إذا كان في التاريخ وقائع تشابهت مع وقائعنا، نفس العدو بنفس المقصد، ونفس الحال منا؛ الفكري العقدي، والسياسي والاجتماعي بسلبياته التي تشابهت فيها الحركة الباطنية مع التوجهات العلمانية اليوم، فمن الحكمة والحزم إلقاء النظرة واقتناص العبرة..
هل يعيد التاريخ نفسه؟
سؤال يتكرر وتختلف الإجابة بين النفي والإثبات..
والحقيقة أن الحوادث تتشابه ولكنها لا تتكرر بالصورة نفسها وبمقدماتها ونتائجها.
أوضاعنا اليوم سواء كان الاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة أو الاحتلال الباطني المجوسي لجزء كبير من بلاد الشام..
هذه الأوضاع فيها شبه كبير بالأوضاع التي كانت في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، فالفرنجة (الصليبيون) احتلوا سواحل الشام وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، والعبيديون (الفاطميون) سيطروا على مصر وتمددوا إلى بلاد الشام واليمن.
[اقرأ المزيد: أوهام وقحة.. القدس عاصمة اسرائيل]
مقدمات المقاومة للغزو والاحتلال
فما هي مقدمات المقاومة لهذا الغزو وهذا الاحتلال..
وما هي النتائج الطيبة التي كان من آثارها اندحار الفريقين: القادم من بعيد للاحتلال وإشعالها حربا مقدسة ضد المسلمين، والداخل المنافق من الباطنيين.
كانت البداية من العلماء، ومن خلال المسجد، وكان أول المتصدّين في الشام لاجتياح الفرنجة هو الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي (421 – 500)هـ الذي اتخذ من جامع دمشق مركزا لتدريسه وبث آرائه.
ومن هذا الجامع أسس قاعدة للمقاومة عمل فيها تلامذته في سلسلة متواصلة حتى وفد نور الدين محمود على دمشق واتخذها عاصمة له.
كان الفرنجة على أبواب أنطاكية عندما بدأ السلمي يناشد المسلمين الوقوف صفا واحدا متحدا، ومذكّرا مما عندهم من القوى والموارد البشرية لبدء الجهاد الدفاعي عن المسلمين وأراضي المسلمين.
[اقرأ المزيد: مفتاح القدس هو نفس مفتاح المنطقة]
رسائل العلماء الى السلطان
ويكتب الإمام ابن عساكر إلى السلطان نور الدين محمود:
ولست تُعذر في ترك الجهاد وقد أصبحت تملك من مصر إلى حلب
فطهر المسجد الأقصى وحوزته من النجاسات والأشواك والصلب
كانت رؤية السلمي لأهداف الحملة الصليبية واضحة، فهي حرب دينية وليست جموعا جاءت للسلب والنهب كأنه ليس لها هدف آخر، كما يحاول البعض اليوم تفسيرها بأنها حروب اقتصادية جاءوا لبلاد الشام لما فيها من الخيرات.
والسلمي يقول هذه حروب شفاء لصدورهم الحاقدة وكرد على الفتوحات الإسلامية لبلاد الروم والأندلس.
إنشاء المدارس السُنّية
بعد هذا التأسيس للجهاد والتنظير له والدعوة إليه كانت الخطوة العملية هي إنشاء المدارس السنية..
ففي الشام تولى ذلك السلطان نور الدين محمود، وفي مصر كانت البداية من الاسكندرية، وقد تم ذلك على يد علماء قصدوها من المغرب مثل أبي بكر الطرطوشي.
وفي المشرق مثل أبي طاهر السلفي، وأسسوا فيها مدارس كان لها أثر كبير في مشروع الإحياء السني وحركة الجهاد ضد الصليبيين.
وفي القاهرة بدأ صلاح الدين إصلاحاته وحتى قبل القضاء النهائي على الفاطميين، وذلك بتأسيس عدد من المدارس على المذاهب الأربعة..
بني أولها للمذهب الشافعي، وفي سنة 566هـ أنشأ مدرسة للمالكية بجوار جامع عمرو بن العاص، وأسس ابن أخيه تقي الدين عمر مدرسة أخرى للشافعية، وساهم وزير صلاح الدين عبد الرحيم البيساني العسقلاني (القاضي الفاضل) بمدرسة من أغنى هذه المدارس.
وهذه المدارس شبيهة بالمدارس التي أسسها نور الدين محمود في الشام على غرار المدارس النظامية التي أنشأها وزير السلاجقة نظام الملك.
[اقرأ المزيد: من نحن؟ وما لنا وللأقصى والقدس؟]
وضوح الرؤية .. ومخاطر العدو الداخلي
كان صلاح الدين ووزيره القاضي الفاضل على علم بالعدو الداخلي الذي يتآمر مع العدو الخارجي، وكانا على علم أن من أسباب النصر معرفة العدو على حقيقته بلا تزييف ولا غفلة.
وإن رسائل القاضي الفاضل عن صلاح الدين إلى السلطان نور الدين محمود وإلى الخليفة العباسي في بغداد تدل على الوعي الكامل لخطر الباطنيين وأنهم أعداء كما الصليبيين، والأمر الخطير هو تعاون الطرفين على أهل السنة..
ولذلك فإن الخطوة الأولى هي تطهير الأرض من أرجاس العدو الداخلي والانتهاء من نفاقه ودسائسه وجاءت الخطوة الأخيرة حين قضى صلاح الدين على المؤامرات من حاشية القصر وجند الفاطميين ودارت المعارك في شوارع القاهرة بين الفرقة العسكرية التي مع صلاح الدين وبين المتآمرين من جند الملك العبيدي (العاضد) انتصر فيها صلاح الدين وتمهدت الأمور لإنهاء هذه الدولة التي حكمت مصر أكثر من مئتي سنة.
رسائل لها دلالة
رسالة القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود
جاء في رسالة من القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود:
ولم يزل (صلاح الدين) يتوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام.
وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج خذلهم الله، التي يوسعون لهم فيها المطامع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد الخصوم(1)
رسالة القاضي الفاضل إلى الخليفة العباسي
ومن رسالة إلى الخليفة العباسي يبين فيها القاضي الفاضل أن القضاء على الفاطميين هو سلسلة لتوحيد أهل السنة والقضاء على الانقسام في العالم الإسلامي، والتخلص من الإلحاد والفجور يقول:
والذي أجراه الله على يد المملوك(2) والمماليك التي دوخها وسنن الضلال التي نسخها وعقود الإلحاد التي فسخها وحجج الزندقة التي دحضها؛ فلله عليه المنَّة فيه إذ أهّله لشرف مشهده وما فعله إلا لوجهه، ويد الله كانت عون يده(3)
رسالة أخرى إلى الخليفة العباسي
ومن رسالة أخرى إلى الخليفة العباسي يوضح فيها أوضاع مصر في عهد الفاطمية وكيف كان حال أهل السنة:
وإن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة..
هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة وتعطيل للفرائض، وكفر سُمّي بغير اسمه وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضررين المنافق والكافر(4)
[اقرأ المزيد: الفرق الباطنية … المنهاج والتاريخ]
استئناف الفتوح، والظفر في حطين
إذا لا بد من إزالة الخطر الباطني أولا وفي عام 576هـ أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية في مصر وعادت البلاد لأهل السنة وتوحدت الشام ومصر “وتوالت الفتوح غربا ويمنا وشاما، وصارت البلاد بل الدنيا حرما حراما، فأضحى الدين واحدا بعد ما كان أديانا والبدعة خاشعة والمذلة في شيع الضلال شائعة”(5)
وفي عام 583هـ كانت موقعة حطين التي انتصر فيها المسلمون نصرا عظيما على الصليبيين.
وبعدها تم استرجاع القدس واسترجاع الأقصى وبقية المدن الساحلية، وأصبح واضحا أن طريق الإسلام هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى والطاقات.
………………………………………
هوامش:
- هادية الدجاني: القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين / 147
- يقصد صلاح الدين. وكانت هذه طريقة في المخاطبات.
- القاضي الفاضل ودوره في دولة صلاح الدين /151
- المصدر السابق / 153
- المصدر السابق /152
اقرأ أيضا: