 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، المحقق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، بدون ذكر الطبعة، 1423 هـ/ 2003 م، 5/399.
15 – انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/539، 4/62.
16 – انظر: محمد عبده، تفسير المنار، (5/ 86-87).
17- انظر: المراغي، أحمد مصطفى، (ت: 1952م)، تفسير المراغي، دار النشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر، بدون ذكر السنة والطبعة، (30/220).
18 – قطب، في ظلال القرآن ، 2/762.
المصدر
كتاب: “خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها من خلال تفسير الظلال لسيد قطب” فراس فريد أبو بكر، ص70-73.
اقرأ أيضا
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شريعتنا هي كل ديننا