37 – مفهوم 10: الاهتمام بالآثار بين الاتعاظ والشرك
تُولي الدول اليوم آثار الأمم السابقة عناية فائقة، فتُعظِّمها وتُحييها، وتجعلها مجالًا للسياحة والزيارة، وتخصص لها المتاحف. وتصنف هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة كثيرًا من آثار الأمم ومناطقها على أنها من التراث العالمي الذي تحميه ما تسمَّى بالقوانين الدولية. فما هو الموقف الصحيح من هذه الآثار؟
ليُعلم أولًا أن الله تعالى إنما قصَّ علينا أخبار من سبق من الأمم وأبقى آثار بعضهم لنعتبر بذلك؛ فلا نعصي الله، ولا نكذب الرسل كما فعلت هذه الأمم؛ قال تعالى: (وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثِينَ) [القصص:58]، وقال تعالى عن قوم صالح لما مكروا وعقروا الناقة: (فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥١ فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ) [النمل:51-52]، وقال تعالى لفرعون عند هلاكه: (فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ) [يونس:92].
أما أن تُتَّخذ هذه البيوت والمساكن والآثار مزارًا وسياحة للترفيه فتلك سمة الغافلين ومن لا يأخذون العبر من الأحداث؛ فقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صحابته على مدائن صالح في غزوة تبوك فقال لهم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم) [رواه البخاري (3381)، ومسلم (2980)]، وفي رواية للبخاري في آخر الحديث: (ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي) [البخاري (4419)].
وأما ما يكون من هذه الآثار ذريعة للشرك -ككثير من الأصنام الباقية، والمشاهد والقبور المشرفة، والأضرحة والمزارات التي تتخذ كلها حاليًا وسيلة للشرك بالله تعالى- فالواجب هو عدم الاحتفاء بها، بل إزالتها وتحطيمها سدًّا لذريعة الشرك، ولنقتدي في ذلك بنبي الله إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أمة وأمرنا بالاقتداء به؛ قال تعالى: (إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٠ شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ) [النحل:120-121]، ثم قال بعدها: (ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) [النحل:123]، وإبراهيم عليه السلام لما رأى قومه يعبدون الأصنام حطمها: (فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا)[الأنبياء:58] أي: قطعًا صغيرة. وتسوية القبور وتحطيم الأصنام هو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهيَّاج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» [رواه مسلم (969)، وأبو داود (3218)، وأحمد (741)، وغيرهم].
فالواجب على دعاة الإسلام أن ينكروا الاحتفاء بالأصنام والآثار، وينبهوا المسلمين إلى خطورة ذلك، وإن اعترض من اعترض، وإن هاج وماج ما يسمى بالمجتمع الدولي رفضًا لذلك؛ فلا سكوت أو تسامح -ولو يسير- في أمور الشرك، وقد حدث مثل ذلك في أول هذا القرن الميلادي حين حكمت حركة طالبان أفغانستان أول مرة ففجَّرتْ وقتها الأصنام الضخمة المنحوتة في الجبال فقامت الدنيا عليهم ولم تقعد، وأنكرت الأمم المتحدة ذلك بشدة، فلما ذهب وفد من علماء المسلمين هناك لتقصي الأمور وبصَّرتهم حركة طالبان بأن هذه الأصنام تعبد حقيقة من دون الله من عوام الناس، وتطلب الحوائج منها، وتعلق التمائم على الأشجار عندها، فعندها لم ينكر عليهم العلماء وأيدوا فعلهم.
وإنما ننكر الاحتفاء بالأصنام لكونها ذريعة للشرك كما أسلفنا ولأسباب أخرى مثل:
1 – أن العبادة ليست محصورة في الركوع والسجود والدعاء؛ فتعظيم ما حقه التحقير هو نوع من العبادة؛ وهل وضع الأصنام في المتاحف إلا احتفاء بها وتعظيم لها؟!
2 – ولو سلمنا أن هذه التماثيل تراث إنساني، فليس كل تراث يحترم ويعظم؛ فلم يعبد الكفار أصنامهم إلا لأنها تراث خلَّفه الآباء والأجداد، فعظموها وعبدوها.
3 – في تعظيم وسائل الشرك وآثار الأمم الهالكة تشجيع لزيارتها والسياحة إليها، وقد نُهينا عن دخول أماكن المعذبين، وأُمِرنا إن اضطررنا لدخولها أن نجتازها باكين مسرعين خشية أن يصيبنا ما أصابهم كما أسلفنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
4– وأخيرًا: نقول لمن يتمسك بتعظيم هذا التراث ويدَّعي أن ذلك عمل حضاري: أأنتم أعلم أم رسولنا صلى الله عليه وسلم حين بعث عليًا رضي الله عنه بتحطيم كل ذلك؟! فإن أبى المتخاذلون ذلك وسمُّوا عدم الاحتفاء بهذه الآثار تخلفًا حضاريًّا وفكرًا جامدًا، وأصروا على تقليد الغرب في ذلك نحيلهم على ما فعلته النمسا حين هدمت بيت هتلر في يوليو 2016م، وعلَّلتْ ذلك بأن اليمين المتطرف اتخذه مزارًا ملهمًا لأفكارهم، فهل النمسا وهابية أو إرهابية؟! وكذلك هدم الإيطاليون منزل موسوليني وأدًا للتطرف اليميني ومظاهره، أفلا يكون المسلمون أولى بالتمسك بشرائع دينهم وتحطيم ذرائع الشرك وامتثال أمر نبيهم؟! اللهم اهد أمة الإسلام، وأزل عنها ما وقعت فيه من غربة بلغت بها حد أن يفتخر البعض بانتسابه لجاهلية قومه الأولين؛ كما يفعله بعض المصريين من تسمية أنفسهم بالفراعنة ويفتخرون بحضارتهم رغم أن فرعون هو من أعظم طواغيت العالم، وكما يفتخر بعض الفلسطينيين بالانتساب إلى العماليق بقايا عاد ويقول: «نحن شعب الجبارين» قاصدًا بذلك من قال عنهم بنو إسرائيل لموسى عليه السلام حين أُمِروا بدخول بيت المقدس: (قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ) [المائدة:22].
المصدر:كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة – إعداد نخبة من طلبة العلم